مختارات صحفية :
ســوسيولـوجـيا الـعـنـف خلل في المستوى النفسي والاقتصادي والاجتماعي
شهاب احمد الفضلي
الباعث الاساسي لانطلاق العنف والعدوان والسلوك التدميري لدى الناس، هو طاقة انفعالية تشحذ الطاقة الذهنية لاستمرار الحياة، وهي خالية دائما من حسن النية والمرونة، يستمدها الفرد من مؤسسات الضبط الاجتماعي القائمة على تنشئته وتأهيليه لتكوين سلوكه الاجتماعي. فاذا كانت الاتجاهات الفكرية المتطرفة هي السائدة في مؤسسات الضبط الاجتماعي
كالسلطة السياسية والدين والمدرسة والاسرة.. الخ فانها تروج حتما لموضوعة العنف وبذلك فانها تخلق بالضرورة، جيلا يتسم سلوكه بالعدوانية والعنف والتطرف، من خلال تجييش غرائز العدوان والتدمير والهدم..
ويرى غوستاف لوبون ان الفرد المنخرط في الجمع يتصف بصفات ابرزها ما يلي:
1- اكتسابه شعورا بالقوة يتيح له الاستسلام لغرائزه، اي لو كان وحده لما ظهرت هذه الغرائز، وتكون اكبر لانعدام الرادع بحكم ان الجمع غفل وكونه لا مسؤولاً، كما ان انصهار الفرد في الجمع يجعله في حل من اسر ميوله اللاشعورية المقموعة والتي هي تظاهرات لذلك اللاشعور الذي تختزن فيه بذور ما هو رديء في النفس البشرية، ويجري فيه اسكات الضمير، وتلاشي الحس بالمسؤولية، مما يعني ان الحصر الاجتماعي هو الذي يؤلف ما يسمى بالضمير الاخلاقي.
2- العدوى العقلية، ذات الطبيعة التنويمية التي ليس لها من تفسير، فالاحساس والعقل لدى الجمهور معد لان يضحي معه الفرد بسهولة كبيرة بمصلحته الشخصية للجميع.
3- قابلية الايحاء بالتأثير، وهي قابلية لا تعدو العدوى المشار اليها ان تكون نتيجة لها، وتؤدي الى فقدان الشخصية الواعية وخضوع الفرد الى الموجه الذي افقده شخصيته ليرتكب من الافعال كل ما هو معاكس لطبعه وعاداته.
4- ويعتقد فرويد ان الدافع المؤدي لتجاوز الاخرين وممارسة العنف يعمل بشكل غريزي على اساس تهديد الاخر، وهو ما يتفق وغريزة حفظ الذات..
العنف كظاهرة اجتماعية
ان توصيف العنف كظاهرة فردية او مجتمعية لا يحمل الا معنى واحدا، ان هذا السلوك يعبر عن خلل على المستوى النفسي او الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي (الفرد والمجتمع) دفعه هذا السياق الذي يعانيه الى استخدام العنف متوهما ان خيار القوة سيوفر له كل متطلباته واهدافه والحقيقة ان استخدام العنف في العلاقات الاجتماعية تحت اي مسوغ كان يعد انتهاكا صريحا للنواميس الاجتماعية والمؤسسات الضابطة التي وضعت اعرافا وقواعد حددت نمط التعاطي والتعامل في العلاقات الاجتماعية، كون بروز العنف على المستوى المجتمعي يعني ان استخدام صانع العنف ادوات صراعية وصدامية من اجل التعبير عن فكره او رأيه يؤدي الى تصدعات مجتمعية وشذوذ عن القاعدة. لذا فاننا نجد ان العنف سلاح خطير يعمل على تقويض المكاسب الاجتماعية وتعطيل الامة والوطن لان العنف وتداعياته المختلفة سيصنع جوا وظروفا استثنائية تؤدي الى عدم الاستقرار وعرقلة السياسة الاجتماعية والتنموية.
في الكثير من البلدان ومنها العراق اصبح العنف فيها يمثل احدى ثوابت الفضاء السياسي والمجتمعي، ونجد ان العنف بتداعياته ومتوالياته الكثيرة هو احد الاسباب الرئيسة لاخفاق مشاريع التنمية الاجتماعية والسياسية لان عسكرة الحياة المدنية يفرض واقعا عاما ووحيدا هو واقع العنف والعنف المضاد واذا اردنا تكوين فكرة صحيحة عن اخلاقية ممارسي العنف (الجموع، الفئات، الطوائف ... الخ).. (لابد ان نأخذ بعين الاعتبار ان جميع المكفوفات الفردية تتلاشى وتضمحل لدى الاخر حين يجمعهم جامع الجمع، بينما تستيقظ بالمقابل الغرائز الوحشية الهمجية المدمرة المتخلفة عن الازمنة البدائية الراقدة في اعماق كل فرد (علم النفس الجمعي ـ وفرويد ص17) وهذا يعني تنحية الحقوق الطبيعية للحياة الانسانية المدنية وتحويلها الى مكبوت، اذ تنزل من ساحة العلن والتفاعل الحر بين الارادات الى اقبية الكبت، وتهرب من النور، وتدخل الى دهاليز الحرمان. هناك تتابع نموها دون مراقبة لقد مارست الحكومات السابقة في العراق ومنذ التأسيس عملية الدمج القسري للمكونات الاجتماعية ما اضفى عليها صبغة الدولة المتغربة وجعل منها عصبية جديدة تضاف الى العصبيات التقليدية، شلت نمو المشاركة الجماهيرية الا
وسع ما ادى في النهاية الى تبني مشروع (الدولة ـ الفئة) ضد مشروع (الدولة، الامة) الذي وحده القادر على الغاء السلطات التقليدية، وصهرها في بوتقة المشاركة الاشمل. ذلك ان (الدولة ـ الفئة) تحرض ضدها مختلف القوى الفئوية الاخرى التي تشعر انها مهددة في مصالحها الحيوية، ومن ثم تكون مضطرة للكفاح من اجل العنف بطرق العنف المتاحة. مما يؤدي الى عسكرة المجتمع بفئاته وطوائفه، اذ يأخذ الصراع بينهما ليصل الى اقصاء او الغاء الاخر. وهذا الصراع يقيم حواجز نفسية وايديولوجية حادة حتى فوق الارض الواحدة المشتركة والمجتمع الواحد، وهذه الحواجز تفرز حدودا مادية واستراتيجية تحول فئاتها الى ما يشبه الجيوش المعبأة بالقوة او بالفعل. بعدها تتحول الحياة الاجتماعية في نظر صانعي العنف الى حياة مريضة تكثر فيها الازمات ويضطرب السلوك الاجتماعي وتشيع ظاهرة العنف في العلاقات العامة.
ثقافة العنف
باستطاعة الانسان فعل العنف او عدمه، وسلوكه هذا مشروط ليس فقط بالقدرة على الفعل بل كونه محدداً ايضاً بالظروف التي تسمح بفعل العنف والارضية التي تساعد على انتاجه والمرتبطة بجملة من العوامل المتداخلة مع بعضها البعض”موضوعية/ ذاتية “. اذ كما هو معلوم ان طبيعة الثقافة تحدد طبيعة الفعل”اليد/ اللسان “ لتصل الى القتل والتدمير وكل اشكال العنف المادي والعكس صحيح عندما تحتضن مفاهيم كالرفق والعفو والتسامح وتقبل الاخر.. الخ . هذه الادوات تتحول الى مبشر بقيم ومضامين جديدة، مما يعني ان هناك ترابطاً عميقاً بين مظاهر العنف وادواته المستخدمة.. بما ان العنف ظاهرة اجتماعية واقعة تجد تفسيرها في التاريخ الانساني ذاته تتمهظر باصطراع الطاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والذي هو نزوع طاقات القوة في تحقيق”وجودها المتعين “ القائم على تغالب الارادات وعلى هذا الاساس فان الفرد او الجماعة يكتسب السلوك العنفي او اللاعنفي من خلال الثقافة التي توجه المجتمع وتحكمه من خلال ادوات الضبط العنفي ومعايير السلوك.
العوامل المؤثرة في تأجيج العنف
عوامل دينية
ان القراءة الدينية او الفهم الديني لجماعات العنف والتطرف هي عامل من عوامل جنوح هؤلاء ان الاخذ باسلوب العنف كما لا ينبغي ان يفهم منه ان العنف يجد جذوره او مرجعه في العقيدة الاسلامية على نحو ما يذهب اليه البعض بل ان معناه ان نسق القيم المتشبع بالدين وجد نفسه احياناً في صراع مع منظومات جديدة من القيم اصبح من العسير التكيف معها. هذه الرؤية المتطرفة تتغذى من جملة الاختيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في المجتمع التي تركت تأثيرات عميقة في البيئة الاجتماعية والثقافية ودفعت الكثير الى الانكفاء والعزلة وبناء حواجز اجتماعية خارج الفضاء العام.
هذه العزلة تعبر عن رؤيا دينية ضيقة تسوغ هذا الخيار وتشرع لعملية الرفض بكل صورها. مما يعطي انطباعاً حقيقياً ان الدين لا علاقة له بالامر الا من حيث ما هو نصوص ووقائع قابلة للتأويل. واذا كان ثمة خلل فالبحث ينبغي ان ينصرف الى صاحب التأويل والى ظرف التأويل ذاته.
ومما يعمق الخلل في الفضاء العراقي هو طبيعة الثقافة السائدة وخياراتها العامة، حيث انها وبحكم ما تعرضت له مكونات التشكيلة الاجتماعية العراقية من تخريب وتدمير جعل منها ثقافة ترفض التعددية وحق الاختلاف وتكتفي من التقدم الانساني والحداثة بالقشور وتنتزع الى الاختزال والاستبداد.
ومن الاهمية التذكير ان المجتمع العراقي ليس فريداً في تركيبته الاجتماعية والثقافية القائمة على التنوع والتعدد فهناك الكثير من المجتمعات اذ لا يخلو مجتمع من هذا التنوع والتعدد. الا ان ما يميز مكونات التشكيلة الاجتماعية العراقية، ان هذه المكونات المتنوعة حافظت من الداخل على انغلاقها وانكفائها، فحدت بذلك من امكانات التفاعل والتعايش.وادى ذلك الى بروز ظاهرة العنف الطائفي بشكلها الحالي والمتأتي من طبيعة الرؤية الدينية التي تنظر الى الواقع الراهن برؤية تشاؤمية سوداوية ناتجة عن انغلاقها، جعل منها قابضة على الحقيقة. هذه الرؤية تختزل امكانية هائلة في ممارسة الاقصاء والعنف تجاه المختلف سواء كان فرداً او جماعة، فالجماعات التي كفرت الدولة والمجتمع وحاربت الجميع بحجة الخروج عن الدين، تحمل رؤية احادية ضيقة للحياة والمجتمع تقود عبرصيرورات نفسية وعقدية لممارسة العنف تجاه الاخرين. لكونها تلغي ما عداها وتكون حاضنة للعنف والارهاب.
عوامل اقتصادية
من الحقائق الموضوعية التي لاجدال فيها ان اخفاقات التنمية والتفاوت الطبقي وتدني مستويات الحياة والبطالة تساهم في بروز ظاهرة العنف والجريمة في اي مجتمع كما ان اغفال الاسباب الاقتصادية وما تؤدي اليه اجتماعيا يعد قراءة مسطحة وغير واقعية اساسا لما للعامل الاقتصادي من تأثير في عملية الحراك الاجتماعي وسلوك الافراد والجماعات وتعثره يؤدي الى بروز ظاهرة العنف ذلك ان آليات العنف تتأثر حركتها بما يتناسب ومستويات الواقع الاقتصادي وتوزيع الثروات فزيادة نسب العنف والجريمة ترتبط بشكل كبير بازدياد مظاهر الفقر والفاقه وحدوث الازمات الاقتصادية وقد دللت الدراسات الاجتماعية التي اجريت في انحاء مختلفة من العالم على ان نسبة الجرائم والعنف في الطبقات ذات الدخول الضئيلة اعلى منها في الطبقات ذات الدخول العالية الثروات فالصلة بين الفقر والجريمة متأتية من ان الفقر يحول دون تلبية حاجات الفرد الاقتصادية فيضطر الى ارتكاب الجريمة، كما ان احساس الفرد اجتماعيا بمكانته المتدنية يجعله متذمرا وناقما على المجتمع وينتج الفقر حالة صحية متدهورة وسوء تغذية وحرمانا مؤلما وكبتا شديدا يجعل الفقير يشك في صلاح القيم الحاكمة التي تنظم شؤون المجتمع وعلاقاته
.يتعلم الفرد السلوك العنفي من اتصاله بجماعات ذات قيم متباينة ومختلفة وجودها يؤشر حالة من التفكك الاجتماعي والقيمي نتج عن انعدام المقاييس التي توجه سلوك الافراد في المجتمع بشكل عام وانحسار دور مؤسسات الضبط الاجتماعي وعدم فاعليتها هذا الخلل اوجد مساحة لبروز انواع جديدة عن السلوك قائمة على الرغبات وخارج الضمير والاطر الاجتماعية المتعارف عليها وبما اننا نعيش في مجتمع قلق تسود فيه قيم متنافرة وتستحوذ عليه انماط من السلوك يتعذر على الفرد عدم التأثر بها مما يخلق حالة من التصادم والتنازع في الحياة الاجتماعية رغم ان البنية التحتية للعنف قائمة على تفاوتات مختلفة لكن صيرورتها مادية يومية مرهونة بتوفر بنية فوقية هي ايديولوجيا العنف وما نعنيه هو الايديولوجيا السياسية الثقافية التي تسوغ لجماعات من الناس حراكهم الاجتماعي واهدافهم وانتاجها اطرا لتعبئة الطاقات الاجتماعية والتعبير عنها وهو ما ينطبق على اي مشروع سياسي يحتاج كي ينتقل من القوة الى الفعل كما يراه ارسطو ومن الفكرة الى الواقع بلغة ماركس الى توافر درجة من التناسب والتوافق بين الشروط الموضوعية والشروط الذاتية.
فالتدهور الاقتصادي يقود الى تصدعات اجتماعية سياسية خطيرة توفر بدورها مستلزمات العنف في الفضاء الاجتماعي وليس غريبا ان تتحول حالات التهميش الاقتصادي الى ثورة اذا ما وجد الانسان نفسه غير قادر على توفير ادنى مستلزمات الحياة.
ان الشرائح الاجتماعية المهمشة لا تحيا حياة طبيعية والواقع الذي تعيشه يفرض عليها سلوكا مضطربا ومنحرفا ووسيلة في التعبير عن معاناته ممارسة العنف ضد نفسه والمجتمع.
عوامل سياسية
يمكن القول ان الحياة السياسية العربية والاقليمية ومنها العراق تسود فيها الانظمة الشمولية القائمة على القمع والاستبداد واستخدام العنف من قبل هذه الانظـمة ضد شعوبها ولد بدوره
عنفا مقابلا كرد فعل على الالغاء والتهميش وعدم المشاركة في صناعة القرار السياسي لهذه الشعوب انتج حفزات نفسية شكلت بتراكمها وجدانيا سلوكا عنيفا، هذا الغياب للحرية السياسية في الحياة اليومية هو اهم مخزون من التراث السياسي والاجتماعي للمنطقة والعراق وهو الشيء الوحيد الذي تتوارثه ذاكرة الاجيال على مر السنين وما حدث في العراق من ممارسات النظام السابق واستخدام العنف في اقصاء الاخرين ادى ذلك الى دخول البلاد في مأزق سياسي وامني هذا الاتجاه الخاطئ في معالجة الاشكالات السياسية ودخول النظام في حروب مدمرة وضعت الامن القومي للعراق في المزاد.
هذه الازمات والمشكلات البنيوية التي يعانيها المشهد السياسي في العراق هي امتداد لتلك المرحلة وجدت انفجاراتها بعد تفكك النظام وسقوطه فضلا عن تدخل دول الجوار والاحتلال ومساعدتهم على اشاعة انواع العنف وخصوصا منها الطائفية وما فاقم المشكلة ووفر المزيد من اسبابها ضعف الدولة الان وعدم قدرتها على تحقيق الامن كل ذلك اسهم في تمزيق النسيج الاجتماعي.ومن الحقائق التي ينبغي ادراكها معنى ان يشعر المجتمع بالغبن والاضطهاد والتهميش كون ذلك يؤدي الى فقدانه الثقة بالعملية السياسية برمتها ويترتب عليه رؤية متزنة وواعية لنماذج العنف في المشهد العراقي والتنبه الى ان العنف اداة يستعين بها القاهرون والمقهورون لغايات متباينة ومقادير مختلفة.
ولاشك ان هذه التوترات الظاهرة والكامنة واستمرارها يؤدي الى عزل الدولة عن المجتمع ويعزز بروز ظاهرة العنف وغرائز العدوان بين مكونات الحقل السياسي في مشاهد متلاحقة من العنف والاقصاء والاتهامات المجانية
والانفعالات غير المحسوبة وتناقض التصريحات التي تؤدي الى عجز العملية السياسية في التعبير عن نفسها كفعالية سلمية تنافسية
والى الحد الذي يكاد يكون فيه العنف المادي والرمزي ان يتحول الى اللغة الوحيدة التي يترجم فيها الجميع مطالبه ضد الجميع.
وعليه فان النهج السياسي المعتدل الذي يتعاطى مع الامور والقضايا السياسية والاجتماعية بعقلية موضوعية منفتحة ومتسامحة وحده القادر على ضبط نزعات العنف ومراكمة الفعل السياسي والخروج من المأزق.
عن صحيفة الصباح