عباسعبد النور:


محنته مع القرآن


أم مع عقله؟


د. إبراهيم عوض


Ibrahim_awad9@yahoo.com


http://awad.phpnet.us/

بغتة وعلى غير انتظار اصطدمتُ فى المواقع والمنتديات النصرانية المهجرية بكتاب اسمه: "محنتى مع القرآن" مطبوع على غلافه أنه منشور فى دمنهور سنة 2004م وأن مؤلفه دكتور مصرى اسمه عباس عبد النور وأنه من الكتب الممنوعة من التداول. وكانت نبرة الفرح والشماتة واضحة بل صارخة فى تلك المنتديات والمواقع على اعتبار أن صاحب الكتاب عالم دينى مسلم انقلب على الإسلام وأعلن تبرؤه منه وكُفْرَه به، وأخذ يهاجمه ويهاجم الكتاب الذى نزل على نبيه مؤكدا أنه لم ينزل من السماء، وليس ثمة إله ولا يحزنون. ولقد نزّلتُ الكتاب فى التو واللحظة على جهازى وشرعت أقرأ فيه قليلا قليلا فى بعض أيام رمضان المبارك رغم انشغالى ببعض الأعمال الشديدة الأهمية. وكنت أدوّن ما يعنّ لى من ملاحظات على ما فى الكتاب كلما قرأت شيئا يستدعى ذلك.
وأول ما عن لى من تلك الملاحظات هو: هل هناك شخص حقيقى باسم عباس عبد النور؟ فأين هو؟ وما الذى يعرفه الناس عنه فى مصر، وفى دمنهور على وجه الخصوص بوصفها المدينة التى كان يعيش فيها وتعيش فيها أسرته من قبل جيلا وراء جيل، تُخَرِّج كبار علماء الدين ومشايخ الطرق؟ لقد جَشَّمْتُ صديقا لى أن يتقصى هذا الأمر فاتصل ببعض معارفه فى دمنهور فنَفَوْا أن يكون فى مدينتهم أسرة بهذا اللقب أو شخص بهذه الصفات. بل إن الإنسان ليتساءل حائرا: ترى هل لقب "عبد النور" شائع بين المسلمين المصريين؟ لقد رحت أكد ذهنى وأعصر ذاكرتى لعلى أستطيع أن أتذكر شخصا أعرفه أو سمعت به أو قرأت عنه يحمل هذا اللقب فلم يتيسر لى رغم ما بذلت من جهد جهيد. ونفس الإجابة سمعتها من كل من استطلعت رأيهم فى ذلك الموضوع. كل ما استطعنا أن نستحضره فى بالنا هو لقب "أبو النور"، أما "عبد النور" فكلا وألف كلا.
ثم إن المروجين للكتاب، ومعهم كاتب مقدمته، يذكرون للمؤلف دواوين شعرية وكتبا فى الفلسفة والدين وتفسير القرآن، ويصفونه بما يفيد أنه كان خطيبًا مِصْقَعًا، وهو ما يعنى أنه كان مشهورا بعيد الصيت، فكيف غاب عنا عالم وشاعر وخطيب ومؤلف على هذه الشاكلة؟ إننا لا نتذكر من المعروفين أرباب الكلمة من أهل دمنهور سوى د. عبد الوهاب المسيرى، وكذلك عبد المعطى المسيرى، الذى كان صاحب مقهى هناك، والذى لم أقرأ له إلا كتابا واحدا. فإذا كان عباس عبد النور له كل تلك الكتب والأشعار، وكان من الخطباء المفوهين الكبار، وكان فوق ذلك حاصلا على الدكتوراه فى الفلسفة من باريس، فكيف جهلناه وجهله غيرنا فى طول البلاد وعرضها على هذا النحو المخزى؟ أولو كان عبد النور شخصا حقيقيا، وليس شخصا مزيفا كما يقول كل شىء كتبه عنه واضع مقدمة الكتاب وكتبه هو عن نفسه فى دَرْجه، أكنا نجهله ويجهله الناس جميعا إلى هذه الدرجة؟ ترى أين تلك الكتب والدواوين التى ألفها عباس الهلاس؟ ولماذا لم نسمع بشىء منها؟
وعلى ذكر التكية التى يقول كاتب المقدمة إن عباس المحتاس كان مديرا لإحداها فى دمنهور، هل توجد حقا تكية فى دمنهور؟ فأين هى إذن؟ لقد كانت توجد تكية أو أكثر فى القاهرة، لكننا لم نسمع من قبل بوجود تكايا فى عاصمة البحيرة. ولقد قرأت للفنان المصرى التشكيلى عصمت داوستاشى عن تكية فى القاهرة فكر ذات مرة فى اللجوء إلى شيخها (الذى كانت له علاقة بأبيه) ليعيش بعيدا عن بيت الأسرة فى الإسكندرية فرارا من والدته، التى كانت تضيق برسومه وما تسببه لها من إرهاق فى تنظيف ما توسخه من أثاث البيت، وكيف استقل المواصلات حتى بلغ مدينة دمنهور حيث انتابه الخوف من تكملة المشروع، فعاد أدراجه بالقروش القليلة التى تبقت معه إلى الإسكندرية دون أن يشير إلى تلك التكية المزعومة وهو يكتب تلك الذكريات، بل دون أن تخطر فى باله مجرد خطور.
وهذا نص ما كتبه الرسام المعروف عن هذا الموضوع فى كتابه: "ذكريات الأحلام القديمة":"قبل ذلك بثلاث سنوات تقريبا (أى فى عام 1959م) قد حزمت حقيبة الكشافة بمتعلقاتي، وأخذت طريق مصر الاسكندرية الزراعي هدفا لي علي قدمي، حيث قررت أن أهجر أسرتي ومدينتي والدنيا كلها وأن أنعزل في التكيةالبكتاشية بجبلالجيوشي وأن أمشي بملابس الكشافة التي تحميني من فضول الآخرين لأنه لم يكن معي مايكفي لركوب القطار، أمشي حتى القاهرة متوجها إلى التكية في جبل المقطم لأعيش هناك مع الدراويش بعيدا عن مشاكل أسرتي وخناقات أمي المتكررة معي لأني أرسم فيالمنزل، فيتسخ الأثاث وهي لا تتحمل مثل هذه الأمور. أتذكر أني مشيت بضعة كيلومترات حتى توقفت سيارة نقل لأستقلها حتي مدخل مدينة دمنهور فأدخلها مع الليل وينتابنيالخوف فأقطع تذكرة رجوع للإسكندرية بما معي من نقود قليلة مؤجلا مشروع دروشتيالمبكر إلى وقت آخر لم يأت بعد".
ليس ذلك فحسب، بل لو كانت هناك مثل تلك التكية المزعومة فى دمنهور ما مرت هذه المسألة مرور الكرام ولكان لتلك التكية شأن فى الحياة العامة يشبه، ولو إلى حد ما، شأن التكية التى كانت بالقاهرة على ما يصوره لنا قلم داوستاشى نفسه حين زارها فى بدايات ستينات القرن المنصرم برفقة والده: "كان زي الدراويش مكونا من جلبابيتوسطه حزام عريض كان يوضع فيه فيما مضى بعض الأشياء، وربما أسلحة وعصا البكتاشية. وفوق هذا الجلباب والحزام القماش الملفوف على الوسط ارتديت عباءة خفيفة من القطن صيفا، وثقيلة من الصوف شتاء، ثم ارتديت طربوشا أو عمامة البكتاشية، وهي ذات 12 ضلعا بعدد الأئمة الاثني عشر في المذهب الشيعي، ثم وضعت حول رقبتي قلادة من حجر لامعأشبه بحجر التلك علي شكل نجمة اثنتي عشرية هي الأخرى على ما أتذكر. ولعل التفاصيلبالصور أكثر وضوحا، تبدو فيها الملابس كلها فاتحة من اللون الأبيض الي الرمادي. لمتكن الصور الملونة قد ظهرت بعد ولا أعرف الألوان بدقة. وعليَّ أن أعثر على صور ملونةلبابا سري في تكية المغاوري بملابسه. وأتذكر أن مجلة "آخر ساعة" كانت قد صورته فيحياته اليومية بالتكية وهو يتجول في سوق الخضار أو مع ضيوفه. كان شخصية مشهورة فيذلك الوقت، وكانت التكية ملتقي شخصيات عالمية مختلفة: بعضهم ملوك وأمراء، وآخرون سياح ومستشرقون، ونجومالسينما والسياسة والمجتمع في مصر. في ذلك الوقت من عام 1962 كنت أبلغ من العمرتسعة عشر عاما مفعما بالحياة والحركة. لم يكن اهتمامي الديني قد نضج، ولم أكن أصليالا صلاة الجمعة مع أبي في مسجد أبي العباس، ولم يخطر ببالي أن أصبح درويشا، وإنكنت مبهورا بحياتهم خاصة في تكية المغاوري الأسطورية".
ويذكر كاتب مادة "دمنهور" فى موسوعة "الويكيبيديا" المعالم الأثرية التى تتميز بها مدينة دمنهور فيوردها على النحو التالى: "مسجد التوبة ثانى مسجد في أفريقيا بعد مسجد عمرو بن العاص، ومسجد الحبشي بُنِيَ في اوائل القرن العشرين، وهو تحفة معمارية رائعة، وأوبرا دمنهور: بُنيت في عهد الملك فؤاد. تم تجديد دار الاوبرا وترميمها لتعود لشكلها الأول الجميل، ومبنى مكتبة البلدية: بني في عهد الملك فؤاد، ومبنى مدرسة دمنهور الثانوية العسكرية: تحفة معمارية رائعة بنيت في عهد الملك فؤاد، ومبنى دار الاسعاف: بُنِيَ في عهد الملك فؤاد، وبها مستشفى تعليمي، وكوبري فلاقه المتحرك". وكما يرى القارئ ليس هناك أدنى إشارة إلى أية تكية فى تلك المدينة المظلومة مع عباس الهلاس. كذلك لم أجد أدنى إشارة إلى التكية فى موقع مدينة دمنهور أو فى أى موضع آخر على المشباك.
ولقد كتب نجيب محفوظ عن التكية فى أكثر من عمل قصصى له، فكيف لم يحدث أن تحدث عن تكية دمنهور أحد من تناولوا تلك المدينة فى أعمالهم أو كانوا من أبنائها أو كانت لهم بها علاقة قوية، كتوفيق الحكيم، الذى يقال إنه كتب روايته الشهيرة: "يوميات نائب في الأرياف" على مقهى الأديب عبد المعطى المسيرى فيها، ومحمد فريد أبو حديد فى "أنا الشعب" أو عبد المعطى المسيرى فى أى من كتبه أو أقاصيصه، أو يس الفيل (الذى عمل كاتبا بمنطقة دمنهور التعليمية، وأحد مؤسسي جمعيةالأدباء بدمنهور) فى أى من قصائده أومسرحياته أو قصصه، أو د. عبد الوهاب المسيرى فى سيرته الذاتية، أو محمد صدقى الأديب الماركسى فى أى من قصصه، أو خيرى شلبى فى "وكالة عطية" مثلا؟
والداهية الدهياء هو أن يقول كاتب المقدمة إن عباس الهلاس كان يعمل "مديرا" للتكية. بالله متى كان المشرف على التكية يسمى: "مديرا"؟ أنحن فى جمعية استهلاكية؟ إن مثل ذلك المشرف إنما يلقب بــ"شيخ التكية". وبالمناسبة فهناك رواية مشهورة صدرت أوائل الخمسينات من القرن البائد فى سلسلة "اقرأ" المصرية بعنوان "شيخ التكية" لمحمد عبده عزام. " شيخ" لا "مدير"! لكن شاء الله الذى لا تُرَدّ له مشيئة رغم أنف مؤلف الكتاب الكافر الذى يحادّ الله ورسوله أن يفضح اللصوص مخرجى هذا الفلم الهندى الردىء فأوقعهم فى شر أعمالهم ليرتكبوا هذا الخطأ الفاضح ويعرف الناس أنه لا مكان فى الدنيا لما يسمى بــ"الجريمة الكاملة".
كذلك وقع كاتب المقدمة فى مصيبة أخرى فاضحة، إذ استخدم للتعبير عن "وزارة الأوقاف" عبارة "دائرة الأوقاف الإسلامية" (ص5)، مما لا يعرفه المصريون، إذ يقولون: "وزارة الأوقاف" لا "إدارة الأوقاف"، فضلا عن أننا فى مصر لا نصفها بــ"الإسلامية" لأنه لا يوجد عندنا فى الحكومة إلا أوقاف إسلامية. ومعروف أن العرب غير المصريين يستعملون مصطلح "دائرة" للدلالة على المصالح الحكومية. ومعنى هذا أن كاتب المقدمة ليس مصريا. وهذا يذكرنى بما ثار فى ستينات القرن الماضى بخصوص وثيقة سياسية ورد فيها اسم "الاتحاد السوفييتى" بألف بعد الياء (هكذا: السوفياتى)، فكان هذا دليلا على أنها مفبركة فى بيروت وليست صادرة عن مصر لأننا فى مصر نكتبها بياءين على عكسهم فى لبنان، إذ يكتبونها بألف بعد الياء. فانظر أيها القارئ كيف تكون مثل هذه الدقائق الصغيرة فيصلا فى تلك القضايا الخطيرة. وهو ما يشبه ما نحن فيه الآن. ليس هذا فحسب، إذ يسمِّى عباس بن نسناس العرقسوس: "ماء السوس" (ص262) كما يقول إخواننا فى الشام مثلا، وهو ما لا تجده فى مصر أبدا. وعلى ذكر السوس فإن لى صديقًا من علماء سورية كان يعمل معنا فى جامعة أم القرى بالسعودية، وكان كلما زرته فى بيته قال لى: ما رأيك فى أن أُحْضِر لك "السوس"؟ ذلك أنه يعرف مدى حبى للعرقسوس!
بل إنى لا أتصور أن يكون الكتاب قد طُبِع فى مصر أصلا، ناهيك بدمنهور تلك المدينة الصغيرة التى لو كان الكتاب قد تم طبعه فيها لعُرِف الطابع على الفور وكانت فضيحة. بل إننى لأتصور أن الكاتب ليس مصريا، وربما ليس مسلما رغم كل الآيات والأحاديث التى يناقشها ويستشهد بها. ذلك أن مثل تلك الاستشهادات ليست من الصعوبة بمكان. ولعل من الضرورى، لدلالته ذات المغزى، أن أنبه إلى الطريقة التى يحيل بها الكاتب إلى مواضع الآيات القرآنية، إذ تعتمد فى معظم الحالات على ذكر رقم السورة كعادة المستشرقين والمبشرين لا على اسمها، وفى المرات النادرة التى يذكر فيها اسم السورة نراه يعقبه بذكر رقمها. وغير بعيد كتاب "الفرقان الحق"، الذى أكثر فيه ملفقه النصرانى الفلسطينى من إيراد العبارات القرآنية وتقليدها والنسج على منوالها. وهناك عبد الله العربى، مترجم المقدمة التى مهد بها المحامى البريطانى المولود فى نهاية القرن السابع عشر: جورج سيل (أو جرجيس صال) لترجمته الإنجليزية للقرآن الكريم. لقد صاغها المدعوّ: عبد الله العربى بعربية متينة ولا عربية أجعص شيخ أزهرى من الأزاهرة المودَّكين، وهو مع ذلك نصرانىٌّ قُحٌّ من نصارى الشام فيما أتصور.
كذلك هل يمكن التصديق بأن رجلا يذهب إلى باريس ويحصل على دكتوراه فى الفلسفة ثم يعود فيشتغل خطيبا فى مسجد، مثله مثل أى شخص عادى ليس معه دكتوراه؟ والمضحك أن يزعم كاتب المقدمة بأن وزارة الأوقاف المصرية هى التى أرسلته إلى عاصمة الفرنسيس فى بعثة دراسية للحصول على دكتوراه فى الفلسفة. ترى ما علاقة الأوقاف بالفلسفة؟ بل ما علاقتها بعباس المحتاس، وهو لم يكن خريج أزهر، بل كان حاصلا على ليسانس كلية الآداب من جامعة فؤاد؟ ومما يبعث على القهقهة أن يقول الكاتب إنه ترك كلية أصول الدين وهو فى السنة الثالثة إلى كلية الآداب. ترى هل هذا ممكن؟
إن الكلتين غير متناظرتين حتى يجوز أن يحوّل الطالب أوراقه من الواحدة إلى الأخرى، فضلا عن أن أصول الدين تابعة للأزهر، على حين أن الآداب تابعة لجامعة الملك فؤاد، فالتحويل بينهما إذن غير ممكن. إلا أن الكاتب لا يميز بين كوعه وبوعه، ويظن أن قراءه "كاوِيرْكَات" مختومون على قفاهم مثله! خيبة الله عليك يا أبا العبابيس، يا سليل النسانيس والخنانيص! بل هل هناك رجل يمكن أن يلحد وهو شيخ قد جاوز الثمانين، وبعد أن كان مؤمنا تقيا طول عمره؟ كذلك نراه يقول إنه بعد وفاة والده صار من "هيئة علماء المدينة". ترى هل هناك فى المدن المصرية شىء اسمه: "هيئة علماء المدينة"؟ نعم كانت هناك فى القاهرة "هيئة كبار العلماء"، لكن لم نسمع بــ"هيئة علماء المدينة" هذه إلا الآن.
ثم انظروا إلى تشكيل كل حرف فى عنوان الكتاب وفى اسم المؤلف! فمنذ متى يشكل المصريون عناوين كتبهم بهذه الطريقة، وبخاصة أن العنوان يخلو تماما من أية كلمة تحتاج إلى تشكيل؟ ومما له مغزاه فى هذا السياق أن مروجى الكتاب وناشريه فى مواقعهم هم مجرمو نصارى المهجر الذين نرجو أن يفيقوا من غيهم وقلة أدبهم قبل أن يأتى يوم لا تنفع فيه أوربا ولا أمريكا ويقول الكافر حين يرى الشيطان يتبرأ منه ويتركه يواجه مصيره الأسود وحده ويُضْرَب بالحذاء دون أن يخف لنجدته مخلوق: "يا ليتنى كنت ترابا"، فضلا عن أنهم هم الوحيدون الذين كانوا يعرفون بصدور الكتاب، إلى أن وضعوه فى مواقعهم ومنتدياتهم، فعندئذ عرفه المسلمون.
ومعروف أن من عادتهم تأليف كتب تهاجم الإسلام بأسماء مجهولة (ككتاب "تيس عزازيل" للأب يوتا ابن العبيطة، وهو اسم لا وجود له، وكتاب "حوار صريح حول الإسلام" للشيخ المزعوم الحمار محمد النجار،و"مقارنة الإسلام والمسيحية" للشيخ المقدسى الذى لا يوجد إلا فى أوهام المتاعيس المتخلفين من نصارى المهجر، وكتاب "هل القرآن معصوم؟" للمدعوّ: عبد الله عبد الفادى، وهو كذلك اسم مختلق، وكتابَىِ "الفرقان الحق" و"القرآن الشعبى"، اللذين صدرا دون أن يكون على غلاف أى منهما اسم مؤلفه). وقد يسندون تلك الكتب إلى أسماء مسلمة لا حقيقة لها (كالكتاب الذى يشتمل على الترجمة العربية للمقدمة التى صدّر بها جورج سيل ترجمته القرآنية إلى اللغة الإنجليزية والذى نسبوه إلى عبد الله العربى نزيل الديار الإفرنجية كما قالوا على الغلاف)، ودائما ما يزعمون أن الشيخ الفلانى أو زعيم الجماعة الإسلامية العلانية قد أسلم. ومن هذه الشاكلة أيضا ما هو معروف من أن كثيرا من المتظاهرين بالإلحاد فى موقع "اللادينيين العرب" هم فى حقيقة الأمر نصارى سخفاء يتخذون من ذلك التظاهر فرصة للنيل من الإسلام بطريقتهم الملتوية المفضوحة رغم هذا. كذلك من اللافت للنظر أن زكريا بطرس يستشهد فى برنامجه كثيرا بهذا الكتاب حتى فيما يمكن، بل فيما يجب، أن يرجع فيه إلى غيره، وذلك حين يستخدمه مرجعا وسيطا بدلا من الرجوع إلى المصدر أو المرجع الذى نقل عنه عباس عبد النور. وهذه معلومة هامة من شأنها أن تساعد فى كشف الجهة التى أصدرت الكتاب، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى المزيد بعد كل ما أوردناه هنا من معلومات وأدلة.
وأخيرا فمن عادة بعض الكفار من قديمٍ تأليفُ الكتب وعَزْوُها إلى غيرهم حتى يخلصوا من التبعة ويتفرجوا على ما يحدثونه من فتنة وهم يفركون أيديهم ابتهاجا بما يَرَوْن دون أن يتعرضوا للوم أو أذى ودون أن يعرف الناس من حولهم أنهم هم أصحاب كل هذه الضجة المثارة. وفى هذا من اللذة ما فيه. وفى الفصل الذى عقده د. عبد الرحمن بدوى لمحمد بن زكريا الرازى (الطبيب المسلم المشهور والمتهم بالإلحاد صدقًا أو بُطْلا) فى كتابه: "من تاريخ الإلحاد فى الإسلام" إشارة إلى بعض الملاحدة العرب فى العصر العباسى ممن ألفوا الكتب الكفرية ونسبوها إلى علماءَ إغريقٍ (ص256 من ط2/ دار سينا للنشر/ 1993م).
هذا، وحين أوشكت أن أنتهى من الرد الذى بين يدى القارئ وجدت دعاية لكتاب عباس فى بعض المواقع تقول إنه كان أستاذاجامعيا. وهذه كذبة أخرى أضرط من الأكاذيب السابقة، وإلا ففى أية جامعة يا ترى كان أستاذا ذلك الكذاب المفضوح الذى أخراه الله؟ كذلك تقول الدعاية إن النسخة الموجودة فى الموقع هى طبعة أخرى من الكتاب الممنوع من التداول فى البلاد العربية والإسلامية. والسؤال الآن هو: إذا كان الكتاب ممنوعا من التداول والتوزيع فى البلاد الإسلامية كلها فلم طبعتم منه طبعة جديدة، وأنتم لن تستطيعوا توزيعه، وبخاصة أن لديكم الإنترنت تنشرونه فيه على أوسع نطاق مما لا يمكنكم أن تحصلوا على عشر معشاره لو طبعتموه طباعة ورقية؟ إن هذا دليل آخر على أن كل ما يتعلق بهذا الكتاب هو كذب فى كذب.
وإلى القارئ الآن الكلمة المذكورة أنقلها بتمامها كما وجدتها فى الموقع المشار إليه: "كتاب محنتي مع القرآن ومع الله في القرآن- الطبعة الثانية، وهي نسخة محسنة جدا.عباسعبدالنورمن مواليد دمنهور، سني المذهب. فقيه. مدير تكية. قضى ستين عاما من عمره مسلما تقيا، وإمام مسجد، وخطيبا رائعا، وكاتبا وشاعرا ومفسرا للقرآن الكريم، ثم نشر كتابه: "محنتي مع القرآن"، وكفر عندما بلغ الثمانين من عمره. وكتابه هو أخطر كتب الالحاد. ألتحق بكلية اصول الدين في الأزهر. ومنح مساعدة من دائرة الأوقاف الإسلامية ، فانتقل إلى جامعة السوربون في باريس ليحضر دكتوراه في فلسفة العلم، وتمكن من الفلسفة والعلم معا. ولما عاد إلى مدينته أصبح إماما وخطيبا في أحد مساجدها، وكان له فيها مريدون، نشأهم على الإيمان وحسن العبادة، كما كان أستاذا جامعيا، ومؤلفا لكتب فلسفية وعلمية عديدة. إلا أن حياته الفكرية لم تكن من دون قلق ولا حياته الدينية من دون شكوك. لقد كان عقله يثير موضوعات شائكة، وكان إيمانه يكفيه الجواب على كل معضلة. صراع العلم والإيمان ابتدأ عندعباسباكرا، صراع لم تتح له الفرصة ليطرح علنا. ولو خرج من الخفاء منذ نشأته، لما وصل إلى هذا الحد من العنف المعبر عنه في هذا الكتاب الذي قل نظيره".
وبالمناسبة لم يذكر لنا كاتب المقدمة الفطاس كيف وصلت إليه مخطوطة الكتاب ما دام عباس عبد الديجور قد نفق. وهذه ثغرة أخرى من الثغرات الكثيرة الفاضحة. وكيف يا ترى تم تحسين الطبعة الجديدة، وقد هلك المؤلف وراح فى ستين داهية؟ هل من حق أحد أن يتصرف فى كتاب مات صاحبه فيحسّن فيه ويضيف إليه أو يحذف منه؟ فمن أعطاه هذا الحق؟ إن هذه فلتة من فلتات اللسان التى تكشف أن مؤلف الكتاب ما زال حيا، ومن ثم نظر فى كتابه ففكر فى تحسينه وتنقيجه على عادة المؤلفين مع الطبعات الجديدة لكتابهم. ثم ماذا كان موقف زوجته وأولاده منه بعدما كفر وكتب كتابه هذا؟ والمفروض أنهم معروفون، على الأقل: تبعا لمعرفة الناس عباس بن نسناس بوصفه شيخ طريقة وإمام مسجد وخطيبا مفوها ومؤلفا مرموقا وأستاذا جامعيا وشاعرا وقصاصا، وبياع دبابيس وأمشاط وفلاّيات وسكر نبات، ومن يقول: هات؟ فلماذا سكت كاتب المقدمة البكاش عنهم ولم يأت على ذكرهم ولو بكلمة واحدة؟ إن هناك تعتيما على هذه المسألة، وهى ثغرة خطيرة تضاف إلى الثغرات الكثيرة الماضية واللاحقة.
فإذا ولجنا من باب الكتاب إلى الداخل فأول شىء نلاحظه أن عباس يذكر كرسىّ الاعتراف قائلا إنه سوف يجلس الآن على كرسى الاعتراف ويفض مغاليق قلبه لنا بصراحة تامة، وهذه زلة لسان فاضحة، إذ ليس عند المسلمين كراسىّ اعتراف، ومثل ذلك الرجل "التقى الورع سابقا!" لا يمكن أن تخطر له فكرة كرسى الاعتراف أبدا. ومثل ذلك قوله: "طوبى للبُلْه، فإن لهم ملكوت السماوات" (ص32)، ففيه تأثير إنجيلى واضح. ومثله أيضا تأكيده أن "الدين لله، والوطن للجميع" (ص50)، فهى عبارة كان النصارى الأقباط يغرمون بها ويرددونها دائما لإلهاء المسلمين عن الإسلام، أما الآن فإنهم يعلنون بكل صراحة ووقاحة أن المسلمين ليسوا مصريين، بل عربا وَفَدُوا على أرض الكنانة من شبه الجزيرة العربية وينبغى أن يعودوا من حيث جاؤوا ويتركوا الجمل بما حمل لهم ينعمون به هنيئا مريئا، إذ هم وحدهم المصريون حقا وصدقا. ومن هذا الوادى كذلك ما نقرؤه بهامش الصفحة التاسعة والخمسين من وصف عِبْس لمبشر غبى مثله اتخذ من ضمير الجمع العائد على الله فى القرآن دليلا على صحة التثليث بأنه "أحد أذكياء المبشرين". وهذه زلة لسان خطيرة لها دلالتها. ومنه كذلك قوله (ص124): "لكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟"، وهى عبارة كتابية بامتياز.
وهناك أيضا تأكيده (ص207) أن القرآن ليس فى مستوى واحد من الجودة والأناقة والإتقان، بل "فيه القمح، وفيه الزُّوَان"، أى الجيد والردىء. والزوان هو ما يسميه العامة: "الدحريج"، وينقونه من القمح ويرمونه. وهذا المثل موجود فى الإصحاح الثانى عشر من إنجيل متى، ففيه نقرأ: "24قَدَّمَ لَهُمْ (أى عيسى عليه السلام) مَثَلا آخَرَ قِائِلا:«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ. 25وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. 26فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَرًا، حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضًا. 27فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ:يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعًا جَيِّدًا زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. 28فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هذَا. فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ 29فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. 30دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعًا إِلَى الْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أَوَّلا الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَمًا لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَني»... 36حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ». 37فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. 38وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ. 39وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَالْحَصَادُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعَالَمِ. وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلاَئِكَةُ. 40فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، هكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هذَا الْعَالَمِ: 41يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، 42وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. 43حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ".
إلا أن الكاتب يسخر بعد ذلك من المسيح والنصرانية سخرية مرة، وإن كان غريبا قوله إنه، بعدما تيقن من عدم وجود إله أصلا، فكر فى اللجوء إلى يسوع ودينه (ص36 وما بعدها). فما دام قد توصل إلى أنه لا يوجد إله أصلا، فكيف يخطر له أن يلجأ إلى المسيح؟ إن المسيح بشر مثله هو تماما، فكيف تواتيه نفسه على التفكير فى اللجوء إليه، وهو الذى كفر بالله ذاته؟ أليس هذا أمرا غريبا ومريبا؟ والمضحك أن النصارى يحتفون بالكتاب رغم ذلك مثلما احتفَوْا بكتب القمنى رغم ما فيها من إنكار المعجزات ومن الافتراء على مريم والقول بأنها كانت بَغِيًّا من بغايا المعبد المقدسات، ومثل انتشائهم باختراع القرآن الشعبى، الذى يسىء إلى مريم وعيسى عليهما السلام حسبما وضحت فى مقالى الطويل حول هذا الوضوع.
ومن الثغرات الفاضحة فى الكتاب قوله (ص33): "بل لقد بلغ بى الترحيبُ بالمصيبة وشكرُ الله عليها مبلغ الصوفية، فكنت أذهب مذهبهم وأقول على طريقتهم بأن المصيبة معصية عُجِّلَتْ فى الدنيا حتى نلقى الله فى الآخرة وليس علينا شاهدٌ بذنب! لقد نسيتُ، ولعلى قد تناسيتُ، ولى مصلحة فى هذا التناسى، أن المصيبة إذا كانت تعيد الإنسان إلى الله أحيانا فإنها فى أحيان أخرى تُبْعِده عنه أيضا. المصيبة طريق إلى الله، وهى اأيضا طريق إلى الشيطان". فهذا يعنى أنه فى الأصل لم يكن صوفيا من الصوفية، وإنما ذهب فى تلك المحنة فقط مذهبهم، مع أنه يقول عن نفسه فى مقدمة الكتاب إنه كان واحدا منهم، إذ كان يحضر حلقات ذكرهم. بل لقد ذكر صوفيته صراحة أكثر من مرة كما فى ص41 مثلا.
ثم إن الأسلوب الذى صيغ به الكتاب ليس أسلوب شيخ بلغ أرذل العمر كما يريد أن يوهمنا الكاتب والذين يقفون من ورائه يوسوسون فى أذنه ويلقنونه ما ينبغى أن يقوله، بل هو أسلوب شخص ما زال يتوثب عُرَامًا وحيوية، فهو يتهكم ويسخر ويداور ويناور ويسجع ويجانس ويوازن ويرادف وينفث قلمه لهب الحقد والتشكيك مندفعا فائرا منثالا. وليس هذا من سمات كتابات الشيوخ الفانين ولا من الأساليب التى تبرز فى مثل ذلك السياق الذى لا يكون الإنسان فيه على مزاجه الرائق كى يفكر فى البديعيات والمترادفات وما إلى هذا. كذلك فمصطلحاتٌ مثل "التنوير" و"قوى الظلام" و"الخطاب القرآنى" و"النص" (ص7 مثلا) و"مجتمع متخلف آسن لاعمل له إلا إنتاج ذاته وتكرار ذاته" و"الأُطُر الاجتماعية" و"صدمة الحداثة" و"الأيديولوحيا" و"الأسطرة" (أى تحويل الموضوعات إلى أساطير ص143) و"الذائقة اللغوية" (ص152) هى مصطلحات غريبة على رجل عاش كما يقول فى حلقات الذكر وبين أهله من علماء الدين ممن لا تجرى هذه المصطلحات على ألسنتهم، فضلا عن الاعتزاز بها كما هو واضح فى الكتاب، وبخاصة أنه كتب كتابه وقد تخطى الثمانين كما ذكر (ص44). بل إن الرقم 80 ليؤكد أن المسألة ليست سوى كذبة بلقاء تدل على أن الأمر كله بكش فى بكش، إذ ذكر عباس ا لمحتاس فى بداية الكتاب أنه من مواليد 1927م. فإذا كان الكتاب قد صدر عام 2004م كما هو مطبوع على الغلاف، فكيف يمكن أن يكون المؤلف الموهوم قد تخطى الثمانين مع أنه قد مات قبل صدور الكتاب؟ إنها داهية أخرى من الدواهى المتلتلة التى أراد الله أن يفضحهم بها.
وبالمثل فإن السيناريو الذى تصور الكاتب وقوعه بعد صدور الكتاب وانقسام الناس بشأنه ومصادرة الحكومة له ودخول الإعلام الغربى و"الدوائر السوداء" (حسب تعبيره) على الخط متهمة المسلمين بالتخلف وقمع الحريات وما إلى ذلك هو سيناريو لا يمكن أن يخطر لرجل عجوز فى الثمانين قضى حياته كلها بين حلقات الذكر والصلوات والصيامات وقمع الشهوات... إلخ. هذا كلام مجرم قرارى لم يتخط سن الحيوية بعد كما قلنا. ومع ذلك فها هو ذا الكتاب قد صدر، ولم يقع شىء مما تخيله عباس الهلاس. والسبب هو أن كل هذا كذب وتزييف، وليس هناك شخص اسمه عباس عبد النور ولا حاجة، ولا الكتاب صدر من دمنهور ولا حاجة، بل هو من صنع شخص متخفٍّ ما زال حيا، وتسنده قوى قوية تريد إحداث ضجة ولغط بين المسلمين وتعمل على نشر التشكيك فى دينهم.

ويصور الكاتب محنته مع القرآن تصويرا دراميا مثل فلم "أشرف خاطئة" وأشباهه حيث تنسد تماما كل الأبواب فى وجه المومس المتحرقة شوقا وغراما وهياما وانتقاما إلى ممارسة الرذيلة فيعاملها القدر بما تستحق وتنسد فى وجهها كل الأبواب بلا أدنى أمل فى معونة من إنسان كريم أو قريب رحيم أو جار شهيم بحيث لا يكون أمام نجوى فؤاد الراقصة اللولبية ربة الشرف والصون والعفاف والفضيلة (أقصد الرقاص الهجاص المدعوّ: عباس الخناس) التى ليس معها شىء من تكلفة عملية جراحية خطيرة لا بد من إجرائها لأمها بغية إنقاذ حياتها إلا الزنا والعهر كما يريد مؤلف الفلم ومخرجه ومنتجه أن يزرعوا فى رُوعنا، تسويغا للخطيئة وترويجا لها وابتهاجا بمقارفيها وإعلاء لشأنهم وتقديما لهم فى صورة الأبطال المغاوير.
وهو كلام لا يدخل عقل عاقل. ذلك أنه يزعم أنه، بعد عشرات السنين من التقوى والعبادة الخالصة لله، قد ألفى نفسه على حين بغتة مريضا يعانى من انفصال فى الشبكية، فضلا عن عرج فى قدمه كان قد عالجه فى فرنسا، إلا أن آثاره بقيت ظاهرة فى مشيته، وهو مع هذا فقير لا يستطيع أن يعالج نفسه، فجعل يدعو الله ويبتهل إليه أن يقف معه ويهتم به ويسارع إلى معونته، لكنه فوجئ بأنه لم يأبه به ولا استجاب لشى مما طلبه منه على الإطلاق، فانتهى أمره معه إلى أن طلق الإيمان طلاقا بائنا لا مثنوية فيه وانكب على القرآن بنفس التحمس القديم، ولكن لينتقده لا ليتعبَّد بقراءته، فكان هذا الكتاب الذى أكد فيه أن القرآن ليس من عند الله، إن كان ثم إله أصلا، وأنه مفعم بالأخطاء اللغوية والفكرية والعلمية وأنه صار يمثل عبئا على كاهل المسلمين، الذين إذا كانوا جادين فى رغبة الدخول إلى عالم الحضارة فليس أمامهم من سبيل سوى اطراحه وإهماله.
ولأنه رجل كذاب نراه يقول فى موضع آخر (ص188) إنه قد انجاب عن عقله تأثير الأساطير القرآنية عن الكون والسماء وما إلى ذلك وتخلى عن الإيمان بها وترديدها "منذ عقود طويلة" (بنص كلامه)، وهو ما يعنى أن كفره بالقرآن لم ينتظر حتى أصيب فى عينيه بالانفصام الشبكى، وأخذ يبتهل إلى الله فلم يستجب الله لابتهالاته فكَفَر. وهذا يرينا أن الرجل قد كتب الكتاب منذ البداية قصدا للتشكيك فى القرآن وصرفا للمسلمين عن الإيمان به حتى تخلو المنطقة للأمريكان والغربيين فيصنعوا بها وبأهلها ما يشاؤون دون أية مقاومة، إذ المقاومة الآن هى من صنع الشبان والرجال المسلمين الذين يؤمنون بأن دينهم هو أصح الأديان وأن هذا الدين يأبى عليهم الاستكانة إلى ما ينزله المجرمون الغربيون بأمتهم من عسف وظلم وطغيان وسرقة وقتل ودمار، فأراد أولئك المجرمون أن يقضوا على تلك المقاومة الشرسة الباسلة الرجولية الفدائية التى تعكر عليهم صفو إجرامهم فتخيروا هذا الكاتب وأمثاله وكلفوه أن يكتب مشككا وناشرا الكفر بالقرآن وبمحمد بين المسلمين حتى يخلو الجو لمجرمى الغرب الصليبى ليفعلوا بنا وببلادنا ما يحلو لهم ويبرطعوا على راحتهم دون أن يخسروا مالا أو أرواحا.
وفى الصفحات 78- 79، 138- 139 يعود ابن عبد الديجور فيقول إن القرآن كان ثورة فى حينه، ناسيا ما كان قد قاله قبلا من أن فيه سخفا كثيرا. ثم يضيف قائلا إن القرآن قد تحول مع الأيام من ثورة إلى رتابة وسقوط وإملال. والحق أن هذا ليس عيب القرآن، فالنصوص القرآنية التى هاجمت تحجر العقول وغباء البشر وعنادهم فى وجه الحق ما زالت موجودة، وكل ما فى الأمر أن الناس هى التى ركنت إلى البلادة، وإلا فالقرآن يدينهم قبل غيره. والملاحظ أن الكاتب النتاش هنا يهاجم العرب ناعيا عليهم الغباء وتحجر العقول والتمسك السخيف بما ثبت أنه فاسد، وكان قبل قليل يمدحهم ويزعم أنهم مخلصون للحقيقة ذوو أنفة وكبرياء، لا لشىء إلا لما كانوا يبدونه، أيام وثنيتهم من عناد وكراهية للتفكير ومطالبة للرسول بالمعجزة، وهى المعجزة التى سخر منها عِبْس وهاجمها عند كلامه عن رفع الطُّور فوق رؤوس قوم موسى تهديدا لهم. واضح أنه يتخبط ولا يستقيم على طريق واحد!
وفى (ص78 وما بعدها) يتكلم عن وجوب أخذنا بثورة الغرب ولحاقنا بركبه، ويهاجم الأصولية عندنا، متجاهلا الأصولية الأمريكية الرجعية الوحشية واستلهام الأمريكان لأوهامهم الدينية المتخلفة فى تدمير بلادنا وقتل شعوبنا مدعين أن الله يأمرهم بها ويباركه. المهم أنه، بعد قليل من تأكيده أن القرآن كان ثورة فى القرن الأول للهجرة ثم آض عبئا وجمودا يحتاج بدوره إلى ثورة، يعود فيقول ما معناه أن الإسلام ظل إلى القرنين الحادى عشر والثانى عشر يتجدد ويبدع. فبأى الرأيين نأخذ؟ ولقد مدح الوثنيين المكيين وعنادهم ورفضهم للدعوة الإسلامية فى البداية وعد ذلك منهم إخلاصا للحقيقة وأنفة وكبرياء يستحقان المديح والتمجيد. فأى تناقض هذا؟
لقد أكد عِبْس أن مطالبة قريش للنبى بأن يعذبهم الله أو يمطرهم بحجارة من السماء كما حكت ذلك سورة "الأنفال" دليل على أنفة النفس والإخلاص التام فى سبيل البحث عن الحقيقة (ص66)، فهل يريد أن يقول إن وثنية قريش أفضل من وحدانية محمد عليه السلام، وبالتالى فعنادهم دليل على إخلاصهم ينبغى الثناء عليه؟ لكن ماذا كان يفيد إهلاكهم فى إقناعهم، وهم ساعتئذ سوف يكونون قد ماتوا، فلا فائدة من ثم فى هذا الدليل؟ على كل حال لقد تحداهم القرآن منذ البدايات الأولى فى مكة بأنهم، بعنادهم وكفرهم، سوف يخسرون كل شىء، وسوف ينتصر الإسلام رغم كل شىء، وهو ما قد كان. ألا يكفى هذا عند الكاتب ومن يختفون خلفه ويحرضونه على الشر والتساخف؟ ثم أى إخلاص ذلك الذى يتحدث عنه الكاتب، وقريش جميعا، إلا من مات منهم، وعددهم لا يذكر، قد آمنوا بهذا الذى كانوا ينكرونه ويعاندونه؟ فلماذا لم يُثْنِ عليهم إذن بأنهم عندما استبان لهم الحق لم يستمروا فى العناد والكفر بل انصاعوا لذلك الحق؟ أم ترى الأنفة والإخلاص لا يكونان إلا مع الكفر؟ والمضحك أنه بعدما لمز النبىَّ كثيرا لعدم نزول معجزات عليه، ومنها معجزة حجارة التدمير السماوية تلك، يعود (فى الهامش) فيسخر من إيمان بنى إسرائيل بسبب معجزة رفع الطُّور فوقهم لأن هذا فى رأيه إيمان المجبَر. إذن فلماذا لمز النبىَّ فى مسألة المعجزات ما دامت هى فى نظره معيبة إلى هذا الحد؟ عجيبة!
وفى ص229 نجد عِبْس يعترف بأن القرآن كان عامل تقدم وحضارة فى بدء أمره، إلا أنه فى عصور التخلف كان عامل انحدار. ونحن لا نشاح فى أن المسلمين فى العصر الحاضر بوجه عام قد بلغوا من الهوان والتخلف والبلادة مبلغا يطير النوم من العين بل يبعث على الجنون، وهو ولا هم هنا، وهذا ما يزيد المسألة تعقيدا ويملأ القلب "هما وغما"، ولولا الإيمان بالله لقلنا: "ويأسا" أيضا، لكن القرآن ليس هو السبب، فنصوصه باقية كما هى لم تغيَّر ولم تحرَّف، بل المسلمون هم الذين تغيروا. وهناك أسباب لذلك بعضها خارج نطاق إرادتهم، وبعضها يدخل فى نطاقها. لكن ما من شىء فى نهاية المطاف فى هذه الدنيا إلا ومن الممكن تغييره إلى الأفضل بالعزم والإرادة والعلم والعمل ما دام لا يناقض ناموسا من نواميس الحياة. فهل يكذّب قومنا ظننا ويفعلونها ويشمّرون عن ساعد الجد ولا يُشْمِتون بنا من يساوى ومن لا يساوى ويعملون على الخروج مما هم نائمون فيه من المجارى المنتنة ويكونون عظاما كأجدادهم يوم كانوا متمسكين بالقرآن المجيد؟
إن الإسلام نظام من القِيَم الحضارية هدفه ترقية الحياة وتهذيبها وإسعاد البشر، ولا بد من تطبيقه إن أراد المسلمون أن يخرجوا من الدائرة الملعونة المشؤومة التى يتحركون فيها إلى الخلف، على حين تقفز الدنيا من حولهم إلى الأمام قفزا وتثب إلى الأعالى وثوبا. ومن غير المتصور أن يقف الشعب سلبيا تجاه ما يحيط به من مشاكل، منتظرا أن يحلها له حلال ليأتى شخص سخيف خفيف العقل مثل عباس الملتاث فيتهم الإسلام بأنه صار معوقا لأتباعه عن الحضارة والتقدم. إن الشعوب المتحضرة فى الدنيا كلها تعرف أنه لا يمكنها نيل حقوقها إلا إذا تحركت وطالبت وناضلت، وإلا فسوف تظل الأمور على ما هى عليه، وعلى المتضرر اللجوء إلى الانتحار أو خبط رأسه فى أقرب جدار. ومن جهة أخرى لا يمكن تطبيق الإسلام بقِيَمه وتشريعاته وحدوده ما لم يقتنع الناس أنه لا بد من تطبيقه، لا كلاما وشعارات شبعنا منها ومن سخافاتها وتفاهاتها وخلوها من المضمون، بل حقا وصدقا ينبعان من العقل والقلب ويتبديان فى الوقوف صفا واحدا ضد كل من يفكر فى النيل من هذا الدين وإفراغه من حقيقته. بغير هذا سوف نعطى الأعداء الفرصة للزعم بأنه دين لا يهتم إلا بالشكليات التى لا تؤكّل عيشا، بينما الجوهر مغيَّب، والقيم الحضارية العبقرية التى يتضمنها هذا الدين العظيم معطَّلة!
المجتمع المسلم هو المجتمع المتقدم علميا وزراعيا وصناعيا وتجاريا وعسكريا ورياضيا وفنيا، وله كلمة محترمة نافذة فى المحافل الدولية، وبغير ذلك لا يمكن أن أصدّق أنه مجتمع مسلم حقا. ليس من المعقول أن يظل المسلمون مرتعبين فزعين من أمريكا وإسرائيل لا يدرون ماذا تنويان أن تفعلا بهم، وينحصر كل همهم فى الأزمات أن تمر الأزمة على خير ظنا منهم أنها متى مرت على خير فقد نجَوْا، ثم يفاجَأون بأنه لا الأزمة مرت على خير ولا أنها آخر الأزمات والكوارث. إن مجتمعات مثل هذه هى أبعد ما تكون عن الإسلام، وإن صَلَّتْ وصامتْ وحَجَّتْ وأطلق رجالها لحاهم وتحجبت نساؤها، رغم أهمية الصلاة والصيام والحج والحجاب.
ألم يقل الله تعالى فى كتابه المجيد: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"؟ فكيف إذا لم تنه الصلاة صاحبها عن الفحشاء والمنكر ولم تزرع فى رُوعه التقوى الحقيقية التى تدفع المصلى دفعا إلى أن يكون إنسانا متحضرا قويا محترما هو والمجتمع الذى ينتمى له؟ أليس رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام هو القائل: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ! وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر!"؟ ألا نقرأ فى القرآن أمره سبحانه وتعالى لرسوله: "وقل: رب، زدنى علما"؟ فلماذا إذن لا نطلب من ربنا زيادة نصيبنا من المعرفة والعلم، ونفضّل الجهل ونكره القراءة والكتاب كراهية العمى، وكأن القرآن والرسول قد نهيانا نهيا باتا لا مثنوية فيه ألا نقارب العلم أو أن نقترف منه شيئا حتى لا ينجّسنا؟ ألم يقل الرسول لنا: "من خرج في طلب العلمكان في سبيل الله حتىيرجع"، و"إن الله عز وجل أوحى إليّ أنه من سلك مسلكا فى طلب العلمسهّلتُ له طريق الجنة"، و"فضلٌ في علمٍ خيرٌ من فضلٍ في عبادة"؟ فما بال الطلاب العرب والمسلمين لا يسعون فى طلب العلم بدلا من قراءة الملخصات وحفظها دون فهم والاستعانة بالغش فوق ذلك، وكأن العلم يصلح مع الغش؟ ألم يعلمنا الرسول أن "الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"؟ فلماذا كان إنتاجنا رديئا، وصُنّاعنا وحِرْفِيّونا متعجلين كأن عفريتا يركبهم، ومدلّسين لا يؤدون عملهم على شىء من الإتقان إلا إذا وقفنا على أيديهم وفنجلنا أعيننا على الآخِر كما يقول التعبير العامى؟ أليس من الحكمة النبوية والتحضر الإسلامى أن "إماطة الأذى عن الطريق صدقة"؟ فلماذا تنفرد شوارعنا بهذه الوفرة الوفيرة بكل ألوان الأذى: من أذًى صوتىّ إلى أذًى بصرىّ إلى أذًى شَمِّىّ إلى أذًى نفسىّ إلى أذًى عقلىّ، وكأنه عليه السلام قد أمرنا بملء الطريق بالأذى والعدوان؟ والله إنى لأتصور أنه عليه السلام لو كان أمرنا بملء الطريق أذى وعدوانا ما اهتممنا بأن تكون شوراعنا بهذه القذارة والتشويه الذى هى عليه! ألم يأمرنا القرآن فى كثير جدا من آياته بالصبر؟ فلماذا لا يكون منّا صبرٌ إلا على المذلة والإهانة والجهل والتخلف أو المكر والتآمر، لا على بذل الجهد فى ميادين المجد والكرامة والإبداع والإتقان؟ إننا الآن فى مفترق طرق، وأخشى ما أخشاه إن ظللنا على بلادتنا وتفاهة اهتماماتنا ورضانا بالمذلة والخنوع لكل مستبد غشوم وبُغْضنا للعلم والقراءة واعتمادنا فى تسيير أمورنا على الفهلوة والبكش أن نكون قد حفرنا كأمةٍ قبورنا بأيدينا، وصعَّبْنا فوق ذلك على أنفسنا حساب يوم الدين، وعندئذ نكون لا دنيا أَحْرَزْنا، ولا آخرةً كَسَبْنا!
على كل حال من الواضح أن عِبْس لا يهمه إلا أن نكون تابعين للغرب، وأنه لا يبالى بتقدمنا فى قليل أو كثير. والغرب يستعمل أمثاله مطايا يركبونها فى سبيل سحق مقاومتنا له ولمخططاته. إننا فعلا وحقا وصدقا متخلفون، وأول مظاهر تخلفنا هو أننا لا نعمل بما فى القرآن من دعوة إلى استخدام العقل، وإلى السعى فى سبيل العلم، وإلى العمل والإنتاج والإبداع، وإلى النظافة والنظام والإتقان والجمال وما إلى هذا. وهذه المبادئ ما زالت موجودة فى القرآن، ومازالت لها قيمتها المطلقة التى لا تتوقف على عصر دون عصر كما يريد أن يوهمنا ابن القديمة حين يطالبنا بالتمرد على القرآن، الذى كان، كما يزعم، ثورة فى الماضى ثم أصبح حجر عثرة الآن. الطريف المضحك أن مقدم الكتاب (ص6) قد برَّأ القرآنَ وبرَّأ اللهَ مما حدث لعباس الخناس من كفر وتمرد، إذ حصر المسؤولية فى المسلمين.
هذا، وقد رأينا قبلا كيف سد الكاتب كل الطرق فى وجه نفسه حين صور الله فى صورة من لا يستجيب لدعاء أو نداء ولا يهتم بعباده أدنى اهتمام، فلم يعد عبد النور (أو بالأحرى: عبد الديجور) يعرف ماذا يعمل ليعالج نفسه، اللهم إلا أن يبيع بيته كما قال وينام فى الشارع هو وأولاده وزوجته. ولكن أين أملاك أسرته، ولم تكن بالأسرة الفقيرة التى يضيع ابن من أبنائها هذا الضياع المطبق، ولا بالأسرة المغمورة التى إن وقعت فى ورطة لم تجد من يتذكرها أو يمد يد المعونة إليها؟ وأين التأمين الصحى؟ بل أين ما يفعله كثير من الموظفين المصريين من طلب سلفة من البنك أو استبدال جزء من المعاش؟ إلا أنه نسى، لغبائه، أن يشرح لنا كيف حُلَّتْ مشكلته بعد إلحاده. أتراه باع ولدا من أولاده مثلا؟ أتراه قوَّد على زوجته وعالج نفسه من المرض بما كسبته من بيعها لشرفها كما فعلت بطلة فلم "أشرف خاطئة"؟ أم المقصود هو مكايدتنا بالإلحاد، والسلام؟ كذلك نسى أن يقول لنا ماذا كان رد فعل أولاده وزوجته وأسرته بعد إلحاده وتأليفه ذلك الكتاب ونشره. إن هذه ثغرات خطيرة لم يفكر فيها جيدا لأن المقصود هو إغاظة المسلمين لا غير بالحديث عن الإلحاد.
وأيا ما يكن الأمر فلا ريب أن الإيمان لا يصلح إذا اشترط صاحبه استجابة الله له فى كل ما يدعوه به وأن تكون حياته سعيدة على الدوام. ترى أى إيمان هذا؟ وكيف يمكن التمييز فى تلك الحالة بين المؤمن الحقيقى والمؤمن غير الحقيقى؟ نعم، كيف يكون إيمان دون محن وصبر؟ وكيف تُعْرَف حينئذ حقيقة إيمان فلان من علان؟ وهل هناك عالم بلا مشاكل ومتاعب وأمراض وموت وفقر؟ فأين ذلك؟ وكيف؟ ولو أن كل إنسان ابتُلِىَ فى ماله أو صحته او ولده أو وظيفته أو سمعته ولم تنقشع البلوى فى الحال عقب ابتهاله إلى الله فترك الإيمان لكفر الناس جميعا، إذ ما من إنسان فى الدنيا إلا وهو مبتلًى فى شىء من هذه الأشياء، أما السعادة الخالصة فهى كالعنقاء لا وجود لها فى الدنيا. وهذا أمر لا يشاحّ فيه أحد لأنه من حقائق الحياة الصلبة التى لا يصلح فيها إنكار ولا تزويق أيا كانت العقيدة التى يعتقدها الشخص!
والواقع أن هذا يُخْطِر على البال للتو ما يقرؤه الإنسان فى الإصحاح الثامن والعشرين من سفر "التكوين"، حيث يكتب مؤلف السفر عن النبى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كلاما لا نصدّق به لأنه لا يتناسب وشخصية الأنبياء، الذين كان حفيد الخليل عليه السلام واحدا منهم، إذ نراه يساوم ربه على الإيمان به والعبادة له طارحا عليه شروطًا إن حققها له آمن به واتخذه ربا له وأدى له فروض العبادة، وإلا... ولنقرأ: "10خَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ. 11وَصَادَفَ مَكَانًا وَبَاتَ هُنَاكَ لأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ، وَأَخَذَ مِنْ حِجَارَةِ الْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَاضْطَجَعَ فِي ذلِكَ الْمَكَانِ. 12وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُو َذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. 13وَهُو َذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ. الأَرْضُ الَّتِي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ. 14وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْبًا وَشَرْقًا وَشَمَالا وَجَنُوبًا، وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. 15وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ». 16فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: «حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ فِي هذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!». 17وَخَافَ وَقَالَ: «مَا أَرْهَبَ هذَا الْمَكَانَ! مَا هذَا إِلاَّ بَيْتُ اللهِ، وَهذَا بَابُ السَّمَاءِ». 18وَبَكَّرَ يَعْقُوبُ فِي الصَّبَاحِ وَأَخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَأَقَامَهُ عَمُودًا، وَصَبَّ زَيْتًا عَلَى رَأْسِهِ. 19وَدَعَا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ «بَيْتَ إِيلَ»، وَلكِنِ اسْمُ الْمَدِينَةِ أَوَّلا كَانَ لُوزَ. 20وَنَذَرَ يَعْقُوبُ نَذْرًا قَائِلا: «إِنْ كَانَ اللهُ مَعِي، وَحَفِظَنِي فِي هذَا الطَّرِيقِ الَّذِي أَنَا سَائِرٌ فِيهِ، وَأَعْطَانِي خُبْزًا لآكُلَ وَثِيَابًا لأَلْبَسَ، 21وَرَجَعْتُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِ أَبِي، يَكُونُ الرَّبُّ لِي إِلهًا، 22وَهذَا الْحَجَرُ الَّذِي أَقَمْتُهُ عَمُودًا يَكُونُ بَيْتَ اللهِ، وَكُلُّ مَا تُعْطِينِي فَإِنِّي أُعَشِّرُهُ لَكَ»".
ولقد صور القرآن شخصية الإنسان الذى من هذا النوع فى قوله تعالى: "ومن الناس من يعبد الله على حَرْف: فإن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه، خَسِر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين"، "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكرمه ونَعَّمه فيقول: ربى أكرمنِ. وأما إذا ما ابتلاه فَقَدَر عليه رزقَه فيقول: ربى أهاننِ. كلا". والقرآن لم يَعِدِ البشر فى أى موضع منه أن تكون حياتهم هناءة وسعادة مستمرة، بل قال على لسان المولى عز وجل بمنتهى الوضوح: "لقد خلقنا الإنسان فى كبد"، "ولنبلونَّكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات"، "لتُبْلَوُنَّ فى أموالكم وأنفسكم، ولتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتابَ من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور".
ولقد ألف الرجل كتابه كى يقول لنا إنه قد كفر بالله لأنه سبحانه لم يستجب له وأنه سوف يعتمد من الآن فصاعدا على نفسه وقدراته، فهل انحلت مشاكله بهذه الطريقة؟ وهل صار قادرا على تحقيق كل ما تصبو إليه نفسه؟ لا هو ولا أجعص جعيص فى الكون يستطيع أن يزعم شيئا من هذا. ثم أتراه يستطيع أن يثبت عدم وجود إله؟ أم تراه يزعم أنه هو إله نفسه؟ وقبل ذلك كله هل قال الله إنه سوف يحل كل مشكلة للإنسان فى هذه الدنيا؟ ثم إن الاستجابة للدعاء لها أكثر من صورة حسبما وضح لنا الرسول مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد.
وفى (ص237 وما بعدها) نجد الوسواس الخناس يقول إن وجود الله ليس عليه دليل، ومن ثم فلا معنى للألوهية، مع أن هذه المقدمة لا تؤدى إلى هذه النتيجة. ثم إنه يقول مع هذا إن الإنسان محتاج إلى الله حاجة الطفل إلى الأبوين. أفليس هذا دليلا آخر على وجود الله؟ وإلا فمن الذى غرس هذه الحاجة فى نفوسنا؟ ثم إننا بعد ذلك نراه (ص244) يسوق مبررات إنكاره لوجود الله، ليعود غير بعيد (ص247) فينكر أن يكون قد أنكر وجود الله أو يريد إنكاره. وفى موضع آخر نجده يؤكد أن من السهل إقامة الدليل على وجود الله وعلى عدم وجوده جميعا، بمعنى أن الإيمان بالله يشكل معضلة لا يمكن حلها، إذ من الميسور على المؤمن والملحد كليهما إقامة الدليل على صدق ما يعتقد به. وهذا، كما يرى القارئ، منتهى التخبط والتناقض. ومن العجيب أن عباس الهلاس بعد ذلك كله يريدنا أن نؤمن بأنه يتبع المنهج العلمى وأن كل ما يكتبه أو يعتقده إنما يجرى على أصول المنطق الذى لا يخر منه الماء! ومع هذا فقد سبق منه القول (ص50- 51) بأنه لا يريد من الناس أن تترك الدين لأن هذا مطلب شبه مستحيل، ثم سرعان ما يرتدّ مطالبا إياهم بترك الدين وإنكاره والكفر به.
ويقول (ص48) إنه سوف يطبق على القرآن منهج ديكارت الشَّكِّىّ، ولكن على نحو أفضل مما صنع ديكارت، الذى لم يستطع رغم ذلك (كما يقول) أن يمضى قُدُمًا مع منهجه فخامر، أى لم يُخْلِص لهذا المنهج كما ينبغى أن يكون الإخلاص فاستبعد تطبيق الشك من أمور الإيمان مع أن ذلك المنهج يستلزم أن يبدأ الباحث من الصفر فيشك فى كل شىء وينكر كل شىء ويحاول أن يثبت من جديد صحة كل ما يراه أو يسمعه أو يلمسه أو يذوقه، فضلا عن أى شىء يخطر له على بال أو يفكر فيه. فهل ترى عباس الهجاص قد أنكر كل شىء وبدأ من الصفر كما يقتضى هذا المنهج؟ بالطبع لا. إنما هى تهاويل وطنطنات وفقاقيع كلامية ليس إلا، يريد أن يوهم بها السذّج الأغرار أنه فيلسوف كبير وأنه سوف يكسّر الدنيا تكسيرا مع أنه شخص مسكين مختل العقل والشعور. وهنا يقول إن تطبيق المنهج العلمى على القرآن سوف يهدم القرآن، غافلا عن أن الله قد ألح على الإنسان فى تشغيل العقل قبل أن يختار الإيمان أو الكفر. وهو يستشهد هنا بالإمام أبى حامد الغزالى، صاحب رسالة "المنقذ من الضلال" التى حكى فيها عن أزمة الشك التى اعترته فى مرحلة من مراحل حياته، وانتهت به إلى بَرّ الإيمان واليقين بعدما حولها إلى منهج فلسفى محكم أخذه ديكارت دون أن ينسب ذلك اللصُّ الفضلَ لصاحبه، فضلا عن استبعاده تطبيق الشك على الإيمان على عكس الغزالى، الذى أخضع كل شىء عنده لذلك الشك حتى بلغ ما استراح به عقله من محنة القلق والارتياب.
وقد غفل عِبْس فى هذا السياق (لأنه مغفَّل بطبعه) عن أن الغزالى حين شك وأخضع كل شىء للمنهج العلمى إنما كان يأتمر بأوامر القرآن، مثلما أننى فى كتابَىَّ: "مصدر القرآن"، و"القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" إنما كنت أطبق المنهج العلمى ولا أومن إيمانا أعمى، ولكن دون طنطنات جاهلة كالتى يطنطن بها عبس الجاهل الغليظ العقل المنكوس الذوق الذى يتصور مع ذلك أنه أصح الناس عقلا، وأن ذوقه الأدبى واللغوى أحسن الأذواق ذوقا. كذلك فالصحابة حين آمنوا إنما أعملوا عقولهم: كل بطريقته، ولم يؤمنوا دون تفكير. وعلماء المسلمين حين درسوا واختلفوا إنما كانوا يعلمون عقولهم ولا يؤمنون إيمانا أعمى، وإلا لكان إيمانهم شيئا واحدا. ونبى المسلمين قد حث على الاجتهاد، أى على العلم والتفكير، وبين أن المجتهد مأجور سواء كانت النتيجة صوابا أو خطأ، وهو ما لا وجود له فى أى دين أو ملة أو مذهب أو فلسفة. فلم التساخف إذن؟ الواقع أنه لو كان هذا الكذاب مسلما من قبل حقا لما قال هذا الكلام.
وإلى القراء الكرام هذا المثال الذى يبين لهم كيف أن الصحابة لم يكونوا يؤمنون بالإسلام إيمانا أعمى. جاء فى "صحيح البخارى: "قال لنا ابن عباس: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار، فبلَغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلِّمْه وأتني بخبره. فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر،. فقلت له: لم تشفني من الخبر. فأخذت جرابا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد، قال: فمر بي عليٌّ فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء، قال: فمر بي عليٌّ، فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا. قال: انطلق معي. قال: فقال: ما أَمْرُك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمتَ عليَّ أخبرتك. قال: فإني أفعل. قال: قلت له: بلَغَنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له: أما إنك قد رَشَدْتَ. هذا وجهي إليه فاتبعني. ادخل حيث ادخل،. فإني إن رأيتُ أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت. فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: اعرض علي الإسلام. فعرضه، فأسلمت مكاني. فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. فقلت: والذي بعثك بالحق لأَصْرُخَنَّ بها بين أَظْهُرهم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا فضُرِبْتُ لأموت. فأدركني العباس فأكبَّ علي، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم! تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممرّكم على غفار؟ فأقلعوا عني. فلما أن أصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فصُنِع بي مثل ما صُنِع بالأمس، وأدركني العباس فأكبَّ علي، وقال مثل مقالته بالأمس. قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله".
وثم حديث يلقى بعض الضوء على موقف الإسلام من قضية الإيمان والكفر وحرية كل شخص فى اختيار الطريق التى يراها صحيحة دون أى إجبار من أحد حتى بعدما قويت شوكة الإسلام وصار قادرا، لو أراد، على أن يفرض نفسه بقوة السلاح. فعن سعيد بن جبير فى آية "لا إكراه في الدين" أنها "نزلتْ في الأنصار. قلت: خاصة؟ قال: خاصة. كانت المرأة منهم (أى من نساء الأنصار فى الجاهلية) إذا كانت نَزْرَةً أو مِقْلاتًا (أى قليلة الإنجاب) تَنْذِر لئن ولدتْ ولدا لتجعلنّه في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه. فجاء الإسلام، وفيهم منهم. فلما أُجْلِيَتْ النضير قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم. فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت "لا إكراه في الدين". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد خُيِّر أصحابكم: فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فأَجْلُوهم معهم".
كذلك يزعم عِبْس أن كتابه هو أول الكتب التى تهاجم القرآن ذاته على عكس المؤلفات السابقة، إذ كانت تلك المؤلفات تهاجم الكتب التى تتحدث عن القرآن لا القرآن ذاته. لكننا ننظر فى ص 86، و92- 109 فنراه يذكر بعضا من العلماء القدامى الذين هاجموا القرآن. إذن فليس هو أول من هاجم القرآن، وليس كتابه أول كتاب فى ذلك المجال. بل لقد كان هجوم بعض السابقين على القرآن أعنف من هجومه لأنه استثنى القرآن المكى من انتقاده وأقر له بوجه عام بالبلاغة العالية (ص70، 114 مثلا)، أما هم فلم يستثنوا من هجومهم شيئا: لا مكيا ولا مدنيا. وبالمناسبة فتفرقته هذه بين القرآن المكى والقرآن المدنى هى تقليد ببغاوى لما يردده المستشرقون بعامة، فهو لم يأت بشىء من عنده إذن. ليس ذلك فحسب، بل نراه (ص109) يقر بأن كلامه عن القرآن مسبوق غير جديد، وإن أضاف أن طريقته فى معالجة الموضوع تختلف عما كتبه الآخرون من قبل.
ومع ذلك فزعمه بأن ابن المقفع مثلا أحد من هاجموا القرآن هو زعم متهافت لا يصمد للنقد كما وضحتُ فى دراستى الطويلة عن هذا الموضوع فى المشباك، إذ بينت أن الرجل كان، فيما تقول كتاباته ومواقفه، إنسانا مؤمنا بالله وكتابه ورسوله، وليس فيما تركه وراءه من مؤلفات وأخبار ما يمكن الاستناد إليه فى اتهامه بالزندقة، فضلا عن الزعم بأنه فكر فى تقليد القرآن، ودعنا من أن يكون فعلا قد ألف كتابا يتحدى به الكتاب المجيد. وعنوان الدراسة التى وضعتها عن ابن المقفع ونفيت فيها ما قيل عن زندقته هو: "هل كان زنديقا؟ هل كتب معارضة للقرآن؟ كلمة فى عقيدة ابن المقفع".
وفى ص48 يعلن عباس الهجاص كفره بإله القرآن. فلماذا إله القرآن وحده، وهو قد كفر بالله عموما؟ ولماذا القرآن وحده، وليس الكتاب المقدس أيضا، وهو أحرى بأن يركز عليه أو على الأقل: أن يساويه بالقرآن، أو يلحقه به؟ لكنه قد عميت عيناه فعاد لا يرى إلا القرآن بعدما قال كلمةً سريعةً عابرةً فى مهاجمة المسيح والنصرانية، كلمةً لذر الرماد فى العيون ليس إلا. ومثلها انتقاده للقديس أوغسطين مثلما انتقد الغرالى (ص74). كذلك نجده فى ص49- 50، 65 وما بعدها يقول إنه قد كفر بالقرآن لما فيه من فرقعات كلامية لا طائل وراءها وعموميات فضفاضة لا يستطيع الإنسان أن يقبض منها على شىء، متجاهلا أن هذاالقرآن هو الذى غير وجه التاريخ ثقافة ودينا وسياسة واقتصادا كما قال هو نفسه من قبل حسبما مر بنا. وهذا دليل آخر على تخبطه وارتباك أفكاره وعقله.
وهو يؤكد هنا أن القرآن قد حكم على نفسه بالإدانة لأن فيه اختلافا كثيرا، وهو ما أنكره فى موضع آخر وجعل عدم وجوده مقياسا لصدقه. وقد مر بنا غير بعيد كيف أن مقدم الكتاب قد برَّأ القرآن مما حدث للمؤلف من كفر وتمرد، حاصرًا المسؤولية فى المسلمين. وأعجب من ذلك أن عباس يعود بعد قليل فيرمى القرآن يكل نقيصة ويحمّله وزر كل شىء. وهكذا يسود التخبط والتشنج والاضطراب كلام الرجل. ومع هذا فإنه، فى آخر الفقرة الثانية من ص 277، يقع فى فلتة من فلتات اللسان الكاشفة الفاضحة فيقول عقب فاصل طويل حاد من إنكار مطلق لوجود الله ورحمته: "ولكن الله سَلَّم"! فأى ارتباك عقلى وعقيدى هذا؟ وفى (ص85) نراه يصف طه حسين: بـ"المغفور له". أليس هذا أمرا مضحكا من رجل يعلن أنه كافر بالله واليوم الآخر؟ ترى ما معنى الاستغفار لطه حسين إذن؟ ومن سيغفر له إذن ما دام الله غير موجود كما يزعم عبس أبو عقل جِبْس؟
وهو يبذل كل جهده للبرهنة على أن أسلوب القرآن أسلوب غير معجز، قائلا إنه أسلوب عادى فيه وفيه، ومؤكدا أن أسلوب العقاد والتوحيدى والجاحظ وابن المقفع... إلخ أفضل من أسلوب القرآن، جاهلا بل متجاهلا أن هؤلاء العمالقة هم برغم أنفه وأنف من يستفزونه لمهاجمة القرآن يؤمنون أن القرآن هو من عند الله لا من عند محمد. بل إن الجاحظ والعقاد مثلا ينافحان بقوة عن الإسلام وكتابه الكريم. وبالنسبة إلى طه حسين فإنه، كما نعرف جميعا، يحرص على تقليد أسلوب القرآن فى ألفاظه وتراكيبه التى قلما يستعملها أحد الآن، ككلمة "فَصَل عن" (بمعنى "غادر")، و"إنْ كادوا ليفعلون كذا" (بمعنى "لقد كادوا أن يفعلوا كذا) مثلا. ومن يُرِدْ أن يطلع على المدى الشاسع لتقليد القرآن فى أسلوب طه حسين فليرجع إلى الفصل الذى كتبته عن مجموعته القصصية: "المعذبون فى الأرض" فى كتابى: "دراسات فى النثر العربى الحديث". فما رأى أبى العبابيس إذن؟ لا بل إن أسلوب عِبْس ليعكس تأثيرات قرآنية كثيرة ساطعة رغم كل ما قاله فى حق القرآن، مما يدل على أنه يعاكس ضميره الداخلى الذى يدرك كم أن أسلوب الكتاب المجيد معجزٌ ومسيطرٌ!
وهو يزعم أن مدح المسلمين للقرآن إنما سببه ما حققه القرآن من غلبة وسلطان، إذ للسلطة تأثيرها على العقول والأحكام (ص69). لكن فاته أن القرآن لم تكن له سلطة يوم آمن الناس به وتفانَوْا فى الدفاع عنه. ثم أى سلطان تتمتع به دولة الإسلام الآن حتى يظل كبار الكتاب والنقاد فى العصور الحديثة يَرَوْنَ فى أسلوبه المثال الأعلى فى البلاغة والأناقة؟ وبالمثل يزعم أن ركاكة القرآن قد لوحظت من قديم، ولكن إما أن ملاحظيها قد ماتوا فى الحروب ضد الإسلام وحُذِفت أقوالهم، وإما أنهم آمنوا ودخلوا فى دائرة التأثير القرآنى المشلّ للعقل (ص151). لكن لو كان الذين ماتوا قد قالوا شيئا ضد القرآن لرواه القرآن والمسلمون على عادتهم فى رواية كل شىء. وأما من آمنوا به فالسؤال هو: كيف آمنوا أصلا لو كانوا لاحظوا ركاكته، فى الوقت الذى كان ولا يزال يتحدى الجميع أن يأتوا بمثله؟ والمضحك أنه فى مواضع أخرى من الكتاب يتهم القرآن بأنه يناسب الشخصية العربية التى تفتتن بالألفاظ وتحب أن تتكلم ولا تقول شيئا، ومن ثم كان تأثيره الشديد على العرب. أى أن العرب افتتنوا به ولم يَرَوْا فيه شيئا من الركاكة كما يزعم! لكنه هو نفسه قد ذكر بكل فرحة وشماتة أن القرشيين كانوا يسخرون من القرآن ويتَحَدَّوْنه ولم يؤمنوا به بسهولة. فكيف يفسر هذا فى ضوء ما قاله؟ ثم كيف يفسر دخول غير العرب فى الإسلام من يومها وحتى الآن وإلى ما شاء الله؟ ألا يرى القارئ العزيز كيف يترنح الرجل متخبطا ذات اليمين وذات الشِّمال؟
ومُضِيًّا مع انتقاده لأسلوب القرآن الكريم فإنه يعترض على الحروف المقطعة قائلا إنها تدخل فى باب الغموض الذى يسىء إلى النص (ص40). وكان هذا الاعتراض يكون له معنى لو أن الأمر يتعلق بعبارات غير مفهومة المعنى. أما وأنها مجرد "حروف مقطعة" فالمتوقع ألا يكون لها معنى فى ذاتها. ومع هذا فالملاحظ أنه يعقبها فى كثير من الأحيان ما يفيد بأن آيات القرآن إنما قد رُكِّبَتْ من تلك الحروف، ومع ذلك عجز العرب عن الإتيان بمثلها رغم تحدى القرآن لهم بذلك، كما فى قوله تعالى فى أوائل سور البقرة والأعراف وهود والشورى مثلا: "الـم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)"، "الـمص‌ (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)"، "الـرْ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)"، "حم (1) عـسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". أما فى الحالات الباقية فمعظمها يقترب من هذا المعنى على نحو أو على آخر.
وقد قام بعضهم بإحصاء تردد هذه الحروف فى السور التى ابتدأت بها فوجد أنها تتكرر فى تلك السور أكثر مما تتكرر الحروف الأخرى، وأن نسبة ذلك التكرر تتسق مع ترتيب كل حرف فى هذه الحروف فى مطلع السورة. فإذا كان لدينا "الم" مثلا كما فى أول سورة "البقرة" فإن "الألف" تكون أعلى تلك الأحرف الثلاثة ترددا فى تلك السورة، يليها "اللام" فــ"الميم". وهناك من يرى أنها اختصارات لبعض أسماء الله الحسنى. وفى كتاب الدكاترة زكى مبارك: "النثر الفنى فى القرن الرابع" أن بعض المستشرقين يزعم أنها رموز موسيقية لضبط ترتيل السور التى افتُتِحَتْ بها. ومن الشبان المتعجلين غير الفاهمين من كتب مدعيا أنها كلمات مصرية قديمة، رغم أنه لا يعرف شيئا عن تلك اللغة بل لا يعرف شيئا عن اللغة العربية ذاتها. ومن المضحك أنه يقول إنها كلمات هيروغليفية مع أن الهيروغليفية ليست لغة بل نوعا من أنواع الخطوط كما نقول الآن: "خط الرقعة أو خط الثلث" مثلا، وهو ما يعطينا فكرة عن مستواه فى العلم والفهم.
ومع ذلك كله فليكن أن تلك الحروف إنما استعملت فى افتتاحيات بعض السور كى تثير التطلع والالتفات وتجذب الأذن، وبخاصة فى بدايات الوحى فى مكة. وكان المتنبى يتعمد فى بعض مطالع قصائده أن تكون لافتة للانتباه مثيرة للتعجب، كقوله مثلا:
ذي المَعالي فَلْيَعْلُوَنْ مَن تَعَالَى * هَكَذا هَكَذا، وَإِلاَّ فَلاَ لا
وفى العربية أداة تسمَّى: "ألا" الاستفتاحية، وهى من الكلمات التى لا تدل إلا على أن هناك كلاما قادما، فوظيفتها لفت الانتباه إلى ذلك الكلام. ولعل من المفيد هنا أن نذكر كلمة "well"، التى يبتدئ بها معظم الإنجليز كلامهم مع الآخرين دون أن يقصدوا من ورائها شيئا محددا، اللهم إلا لكى يعطوا أنفسهم مهلة للتفكير فيما ينبغى أن يردّوا به على من يخاطبهم. وليكن هذا مما أبدعه القرآن فى لغة الضاد، وما هذا بالشىء القليل؟ وللأدباء والفنانين إبداعات عجيبة من هذا الباب وأشباهه، وربما لا يكون لها معنى محدد، ومع ذلك فإنها تفعل فى النفس الأفاعيل.
ويفد على خاطرى الآن تقليد أسمهان لصوت الطيور فى أغنيتها التى لحنها لها مدحت عاصم: "يا طيور"، فقد كانت شيئا جديدا وبديعا فى حينها. وثَمَّ أغنية لمحمد فوزى لا يستعين فى موسيقاها بأية آلة، مكتفيا بالأصوات البشرية فى تقليد العود والكمان وما إلى ذلك. وقد سمعت أنه قد اضطُرَّ إلى ذلك اضطرارا، إذ غاب أفراد التخت ذات مرة، فلم يؤجل تقديم الأغنية، بل طلب من الجوقة أن تؤدى وظيفة الآلات فقبلوا، وكانت فتحا فى عالم التلحين، وإن لم يفكر أحد آخر فى انتهاج هذا الطريق مرة أخرى. وفى أغنية "الربيع" نسمع فريد الأطرش يترك الغناء فى منتصف الأغنية ويلقى بيتين من أبياتها إلقاء عاديا دون تنغيم، ليعود بعدها بقليل إلى التنغيم والتطريب. وفى مقدمة قصيدة "فجر" لرياض السنباطى نسمع كروان الإذاعة محمد فتحى يلقيها بصوته الأنيق العميق الذى يبدو للآذان وكأنه آتٍ من وراء الغيب، حتى إذا فرغ منها خطا السنباطى إلى الأمام ليقدم الأغنية كرة أخرى، ولكن بتطريبٍ وغناءٍ هذه المرة. أما أم كلثوم فقامت وحدها بالدورين معا فى قصيدة "حديث الروح"، التى ترجمها الشيخ الصاوى شعلان من أشعار محمد إقبال، إذ ألقتها أولا إلقاء عاديًّا، ثم عادت فغنتها، مبدعة فى الأداءين جميعا.
وهناك موال سمعناه من المطرب شفيق جلال ونحن شبان صغار فى بدايات ستينات القرن المنصرم يقول فيه مؤلفه سيد قشقوش:
أنا بَعَلِّمِ الصبر يُصْبُرْ علي صبر حبيبْ جارْنا
وبَقُول: يا صبر، صَبْرَكْ عَلِيهْ حتى يِجِي جارْنا
إنْ كانْ غِيرْنا حِلِي، واحْنا اللِّي مَرَّرْنا اللهْ يِهَوِّنْ عليكْ، واحنا يِصَبَّرْنا
قالْ: يا خُوخْ، خانونا الحبايبْ، واحْنا لَمْ خُنَّا
قال: يا لَمُون، لامُونا الحبايبْ، واحنا لم لُمْنا
قال: يا نبق، نبقي عيش وملح كانْ بِينَّا
قال: يا مشمش، مِشِينا فْ هواهمْ، واللي مِشِي هُمَّا
قال: يا نخل، إِخْلِي مكان واسمع ما كانْ بِينَّا
يا عود ريحان، رَيَّحْ قلوبْ سابق رَيَّحُوكْ هُمَّا يا تَمْر حِنَّهْ، رَحَلْنا وحَلُّوا منازلْنا
فأما عِبْس وأمثاله ممن طمس الله على قلوبهم وحرمهم من الذوق الأدبى والفنى فلسوف يقولون مستنكرين: ما علاقة الخوخ والليمون والمشمش والنخل والريحان وتمر الحنة بما نحن فيه؟ إن هذه فواكه وزهور، وهى للأكل والشم، وليست للشعر والغرام. إلا أن فى الموال رغم أنف عبس روعة وإبداعا وإيجاعا يرجع إلى هذا الجديد الذى لا يفهمه ولا يتذوقه أبو العبابيس! وأرجوك، يا قارئى العزيز، أن تأخذ بالك من جملة "لَمْ خُنَّا" و"لَمْ لُمْنَا" العجيبة التى دخلت فيها "لم" على الفعل الماضى، وهو غريبٌ جِدُّ غريبٍ، ومع هذا فهو جميلٌ هنا جِدُّ جميلٍ. ثم يأتى حسين السيد فى أغنية"حِنّْ"، التى يؤديها محمد عبد الوهاب، فيدفع استعمال "لم" خطوة أخرى إلى الأمام متحديا ما نعرفه من تركيب الكلام، قائلا على لسان الحبيب لحبيبه القاسى:
يا اللى زرعت الهوى فى قلبى، إمْتَى تِحِنّْ؟ عُزَّالى حَنُّوا عَلَيّا وإنْتا لَمْ بِتْحِنّْ مُدْخِلا "لم" والباء معا على المضارع، الذى لم تخلع عليه "لم" معنى الماضى، بل استمر يدل على الحضور والاستمرار، فصارت "لم" بمعنى "مُشْ" العامية لا أكثر ولا أقل. وهذا استعمال جديد بدلا من "مُشْ بِتْحِنّ"، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر. وما من مرة سمعت الأغنية ووصلت منها إلى هذا البيت بذلك التركيب العجيب إلا وهام ذوقى فى أودية الإبداع والاستمتاع. وملعون أبو خاش كل نطعٍ بليد!
ومن هذا أيضا التنويعات العجيبة التى أدخلها زكى مبارك على استعمال "أما بعد" كقوله مثلا: "وبعد، فأما بعد"، أو "ثُمّ أما بعد فقد..."، أو "أما بعد، وقد تعبتُ من أما بعد، فهذه ملاحظات أقدمها..."، أو "أما بعد، وقد أشقتنى أما بعد، فأنا أسارع إلى..."، أو "أما بعد، وقد أشقتنى وستشقينى أما بعد، فهذا قصيد فى...". وما زلت أذكر الدهشة التى اعترتنى حين سمعت فى الصبا الباكر أحد زملائنا فوق المنبر وهو يباغتنا قائلا بعد الديباجة الأولى فى خطبة الجمعة ونحن جلوس على حصير المسجد نرمقه فى مكانه العالى: "أما قبل"، فكانت شيئا مدهشا أثار اللغط والجدال بيننا فترة طويلة! ولو كان مبتدع عبارة "أما بعد"، التى كانت فى وقتها شيئا عجيبا مدهشا يحير العقول، يعرف أنها سوف يحدث لها كل هذا، وكان ضيق العطن كعِبْسِنا المتغشمر الهجام، ما كان ابتدعها!
ومما يُجْلِب أبو العبابيس ويَشْغَب به على القرآن باعتباره عيبا من عيوبه تلك القائمة التى أوردها السيوطى فى كتابه: "الإتقان فى علوم القرآن" من غريب الألفاظ فى كتاب الله، مع أنها كلها مفهومة، قائلا إن من العيب الشديد إيراد ألفاظ وعبارات غير مفهومة فى نص من النصوص (ص148). ومن تلك القائمة "سندس" و"قلوبنا غُلْف" و"مِدْرارًا" و"هيهات هيهات" و"يتمطَّى" و"جزاءً وِفَاقًا" و"أوّاب" و"أباريق" و"زنجبيل" و"ممنون" و"كواعب" و"أتراب" و"سرادق" و"شُوَاظ". وقد يكون السيوطى قَصَد بـ"الغرابة" أن تلك الألفاظ والعبارات لم تكن معهودة على نطاق واسع من قبل، وإن كنت أشك فى ذلك، إذ إنى لا أستطيع أن أجد فيها شيئا صعبا على الفهم. فليقل السيوطى إذن ما يشاء، فالعبرة بالواقع، والواقع يقول إن معظم الألفاظ التى أوردها السيوطى فى قائمته، إن لم تكن كلها تقريبا، مفهومة تماما لنا الآن، فما بالنا بعرب العصر النبوى؟
وحتى أُرِىَ القراء الكرام أن الأمر ليس على ما ادعاه عِبْس السخيف العقل أسوق هنا بعض شواهد من شعر الجاهليين والمخضرمين على تلك الألفاظ بما يبرهن أجلى برهان أن تلك الألفاظ كانت متداولة ومفهومة فى عصر النبوة وما قبله. قال سلامة بن جندل:
كَريحِ ذَكِيِّ المِسكِ بِاللَّيْلِ رِيحُهُ * يُصَفَّقُ في إِبريقِ جَعْدٍ مُنَطَّقِ
وقال تأبط شرا:
خَفَضتُ بِساحَةٍ تَجري عَلَينا * أَباريقُ الكَرامَةِ يَومِ لَهْوِ
وقال المتلمس الضبعى:
لَهُ جُدَدٌ سودٌ كَأَنَّ أَرَندَجًا * بِأَكرُعِهِ، وَبِالذِراعَينِ سُندُسُ
وقال زهير بن أبى سلمى:
هَيهاتَ هَيهاتَ مِن نَجدٍ وَساكِنِهِ * مَن قَد أَتى دونَهُ البَغْثاءُ وَالثَمَدُ
وقال عوف بن عطية بن الخرع:
فأَثنت تَقُودُ الخَيلَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * كَمَا انقَضَّ بَازٍ أَغلَفُ الرِّيشِ أَقتَمُ
(و"أغلف" هو مفرد "غُلْف". وقوله تعالى عن اليهود فى الآية من سورة "البقرة": "وقالوا: قلوبنا غُلْف" هو إشارة إلى ما جاء فى الكتاب المقدس عنهم هم وأشباههم من أن قلوبهم غير مختونة، أى مغلقة، فهم لا يريدون أن يفقهوا شيئا مما يقال لهم، عنادًا منهم واستهزاءً. وفى الإصحاح السابع فى سفر "أعمال الرسل" من أسفار العهد الجديد إشارة من إسطفانوس إلى هذا على سبيل التوبيخ والاحتقار: "51يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ! أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ!". ومن قبل نقرأ فى الإصحاح التاسع من سفر "إرميا": "25هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُعَاقِبُ كُلَّ مَخْتُونٍ وَأَغْلَفَ 26مِصْرَ وَيَهُوذَا وَأَدُومَ وَبَنِي عَمُّونَ وَمُوآبَ، وَكُلَّ مَقْصُوصِي الشَّعْرِ مُسْتَدِيرًا السَّاكِنِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، لأَنَّ كُلَّ الأُمَمِ غُلْفٌ، وَكُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ غُلْفُ الْقُلُوبِ" (uncircumcised in heart- incirconcis de coeur). وفى الإصحاح الرابع والأربعين من سفر "حزقيال": "6وَقُلْ لِلْمُتَمَرِّدِينَ، لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: يَكْفِيكُمْ كُلُّ رَجَاسَاتِكُمْ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ،7بِإِدْخَالِكُمْ أَبْنَاءَ الْغَرِيبِ الْغُلْفَ الْقُلُوبِ (uncircumcised in heart- incirconcis de coeur) الْغُلْفَ اللَّحْمِ لِيَكُونُوا فِي مَقْدِسِي، فَيُنَجِّسُوا بَيْتِي بِتَقْرِيبِكُمْ خُبْزِي الشَّحْمَ وَالدَّمَ. فَنَقَضُوا عَهْدِي فَوْقَ كُلِّ رَجَاسَاتِكُمْ... 9هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: ابْنُ الْغَرِيبِ أَغْلَفُ الْقَلْبِ (uncircumcised in heart- incirconcis de coeur) وَأَغْلَفُ اللَّحْمِ لاَ يَدْخُلُ مَقْدِسِي، مِنْ كُلِّ ابْنٍ غَرِيبٍ الَّذِي مِنْ وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ". وفى الإصحاح العاشر من سفر "التثنية" يتجه الخطاب إلى بنى إسرائيل على النحو التالى: "16فَاخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ، وَلاَ تُصَلِّبُوا رِقَابَكُمْ بَعْدُ".
وفى مادة "ختان" من "دائرة المعارف الكتابية" نقرأ عن المغزى الروحى فى الكتاب المقدس لعملية الختان ما يلى: "يتضح المغزى الروحي للختان من القول: "ويختن الربُّ إلهُك قلبَك وقلبَ نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا" (تث30: 6). ولا نظن أن نبيا مثل إرميا يعلق أهمية كبيرة على عمل سطحي كالختان لو لم يكن له مغزاه الروحي العميق. ولذلك يوبخ قومه بشدة بأنهم لا يَفْضُلون المصريين أو الأدوميين أو الموآبين أو العمونيين لأنهم "غُلْف القلوب" (إرميا9: 26). ويستخدم الرسول بولس لفظ "القطع" للدلالة على الختان الظاهري في الجسد غير المصحوب بتغيير روحي في القلب (في3: 2). كما يكتب في رسالته إلى الكنيسة في رومية: "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانا... وختان القلب بالروح لا بالكتاب (أي بالحرف) هو الختان الذي مَدْحُه ليس من الناس بل من اللـه" (رو 2: 28و29)". كما يتناول محرر المادة الاستعمال المجازى لعبارة "القلب الأغلف" قائلا: "والقلب الأغلف (أي غير المختون) هو القلب المغلق الذي لا يتأثر بأي كلام صالح، كما أن الأذن الغلفاء لا تقدر أن تصغي (إرميا6: 10)، والشفاه الغلفاء هي التي تتعثر في القول. ويأمرهم الرب قائلا:"اختنوا غرلة قلوبكم، ولا تصلِّبوا رقابكم بعد" (تث10: 16). كما يخاطب إستفانوس اليهود بالقول: "يا قساة القلوب وغير المختونين بالقلوب والأذان، أنتم دائما تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم، كذلك أنتم" (أع7: 51)".
ولقد كان المعنى واضحا تماما لمعاصرى النبى: فأما اليهود منهم فأمرهم مفهوم، وأما الوثنيون فحتى لو لم يكونوا يعرفون شيئا عن هذه الخلفية التى سقتها هنا فالعبارة تشبه قولهم هم أنفسهم ردا على دعوة النبى لهم بالدخول فى الدين الجديد: "وقالوا: قلوبنا فى أَكِنّةٍ مما تَدْعونا إليه، وفى آذاننا وَقْرٌ، ومن بيننا وبينك حِجَاب"، فلا غموض فيها على الإطلاق). وقال المسيَّب بن عَلَس:
وَكَأَنَّ طَعمَ الزَنْجَبيلِ بِهِ * إِذ ذُقْتَهُ وَسُلافَةَ الخَمرِ
وقال عدىّ بن وداع الأزدى:
كَأَنَّ مجامِعَ الهُلُباتِ منهُ * وَهادِيَها لميعادٍ وِفَاقِ
وقالت الخنساء:
يا عَينُ فِيضِي بِدَمعٍ مِنكِ مِغْزارِ * وَابْكِي لِصَخرٍ بِدَمعٍ مِنكِ مِدْرارِ
وقال النابغة الذبيانى عن الليل وتطاوله بالهموم:
تَطاوَلَ حَتّى قُلتُ لَيسَ بِمُنقَضٍ * وَلَيْسَ الَّذي يَرعى النُجومَ بِآئِبِ
(و"آئِب" هو اسم الفاعل من "آبَ يؤوبُ"، و"الأَوّاب" هو اسم المبالغة من "آئب"، أى الذى يرجع دائما إلى ربه كلما أذنب ذنبا فيتوب منه ولا يصر عليه). وقال لبيد بن ربيعة العامرى:
إِذا آرِقٌ أَفْنَى مِنَ اللَيلِ ما مَضَى * تَمَطَّى بِهِ ثِنْيٌ مِنَ اللَيلِ راجِحُ
وقال النابغة الجعدى عن لحم صيد شَوَوْه وأكلوه فى البرّية:
فاشتَوَيْنا مِن غَرِيضٍ طَيِّبٍ * غَيرِ مَمنُونٍ وَأُبْنا بِغَبَشْ
وقال امرؤ القيس:
فَجاءَت قَطُوفَ المَشْيِ هَيّابَةَ السُّرَى * يُدافِعُ رُكناها كَواعِبَ أَرْبَعَا
وقال عبد الله بن عجلان النهدى:
أَتَتْ بَينَ أَترَابٍ تَمَايَسُ إِذ مَشَتْ * دَبِيبَ القَطَا أَو هُنَّ مِنهُنَّ أَقْطَفُ
وقال جبر المعاوى:
وَقَد لَفَّ شَخْصَيْنا سُرادِقُ هَبْوَةٍ * فَخانَكَ صَبرٌ يَومَ ذَلِكَ مُخْدَجُ
وقال عدى بن زيد:
في حَديدِ القِسْطاس يَرقُبُني الحا رِسُ، وَالمَرءُ كُلَّ شَيءٍ يُلاقِي
وقال أمية بن ابى الصلت:
يَظَلُّ يَشُبُّ كيرًا * وَيَنفُخُ دائِبا لَهَبَ الشُّوَاظِ
ولنفترض أن تلك الكلمات هى فعلا كلمات غريبة، فمن قال إن هذا عيب؟ إن من يقول ذلك ساذج أحمق لأنه يريد أن يسوى بين مستعملى اللغة، وبالتالى لا ينبغى أن يستخدم أى منهم لفظة لا يعرفها الآخرون، وهو ما يذكرنا بما كان الشيوعيون الحمقى يدعون إليه قائلين إنه لا ينبغى أن يزيد أى من الناس عن غيره فى مقدار ما يمتلك من مال، إلى أن اكتسح التاريخ الشيوعية والشيوعيين إلى مزابله جزاءً وِفَاقًا على ضيق عطنهم وتصلب أمخاخهم وغَلَف قلوبهم! إن مستعملى اللغة يتفاوتون بالضرورة كما يتفاوت الناس فى كل شىء، فما بالنا بخالق اللغات كلها؟ والواجب على من لا يعرف أن يجتهد فيتعلم ما لم يكن يعلم، وإلا بقيت الأمور على ما هى عليه يوم خلق الله الدنيا فى مبتدإ الأمر دون تطور أو تقدم. لكن ماذا نقول للحمقى المتاعيس؟
وفى ص 152 يستمر الوسواس الخناس فى تخطئة أسلوب القرآن الكريم فيزعم أن باب الالتفات (أى تغيُّر الضمير للشخص الواحد فى نفس الجملة من الخطاب للغيبة مثلا، أو من الغيبة إلى التكلم... إلخ) قد اخْتُرِع لتغطية العيب الموجود فى آية "يونس" وأمثالها، إذ تَسْتَعْمِل تلك الآيةُ أولا ضميرَ المخاطبين فى خطابه عزّ وجلّ إلى البشر: "يُسَيِّركم، كنتم"، ثم يتغيّر الضمير من الخطاب إلى الغَيْبة فيقول سبحانه عنهم هم أنفسهم: "بهم، فرحوا، جاءهم، دَعَوْا". ونص الآية: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)". إن عِبْس يعيب الآية الكريمة ويتهمها بالركاكة والضعف والخطإ لاستعمالها هذا التركيب، مع أنه موجود فى الشعر العربى الجاهلى من قَبْل القرآن، وكذلك فى اللغات الأخرى.
وعلى كل حال فقد وجه السيوطى مثلا فى "الإتقان" الآية على النحو التالى، إذ قال عن الالتفات فى كتاب الله المجيد: "ومثاله من الخطاب إلى الغيبة: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏"،‏ والأصل: "بِكُمْ". ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم التعجب من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة. وقيل: لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل "هو الذي يسيركم في البر والبحر‏". فلو كان "وجرين بكم" لَلَزِمَ الذَّمُّ للجميع فالتفتت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنُهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عُدُولا من الخطاب العام إلى الخاص‏. ‏قلت‏:‏ ورأيت عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك، وهو أن الخطاب أوله خاصّ، وآخره عامّ. فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏"‏، قال‏:‏ ذَكَرَ الحديثَ عنهم، ثم حدَّث عن غيرهم، ولم يقل: "وجرين بكم" لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم: "وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق". هذه عبارته. فلله دَرُّ السَّلَف! ما كان أوقَفَهم على المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانًا طويلا ويُفْنُون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أن يحوموا حول الحِمَى‏!‏‏".
وفى "الإيضاح فى علوم البلاغة" للقزوينى: "التكلم والخطاب والغيبة مطلقا يُنْقَل كل واحد منهما إلى الآخر، ويسمى هذا النقل: "التفاتا" عند علماء المعاني، كقول ربيعة بن مقروم:
بانت سعادُ فأمسى القلب معمودا * وأخلفتك ابنةُ الحُرِّ المواعيدا
فالتفت كما ترى حيث لم يقل: "وأخلفتْني"، وقوله:
تذكرتَ، والذكرى تهيجك، زينبا * وأصبح باقي وصلها قد تقضَّبا
وحَلَّ بفلجٍ فالأباتر أهلُنا * وشطَّتْ فحَلَّتْ غمرةً فمثقّبا
فالتفتَ في البيتين...
مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: "وما ليَ لا أعبد الذي فَطَرني وإليه تُرْجَعون". ومن التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر* فَصَلِّ لربك وانْحَرْ". ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة:
طحا بك قلبٌ في الحسان طَرُوبُ * بُعَيْدَ الشباب عَصْرَ حانَ مَشِيبُ
يكلِّفني ليلى، وقد شط وَلْيُها * وعادت عوادٍ بيننا وخطوبُ
ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه". ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: "مالك يوم الدين* إياك نعبد"، وقول عبد الله بن عنمة:
ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهمو * كما يراه بنو كوز ومرهوبُ
إن تسألوا الحق نُعْطِ الحقَّ سائلَه * والدرعُ مُحْقَبَةٌ، والسيف مقروبُ
وأما قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالإثمدِ * ونام الخليُّ ولم ترقدِ
وبات، وباتت له ليلةٌ * كليلة ذي العاثر الأرمدِ
وذلك من نبأٍ جاءني * وخُبِّرْتُه عن أبي الأسودِ
فقال الزمخشري فيه ثلاث التفاتات...
واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام. ووجه حسنه، على ما ذكر الزمخشري، هو أن الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد...".
وكثيرا ما يستعمل المتكلم لنفسه ضمير الغائب فيقول مثلا: "العبد لله هو صاحب هذا الإنجاز، ولا فخر"، أو "محسوبك (ويقابلها فى الإنجليزية: "your (humble) servant") يرجوك أن تفعل الأمر الفلانى"، أو "كاتب هذه السطور (ويقابلها فى الإنجليزية: "the present writer") يعتقد أن الصواب هو كذا وكذا"... إلخ. وقد انتشرت هذه الأيام فى رسائل الماجستير والدكتوراه قول الطالب عن نفسه: "ويرى الباحث أن..."، مستعملا هو أيضا ضمير الغائب رغم أنه إنما يتحدث عن نفسه، فكان المتوقع أن يستخدم ضمير المتكلم. كذلك يستعمل طه حسين لنفسه فى كتاب "الأيام" كلمة "صاحبنا" أو "صبيّنا" "أو "شيخنا الصبى" أو "الصبى" أو ضمير الغائب مباشرة، ولم يحدث أن لجأ فى الحديث عن ذاته إلى ضمير المتكلم قط. وفى "دروس من القرآن الكريم" للشيخ محمد عبده نجده يقول مثلا فى بداية فصل "العلم والتعليم": "إن بعض إخواننا الذين عرفناهم فى تونس قد طلبوا من الفقير مسامرة أو محاورة... ثم قالوا: درسا، فسألنى بعضهم عن ذلك، فقلت: نعم هو درس، ولكن لا تظنوا أنه درس فى تحقيق مسألة علمية، فإن عندكم من جِلَّة العلماء من نعترف بفضلهم... أما هذا الفقير فرجل سائح قصدتُ هذه الديار للتعرف ببعض المسلمين والنظر فى أحوالهم وأمور دينهم...". ففى هذه السطور تحدث الشيخ عن نفسه مرة بضمير جماعة المتكلمين، ومرة بضمير المفرد الغائب، وثالثة بضمير المتكلم المفرد، وكل ذلك فى سطور معدودات، وعلى نحو متعاقب لا يفصل بين المرة والمرة زمن على الإطلاق.
وفى قصة "قاسم" من مجموعة "المعذبون فى الأرض" يكتب طه حسين: "وفى القارئ حب للاستطلاع أقل ما يوصف به أنه يضايق الكاتب ويأخذ عليه الطريق، ويضطره إلى الوقوف حين كان يؤثر المضى فى كتابته أو يضطره إلى الاستطراد حين كان يفضل ألا يتجاوز الموضوع الذى يعرضه أو يقول فيه. والقارئ لا يكفيه ما أنبأتُه به من أن هذه الفتاة قد تغفلت أمها وانتهزت غيبة أبيها وانسلت من بيتها فى ظلمة الليل... القارئ لا يكتفى بهذا، وإنما يجب أن يعرف كيف نشأت هذه الصلة المبكرة بين فتاة فى السابعة عشرة ورجل قد جاوز الشباب، وهو زوج عمتها. ولولا أنى أرفق بالقارئ ولا أحب أن أَشُقّ عليه... لمضيتُ فى الحديث كما بدأته و لأبيتُ الانحراف إلى هذه الصلة البغيضة لأن الحديث عنها بغيض. ولكن لا بد مما ليس منه بد، فمن حق الكاتب أن يذهب ما شاء من المذاهب فى كتابته، ولكن من حق القارئ أيضا أن يفهم فى وضوح وجلاء ما يقدم إليه الكاتب من المقالات والفصول"، مراوحا بين استعمال ضمير الغائب (أو كلمة "الكاتب") وبين ضمير المتكلم فى الحديث عن نفسه، منتقلا بين هذه إلى تلك، أو من تلك إلى هذه، بغتة وعلى غير انتظار منا أو توقع.
وفى قصة "المعتزلة" من نفس المجموعة بينما نراه يتحدث عن القراء أو القارئ بصيغة الغائب إذا به فجأة يتجه إلى قارئه بالحديث المباشر مستخدما كلمة "يا سيدى". وفى قصة "رفيق" من ذات المجموعة نجده يتحدث عن بطل القصة بضمير الغائب أو مستعملا له كلمة "الصبى"، لنفاجأ فى منتصف القصة بانحراف الضمير فى الحديث عن الصبى إلى صيغة المفرد المتكلم دفعة واحدة دون أى تمهيد.
أم ترى عِبْس يقول بأننا، نحن والأوربيين، وطه حسين بالذات (وما أدراك ماطه حسين وموقفه من كتاب الله؟) نفعل كل هذا من أجل تغطية العيب الذى فى القرآن؟ إنه لأحمق عريق فى الحماقة! ترى أكان كفار العرب ومنافقوهم ويهودهم ونصاراهم يسكتون فلا يشنعوا على القرآن لو كان هذا خطأ فى الأسلوب؟ ثم ما الذى أوقع النبى فى هذا الخطإ لو كان هو مؤلف القرآن على ما يريد عِبْس أن يزرع فى النفوس؟ ترى هل يمكن أن يقع الإنسان فى لغته فى خطإ من هذا النوع ويتكرر منه كثيرا؟ ومع هذا كله نراه (ص154) يزعم أن من أهم أسباب نشأة علم البلاغة (علم البلاغة كله هذه المرة لا باب "الالتفات" فقط) فى لغة العرب الدفاع عن أخطاء القرآن، مع أن شواهد هذا العلم مستقاة من الشعر أولا وقبل كل شىء، علاوة على أن هذا العلم موجود فى كل اللغات، ومنها اليونانية القديمة والسنسكريتية مثلا. وانظر فى ذلك ما كتبه الجاحظ فى "البيان والتبيين" لدن شرحه لمعنى البلاغة عند عدد من الأمم المختلفة.
وفى الإنجليزيةمثلا يوجد الـ"Apostrophe"، الذى يعرّفه Percival Vivian فى معجمه المسمى: "A Dictionary of Literary Terms"بأنه "The rhetorical figure which consists ofbreaking off from some previous method of address to address some person or thing in the second person, as De Quincey : 'Dismissing her — not to any Thessalian vales of Tempe, but— O ye powers of moral anachronism—to the Chester Post Office". كما يعرّفه Thomas O. Sloane محرر "Encyclopedia of Rhetoric" (ط2001م) قائلا: "Apostrophē: Traditionally, the Greek term apostrophē (Lat. aversio) has designated the rhetorical devicethat indicates the momentary interruption of discourse, in order to address—often in a vehement tone—areal or imaginary, present or absent, human or nonhuman, living or dead addressee, different from theoriginal addressee of that discourse. This interruption is characterized linguistically by a change from onediscursive type to another—as when, for example, one inserts in an expositive–narrative modality, modalities associated with the expressive and appellative functions of language".
ثم هَبِ القرآنَ قد اخترع هذا الأسلوب على غير مثال سابق فى العربية أو فى سواها من اللغات، فما وجه العيب فى هذا البِدْع الكريم إلا فى نظر مَنْ فى بصائرهم عَمًى، وفى أذواقهم فساد؟ إن هناك كتبا همها رصد الأوائل فى هذا المجال أو ذاك من مجالات الحياة، ومنها كتاب "الأوائل" لأبى هلال العسكرى، وكتاب "الأوائل" للطبرانى، وكتاب "الأوائل" للشيبانى، وكتاب "الأوائل" للجراعى، و"المصنَّف" لابن أبى شيبة، و"معجم الأوائل فى تاريخ العرب والمسلمين" لفؤاد صالح السيد، و"موسوعة جينيس"، إذ الريادة والإبداع ليسا بالأمر الهين، بل يجلبان لصاحبهما المجد والحمد. وفى "الشعر والشعراء" لابن قتيبة مثلا ثناء على امرئ القيس، وامرؤ القيس هنا مجرد مثال، لأنه أول من استوقف صاحبه وبكى الديار، وأول من وصف الحصان بأنه قَيْد الأوابد. أفيظن العِلْج الفَدْم أنه مما يعيب القرآن أن يكون أول من ابتدع أسلوب الالتفات؟ ألا إنه لمطموس العقل والمنطق إذن، عديم الحس والشعور!
ومن سخافة عباس بن نسناس وتنطعه أيضا إنكاره على القرآن استعمال كلمة "الأيمن" فى قوله تعالى من سورة "مريم" عن موسى عليه السلام، وهو فى طريقه من أرض مدين إلى مصر: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)"، إذ يعلق متهكما: "أنا لا أفهم أى معنى لكلمة "أيمن" فى شعاب واسعة لا معالم لها، وكل شىء يصلح أن يكون على يمين شىء آخر أو على يساره. فالجهات من المضاف، أى ليس لها معنى مطلق، بل هى نسبية يتحدد معناها بالقياس إلى غيرها" (ص142). ومع ذلك فهو قد أجاب على سؤاله، لكنه أغلف القلب والعقل والضمير، ولهذا لم يفهم كيف يستخرج من كلامه الجواب على ما طرحه من سؤال. ألم يقل إن الجهات هى من الأمور النسبية؟ إذن فجانب الطور المذكور بالنسبة لموسى هو عن يمينه حين كان المولى يخاطبه. أترى فى الأمر مشكلة تستحق كل هذا التنطع؟ أما إن كان لا بد أن تحبّكها يا عبس أكثر وأكثر فقل: عن يمينه وهو قادم من مَدْيَن شرقا، ومُيَمِّمًا مصر غربا: "فلما قضى موسى الأجلَ وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا...". أليس كذلك؟
وفى ص155- 157 يزعم أن قوله تعالى فى الآية 106 من سورة "النحل": "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْغَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" غير قابل للفهم أبدا. قال الجاهل الغبى هذا رغم أنه كلام ساطع الوضوح. وهذا نص تهكمه: "أستحلفكم بمن تحبون: هل فهمتم شيئا؟ قلت فى نفسى: لعل فى هذه الآية خطأ فى النسخ أو لعل فيها كلمة ناقصة أو كلمة محرفة. فرجعت إلى طبعات مختلفة من النسخ كتبت فى أزمنة مختلفة عسى أن أجد بينها اختلافا ما، ولكن عبثا. فهناك تطابق تام بين جميع النسخ، وفى جميع الأزمان والأمكنة. هل هذا حقا كلام رب العالمين الذى تحدى الإنس والجن ان يأتوا بمثله؟ أعان الله المفسرين الذين ينحتون الصخر ليحصلوا على قليل من الماء. إن جميع المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها يتلون هذه الآية صباح مساء فى صلواتهم وعباداتهم ويسمعونها فى إذاعات القرآن الكريم من غير أن يشعر أى منهم بأى ضعف فيها أو تشويش أو نشاز. لقد تكسرت النِّصَال على النِّصَال فلا يبالى المؤمن على أى جنب كان "مقتله"، فقد تبلد الحس اللغوى ورثَّتْ ذائقته وضعفت سليقته. لقد مات الشعور بالنشار فيه فيما يتصل بآيات القرآن فقط، وبقى سليما معافى فى كل شىء آخر. كل شىء فيه لا يزال على فطرته الأولى، بل ازداد دقة وأداء واكتسب مهارات وقدرات ومواهب فى كل شىء إلا ها هنا... ولعل هذا الكتاب يُحْدِث لديهم أو لدى طائفة منهم على الأقل صدمات موجعة، فهناك فن جديد من العلاج هو العلاج بالصدمات".
وجوابى على هذا الكلام هو أن الله، حقا وصدقا، قد تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لكنْ لم يحدث أن تحدى الحمير أن يفهموه، فشتان هذا وذاك أيها الحمار المسمى: عِبْس! ذلك أن الحمار فى القرآن رمز على الغباء وعدم القابلية للفهم: "مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراةَ ثم لم يَحْمِلوها كَمَثَل الحمار يَحْمِل أسفارا". وماذا تصنع الحمير بالكتب التى تحملها فوق ظهرها؟ لا شىء! ولقد وقعتَ يا ذا الحوافر فى أكثر من غلطة: فأولا قد فصلت الآية عن الآية التى قبلها رغم ارتباطهما عضويا، إذ إن آيتنا الحالية هى بدل من الاسم الموصول المذكور بالآية السابقة. هكذا: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْغَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)". وثانيا حتى لو تابعناك على فصلك الآيتين فليس ثم أسهل من فهم الآية الثانية على وضعها هذا، إذ يكون معنى الكلام كالآتى: "إن من يكفر بالله من بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وله عذاب شديد، إلا إذا كان كفره على سبيل الإكراه، وكان كفرا ظاهريا لم يتغلغل فى قلبه ولم ينشرح له صدره". ترى ما وجه الصعوبة يا عبس فى فهم هذه الآية، إلا أن يكون المتصدى لفهمهما حمارا مثلك؟ وإذا كنتَ قد تحدثتَ عن العلاج بالصدمات فإننا نتحدث عن نوع آخر من العلاج هو العلاج عن طريق الصفع بالجزم والانهيال بها على وجوه بعض الحمير من البشر. وهو علاج مجرَّب وثبتت نجاعته! بالله أعندك بعض شىء من الدم؟ أمثلك يخطِّئ القرآن؟ أفى هذه الآية أية صعوبة يا أيها التافه الغبى؟ ألا لعنة الله على الغبيين التافهين من أمثالك من هنا إلى يوم الدين!
وفى "أسباب النزول" للواحدى نقرأ عن هذه الآية ما يلى أيها الحمار: "قال ابن عباس‏:‏ نزلت في عمّار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسرًا وأمه سمية وصُهَيْبًا وبلالا وخَبّابًا وسالمًا: فأما سمية فإنها رُبِطَتْ بين بعيرينووُجِئَ قُبُلُها بحربة، وقيل لها‏:‏ إنكِ أسلمتِ من أجل الرجال. فقُتِلَتْ وقُتِل زوجها ياسر. وهما أول قتيلين قُتِلا في الإسلام‏.‏وأما عمّار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. فأُخْبِر النبي صلىالله عليه وسلم بأن عمارًا كفر، فقال‏:‏ كلا إن عمارًا مُلِئَ إيمانًا من قَرْنه إلىقَدَمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمارٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يمسح عينيه، وقال‏:‏ إنْ عادُوا لك فعُدْ لهم بماقلتَ. فأنزل الله هذه الآية‏.‏وقال مجاهد‏:‏ نزلت في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم المسلمون بالمدينة أنْ: هَاجِروا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا. فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم مكرهين. وفيهم نزلت هذه الآية".‏
وفى ص157 - 158 يزعم عِبْس أن قوله تعالى على لسان موسى لفرعون: "وتلك نعمةٌ تَمُنُّها علىَّ أنْ عَبَّدْتَ بنى إسرائيل" غير قابل للفهم لأن فيه خَرْمًا، أى سقطت منه بعض الألفاظ، ويقترح إضافة من عنده لتكمل الآية ويتضح المعنى، مع أن الآية واضحة تماما، فهى لون من الاستفهام الإنكارى. قال، فَضَّ الله فاه، وعَمِيَتْ عيناه: "وهاكُمْ آيةً أخرى تشبه الآية السابقة فى الضعف والركاكة لم أفهم منها شيئا، فسَرِّحوا النظر فيها لعلكم أَحَدُّ منى بصرا وأكثر فهما، على أن تبتعدوا عن المفسرين الميامين الذين يجدون فيها كل شىء! لا بأس أن ترجعوا إلى كتب التفسير بل يجب أن ترجعوا إليها، على أن يكون ذلك بمنتهى الحذر: "وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ؟" (26/ 10- 11). وفى حواره مع فرعون سأله هذا: "أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)".
الآية اللغز هنا هى الآية الأخيرة، وما سبق من الآيات فهو تمهيد لها. اقرأوها ثم أعيدوا قراءتها مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ وعُشَارَ، وزيدوا فى القراءة ما تشاؤون، وقولوا لى بصدق وإخلاص: "أفهمتم شيئا؟"، وأنا لكم من الشاكرين. أنا لم أفهم كيف يكون التعبيد (أى الاستعباد كما يقول المفسرون) نعمة يمنّ بها فرعون على موسى. وإذا أُرِيدَ لهذه الآية أن يكون لها معنى فلا بد من قراءتها على الشكل التالى: "وتلك نعمةٌ يمنّها الله علىَّ". أى "أن أكون من المرسلين نعمةٌ يمنّها الله علىَّ". أما بقية الاية: "أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" فهى محرفة لا معنى لها، أو هى بقية آية منسوخة أو شىء من هذا القبيل. وقد تلقاها النساخ والقراء والمقرئون على الوجه الذى ورد فى القرآن كما يتلقى الصُّمّ والبُكْم والعُمْى ما يُلْقَى إليهم بلا اعتراض ولا معارضة، بل يقولون: "كُلٌّ من عند ربنا". وجاء المفسرون من بعدهم فلم يجرؤوا على إحداث أى تغيير فيها، وتفننوا فى اختلاق شتى المعانى لها، ولم يقل أى منهم: لا ترهقوا أنفسكم، فالآية على هذا الوجه لا معنى لها!".
وأول شىء أود أن أعقّب به على هذا القىء بل على هذا السَّلْح الفكرى هو إقرار عبيطنا الأخرق أن المسلمين لم يفكروا فى المسّ بالنصّ القرآنى رغم كل شىء. فما دلالة هذا لدن العقلاء المحترمين؟ أليس أن المسلمين لا يعرفون تحريف النصوص المقدسة؟ ألا يعنى هذا أنهم قوم محترمون؟ ألا يعنى هذا أنهم أهل للثقة أحرياء أن يطمئن إليهم الآخرون؟ أما هو فلأنه من قوم ضَرِيَتْ أيديهم (أى تأكلهم أيديهم) على التحريف نراه يدعونا إلى العبث بالنص وتغييره! فلعنة الله على المحرفين العابثين!
وثانى شىء هو إعادة ما قررناه قبل قليل من أن الكلام الذى قاله موسى لفرعون هو استفهام إنكارى، ولكننا نقوله هذه المرة بشىء من التفصيل. ولقد طرحتُ هذا التفسير بمجرد أن قرأت اعتراض ذلك السالح وقبل أن أنظر فى أى كتاب من كتب تفسير القرآن. ثم عدت إلى بعض تلك الكتب لأنظر فيما قالته فوجدت الطبرى مثلا يقول ضمن تفسيرات أخرى: "وقال آخرون: هذا استفهام كان من موسى لفرعون، كأنه قال: أتـمنّ علـيّ أن اتـخذت بنـي إسرائيـل عبـيدا؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، فـي قوله: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَـمُنُّها عَلـيَّ". قال: يقول موسى لفرعون: أتـمنّ علـيّ أن اتـخذت أنت بنـي إسرائيـل عبـيدا؟ واختلف أهل العربـية فـي ذلك، فقال بعض نـحويـي البصرة: "وتلك نعمة تـمنّها علـيَّ؟"، فـيقال: هذا استفهام كأنه قال: أتـمنها علـيّ؟ ثم فسَّر فقال: "أنْ عَبَّدتَّ بَنِـي إسْرَائِيـلَ" وجعله بدلا من النعمة".
وفى "فتح القدير" للشوكانى: "وقيل: هو مِنْ موسى على جهة الإنكار. أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم، وهم قومي؟ قال الزجاج: المفسّرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار: بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر. وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي في اليَمّ. فكأنك تمنّ عليّ ما كان بلاؤك سببا له... وقيل: إن في الكلام تقدير الاستفهام. أي "أَوَتلك نعمة؟"... قال الفراء: ومن قال إن الكلام إنكار قال: معناه "أَوَتلك نعمة؟" ومعنى "أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرٰئيلَ": أنِ اتخذتَهم عبيدا".
وفى تفسير سيد قطب: "فى ظلال القرآن": "ثم يجيبه (أى يجيب موسى فرعون) تهكمًا بتهكم، ولكنْ بالحق: "وتلك نعمة تمنها عليَّ أن عَبَّدْتَ بني إسرائيل"، فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جَرّاء استعبادك لبني إسرائيل وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربَّى في بيتك لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه عليَّ؟ وهل هذا هو فضلك العظيم؟".
ويقول دَرْوَزَة فى "التفسير الحديث": "وتلك نعمةٌ تمنّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل: أوّل بعض المفسرين الآية بأنها تعني قول موسى: هل هذه نعمة تمنها عليّ مع أنك استعبدت قومي بني إسرائيل؟ وأوَّلَها بَعْضُهم بأنها تعني قول موسى: إن استعبادك لبني إسرائيل كان نعمة عليّ لأنه جعلني أفرّ، فرعاني اللّه وجعلني من المرسلين. ونحن نختار الأول". فالمسألة، كما يرى القارئ، لا تستدعى كل هذا اللغط الذى أراد إحداثه هذا الأحمق ظنا منه أنه سوف يبذر بذور التشكيك فى النص القرآنى. ولكن هيهات ثم هيهات! ويتبقى تفسيره للأمر بأنه من المحتمل أن يكون الكلام "بقية آية منسوخة"، وهو تفسير يدل على أنه جاهل بالثلث، إذ النسخ لا يقع إلا فى الأمور التشريعية. أما هنا فنحن إزاء وقائع تاريخية لا تقبل النسخ، لأن التاريخ قد مضى وانقضى فلا رجعة فيه، ومن ثم فلا نسخ.
وبالمثل ينتقد عِبْس الآيات التالية من سورة "الزُّمَر": "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)" قائلا: "هذه الآيات هى فى رأيى من الروائع لولا أن فيها عيبين شوها جمالها كفتاة رائعة الجمال نبت الشعر فى شاربها وذقنها. لكن دوران الألسنة بهذه الآيات طويلا أخفى التشويه كما تخفى المساحيق عيوب وجه الحسناء: فهناك عدم توازٍ بين الآيات التى تصف دخول الذين كفروا إلى جهنم ودخول الذين اتَّقَوْا. فعندما سيق الذين كفروا إلى جهنم ووصلوا إليها فُتِحَتْ لهم أبوابها. فالوصول أدى إلى فتح الأبواب. أى لقد جاءت المقدمة: "الوصول"، وتبعتها النتيجة فى الحال. ولكن ذلك لم يحدث ما يوازيه للذين اتَّقَوْا، فالآيات التى تصف وصول هؤلاء هى، فى الظاهر على الأقل، مجموعةُ مقدماتٍ بلا نتيجة، وإن كانت النتيجة معروفة بالاستنتاج: النتيجة فى الآيات الأولى معروفة لفظا واستنتاجا، وأما فى الآيات المتبقية فالنتيجة معروفة استنتاجا فقط. وبعبارة أكثر تبسيطا نجد فى آية المتقين "واو العطف" زائدة شوهت المشهد كله حتى ليظن الإنسان أن هذه الآية لا جواب لها. فى الآية الأولى يأتى الجواب فى الحال: "حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها"، بينما لا جواب فى الآية الثانية لدخول حرف العطف: "حتى... وفُتِحَتْ". فكيف انزلقت هذه الواو الثقيلة هنا؟ يقولون إنها زائدة. ولكنها زيادة على حساب أهل الجنة المتلهفين لمعرفة مصيرهم! فإذا فعلتُ ذلك أنا وأنت عُدَّ تقصيرا منا، ولكنْ إذا فعله القرآن فهو إعجاز. مسكينان أنا وأنت!" (ص160- 161).
وأولا نتوقف لدن دعواه بأن فى الآيات "عيبين شوها جمالها كفتاة رائعة الجمال نبت الشعر فى شاربها وذقنها. لكن دوران الألسنة بهذه الايات طويلا أخفى التشويه كما تخفى المساحيق عيوب وجه الحسناء" لنلفت النظر إلى ما فيها من مغالطة، إذ يزعم أن طول الزمن وكثرة التلاوة قد غطا على عيب الآية، متناسيا بسلامته أن الآية قد استُعْذِبَتْ واعتقد المعتقدون أنها من عند الله بمجرد أن سمعوها ولم ينتظروا كل هذا الزمن الطويل حتى تصقلها ألسنتهم فى المحاريب كما يزعم الملاحدة من قديم، وإلا فكيف آمنوا بها؟ أَوَكانوا يؤمنون بها لو أحسوا فيها هذا الخطأ الذى يدعيه ذلك الأحمق؟
ثانيا يقول الأحمق إن هذه الواو قد عاقت أهل الجنة عن معرفة مصيرهم الذى كانوا يتلهفون إليه (يقصد فتح الأبواب)، مع أن هذه الواو قد قربت إليهم الأمر وأراحتهم من اللهفة لمعرفته، إذ ها هى ذى الأبواب قد فُتِحَْتْ وانتهى الأمر، فيما كان يظن الظانون، قياسا على ما حدث مع أهل جهنم، أنها لم تفتح بعد. أما أين جواب "إذا جاؤوها" فقد تركه القرآن لإثارة الخيال كى يسرح فى كل واد ويتصوره كل إنسان على النحو الذى يحب. وهذا معروف فى كل اللغات، إذ يأتى الراوى عند مفترق الطرق فيسكت كى يثير المستمع بل يشعل رغبته إشعالا. أما الأحمق فيظن أن الجواب هو "فتحت أبوابها" رغم مجىء الواو قبله، وهو ما يقول إنه يحيره. وأما نحن فنقول إن "فتحت أبوابها" معطوفة على "جاؤوها" باعتبار أن انفتاح أبواب الجنة أمر مفروغ منه، وأن المهم ليس الأبواب، بل ما بداخل تلك الأبواب، وهو ما سكتت عنه الآية عمدا كى تترك للخيال المنادح واسعة إلى غاية مداها. وذلك كقول الشاعر عبد مناف الهذلى مثلا فى ختام قصيدته:
وَلِلقِسِيِّ أَزاميلٌ وَغَمْغَمَةٌ * حِسَّ الجَنوبِ تَسوقُ الماءَ وَالبَرَدا
كَأَنَّهُم تَحتَ صَيْفِيِّ لَهُ نَحَمٌ * مُصَرِّحٍ طَحَرَت أَسناؤُهُ القَرِدا
حَتّى إِذا أَسلَكوهُم في قُتائِدَةٍ * شَلا كَما تَطرُدُ الجَمّالَةُ الشُّرُدا
وكما أن هناك من يقول بزيادة "الواو" فهناك كذلك من يرى أن"إذا" فى الآية زائدة حسبما نقرأ فى كتاب "الصاحبى فى اللغة" لابن فارس: "تكون "إذا" شرطا فِي وقت مؤقت. تقول: "إذا خرجتَ خرجتُ". وزعم قوم أن "إذا" تكون لغوا وفضلا. وذكروا قوله جلّ ثناؤه: "إذا السماء انشقت". قالوا: تأويله: "انشقت السماء" كما قال: "اقتربت الساعة" و"وأتى أمر الله". قالوا: وَفِي شعر العرب قوله:
حَتَّى إذا أسلكوهم فِي قتائدَةٍ * شلا كما تطرد الجمَّالةُ الشُّرُدا
المعنى: حَتَّى أسلكوهم. وأنكر ناسٌ هذا وقالوا: "إذا السماء انشقت" لها جوابٌ مُضْمَر. وقول القائل: "حَتَّى إذا أسلكوهم" فجوابه قوله: "شَلا". يقول: "إذا أسلكوهم شَلّوهم شلا". وقولهم: إذا فعلت كذا".
وليس فى الآية من جهة "الواو" أو "إذا" زيادة ولا يحزنون، بل هكذا يجرى المصطلح ليس إلا. ولكننى لا أحب مع هذا استخدام مثل ذلك المصطح تجنبا للاصطدام بغباء الكاتب وأشباهه ممن طُمِسَت أبصارهم وبصائرهم فهم لا يعقلون، فيذهبون يشنعون على النصوص العبقرية لأنها لا تجرى حسبما يريد أفقهم الضيق! ولها ترانى أقول إن "الواو" هنا هى "واو العطف"، وأن "إذا" فى آيتنا هى إما للشرط أو للتأكيد، وأن "الباء" فى قوله تعالى: "وما ربك بظلام للعبيد" هى للتأكيد، وأن "مِنْ" فى قوله جل شأنه: "هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟" هى لاستغراق النفى... وهكذا.
حتى قوله عز شأنه: "وما من دابَّةٍ فى الأرض إلا على الله رزقُها" يسخر منه أبو الأعباس الهَلاّس مخطئا ومشككا، إذ لا يعنى عنده إلا أن الدابة، أية دابة، لا يمكن أن تموت من الجوع أبدا. وما دامت هناك دواب تموت من الجوع فالآية كاذبة إذن ولا تقول الحقيقة. لقد فاته أن الرزق لا يلزم بالضرورة أن يكون كافيا فلا يموت العبد أو الحيوان أو الحشرة من الجوع، بل قد يكون كافيا أو شحيحا، ومع هذا يسمى رزقا: "يَبْسُط الرزقَ لمن يشاء من عباده ويَقْدِر". وعلى كل حال فالمقصود بالآية أنه سبحانه الخالق لكل شىء. وما دمنا فى هذا المساق فيحسن بى أن أورد مناقشة دارت بينى وبين رجل ريفى متمرد بجهلٍ كان يتحدث عن الله بنفس الأسلوب الذى يتحدث به عِبْس حتى لقد كان يقول أحيانا إنه لو تولى أمر الكون بدل الله لكان تنظيمه له أفضل كثيرا مما هو عليه. وكان الرجل يشتغل فى شبابه زمارا، ثم كسرت يده فظل إلى آخر عمره لا يحسن العمل بها، فكان يقضى وقته بلا عمل، على حين تجرى زوجته عليه وتوفر له الطعام والشراب والشاى واللحم، وهما أهم شىء فى حياته: إذا توفرا له رضى عن حياته وعن الله وتأدب فى الحديث عنه. أما إذا نشفت الأمور فيا داهية دقى! ويا سواد يوم زوجته، التى لم توفر له الأحمرين! ويا ويل من يشير له إلى أنفه مجرد إشارة. إنه ليتحول ساعتها إلى بركان يقذف حمم السخط والتطاول على الذات الإلهية لاعنا كل شىء، محقرا من أوضاع الحياة وتصريفات الدنيا.
والطريف فى حكاية كسر يده أنه كان ذات يوم مسافرا للزَّمْر فى عرس ببلدة من بلاد المركز تحت قيادة عمه "رَيِّس" الفرقة، وكان اليوم يوم جمعة، وحان وقت الصلاة وهم داخلون البلدة التى فيها العرس، وقد أخذوا يزمرون ويطبلون، فاقترح على عمه أن يؤجلوا ذلك إلى ما بعد الصلاة حتى لا يُجْلِبوا على الخطيب و المصلين، فنهره عمه قائلا: حين تكون أنت "الريس" يا روح أمك فافعل ما بدا لك. أما، وأنا "الريس" هنا، فاشتغل وأنت ساكت. فاشتغل الرجل وهو ساكت. وفى طريق العودة ركبوا الأوتوبيس كما جاؤوا، وكان جالسا جنب الشباك وواضعا يده على حافته، وتصادف أن مرت الحافلة بجوار أحد الجدران فحدث ما ألجأ السائق إلى الاحتكاك بالجدار ودُعِكَتْ يد عم عثمان فيه فتكسرت أصابعه. ورغم أنه قد أُسْعِف وعولج فقد صار لزاما عليه طول عمره حسب أوامر الأطباء أن يفردها فى الهواء ويحرك أصابعه دائما كمن يعزف على مزمار حتى لا تتشنج. ومربط الفرس فى الحكاية أنه كان دائما ما يقول لله: أهذا جزائى منك لقاء إنكارى على عمى الزمر والطبل ساعة صلاة الجمعة؟وهو نفس منطق عباس عبد الديجور كما ترى!
المهم أننى فى ضحى ذات يوم من إجازة أحد الأصياف أيام الشباب جرى بينى وبينه نقاش فى موضوعه الخالد: ترى كيف يقول الله فى كتابه: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" (الشورى/ 20)، وهأنذا لا أريد شيئا من حرث الآخرة، بل أريد حرث الدنيا، ولا شىء غير حرث الدنيا، لكنه لا ينفذ ما أريد، فكيف لى أن أصدقه؟ قلت له وأنا أبتسم ابتسامة لا تخلو من مكر: وإذا أجبتُ يا عم عثمان على سؤالك، أتسكت ولا تفتح ثانية هذا الموضوع الذى لا تكف عن إثارته منذ أيام الشيخ يوسف الشيخ؟ (والشيخ يوسف هذا رحمه الله هو جد د. عبد الفتاح الشيخ رئيس جامعة الأزهر الأسبق. ولم أكن رأيت فى حياتى الشيخ الكبير لأنه مات قبل أن أولد فيما أتصور). أجابنى: وهو كذلك. قلت: لو أننى قلت لك مثلا: من كان يريد ما فى جيبى هذا أعطيته منه، ثم فضل أحدهم هذا الجيب على الجيب الآخر، فمددت يدى وأخرجت له مما فيه من زهور مختلفة الأصناف بعضا من زهور فساء الكلاب، أأكون قد أخلفت وعدى له؟ فرد من تحت أسنانه وهو مغتاظ أشد الغيظ: ولكن أفلم تجد ما تعطينيه إلا فساء الكلاب؟ قلت له: لقد قلت: سأعطيك "مما" فى جيبى. و"مما" هذه ليس معناها أن أعطيك أحسن ما فى الجيب أو كل ما فيه، بل "مما" فيه. وهأنذا قد فعلت. قال متبرما: ولكن جواب الشيخ يوسف كان أفضل من جوابك. قلت: وماذا قال لك؟ قال بزهو وفخر واضحين: لقد قال لى: تأدب مع مولاك يا عثمان! والآن أيها القراء الكرام، هل ترون من فارق بين الشيخ عثمان والشيخ عباس؟ ومع هذا لقد كان فى الشيخ عثمان رحمه الله بقية من حياء وإنسانية نَمَّ عنها جوابه الأخير علىّ كما هو واضح.
وبالمثل يرى عباس الهجّاص أن استجابة الله للدعاء لا تتحقق إلا بأن يحقق لصاحبه ما يريد، وعلى النحو الذى يريد، وبالمقدار الذى يريد (ص270)، مع أن تحقيق الدعاء على النحو الذى يريده صاحبه قد يكون ضارا به بل قاتلا، فى الوقت الذى يحسبه هو السعد كله. ومعروف أن إجابة الدعوة تختلف باختلاف المجيب، فنحن إذا دعينا إلى حضور حفل مثلا فليس شرطا أن تكون الإجابة تحقيقا لما يريده الداعى، إذ قد تكون اعتذارا أو حضورا أو تحديا وتمردا أو شتما وتطاولا أو شكرا وثناء أو إرسال شخص آخر لحضور الدعوة.
وعلى أية حال فقد شرح الرسول عليه الصلاة والسلام لنا كيفية استجابة الله لدعاء الداعين على النحو التالى الذى يبدو وكأنه يتحدث عن عِبْس وما كتبه فى كتابه: "ما من رجل يدعو الله بدعاءٍ إلا استجيب له: فإما أن يعجّل في الدنيا، وإما أن يدّخر له في الآخرة، وإما أن يكفّر عنه ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي، فما استجاب لي" (الترمذى)، "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها مأثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يستجيب له دعوته، أو يصرف عنه من الشر مثلها، أو يدخر له من الأجر مثلها" (البيهقى)، "ما من مسلم دعا الله عز وجل بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله عز وجل بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها. قالوا: يا رسول الله، إذًا نُكْثِر. قال: الله أكثر" (ابن عساكر: تاريخ دمشق)، "ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له: فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت ربي، فما استجاب لي" (الترمذى).
والغريب فى أمر عِبْس واضطراب فكره وعقله أنه فى الوقت الذى يبدى سخطه لأن الله لا يستجيب لكل صاحب حاجة فى الحال وعلى النحو الذى يريد، يكتب فى موضع آخر من الكتاب منتقدا المشيئة الإلهية واصفا إياها بالعشوائية وأنها لا تعرف النظام، إذ إن القرارات التى يتخذها الله هى قرارات وليدة اللحظة. فكيف بالله نوفق بين هذا وذاك؟ إن استجابة الدعاء فى الحال وعلى النحو الذى يريده صاحبه وبالمقدار الذى يراه لتتناقض مع ما يريده عِبْس ذاته من وجوب اطراد السنن وعدم تغيرها كل لحظة، وهوما نتفق معه فيه، وإن كنا نرى أن ذلك هو الحاصل فعلا منذ بداية الخلق. لكن متى كان عِبْس يعرف الاتساق فى الفكر والرأى والموقف؟ إن كل ما فى الكتاب مضطرب على تلك الشاكلة لا يعرف القارئ له رأسا من ذيل. إنه كلام والسلام. إنه سخط سخيف عديم العقل والمنطق. وسبب ذلك أن صاحبه دخل الكتاب وفى نيته التشكيك فى القرآن والإسلام بكل طريق. وهذه هى النتيجة!
وتعليقا على الآيات الكريمات التاليات من سورة "فُصِّلَتْ": "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)" يتهكم الأحمق الأخرق قائلا بجهل ورعونة: "هذه الاية يختلط فيها الغموض بالركاكة. وبتعبير أدق: إن غموضها من ركاكتها ومن تعارضها مع آيات أخرى فى القرآن. وقد يكون العكس هو الصحيح، فعدم وضوح الرؤية فى ذهن صاحبها يورثه الارتباك بل الالتواء فى التعبير عنها، فيخبط ذات اليمين وذات الشمال، فتتناثر المعانى بعيدا عن الألفاظ، وتبتعد الأعداد عن المعدوات. لقد فقد النص اتساقه، فكل شىء فيه بعد الآن متوقع منه، فلا ترى إلا فقرات تقطع حركة السياق وتوقف اندفاعه نحو بلوغ أغراضه...
إن كل ما جاء فى القرآن بخصوص عدد الأيام التى خلق الله فيها العالم تحصر هذا العدد فى ستة أيام إلا الآية الأخيرة. كما أن جميع الايات المتعلقة بعدد أيام الخلق فى القرآن تدخل إلى الموضوع مباشرة بلا نوافل أو طفيليات ضارة إلا ههنا. فبصرف النظر عن عزلة هذه الآية وعدم ارتباطها بما قبلها وما بعدها كما عودنا القرآن فقد بدأت بداية غريبة: "قل أإنكم". فهل هذا سؤال أم إنكار أم تقرير لواقع أم ماذا؟ أفتونى فى أمرى، وأنا لكم من الشاكرين! كذلك إن هذه الآيات الأربع نشاز يجمع بين أطراف متباعدة: التعريض بالمشركين الذين يكفرون بالله، الذى خلق الأرض فى يومين، ولا يكتفون بذلك، بل يجعلون له أندادا، ثم يأتى بعد هذا بيان أن الذى خلق كل ذلك هو رب العالمين، ثم أتبع ذلك بتقوية الأرض بالجبال وتقدير أقواتها فى أربعة أيام.
وهكذا تكون الأرض وحدها قد تطلبت منه سبحانه ستة أيام عمل مستمر. وهى تستحق هذا الجهد منه تعالى نظرا إلى أهميتها البالغة فى العالم. وهذا مفهوم عند القدماء. كيف لا، وهى مركز العالم وقلبه النابض، وما تبقى فأشياء تافهة: شمس وقمر وسبع سماوات تزينها عدة مصابيح يهتدى بها الناس فى البر والبحر؟ وهذه كلها يكفيها يومان فقط بالتمام والكمال.
صدق أو لا تصدق أن خلق السماوات لم يستغرق سوى يومين ما لم تكن سماوات من كرتون، بل من ورق ضعيف القوام يفيض عن حاجة الملائكة التى لا أقدام لها كأقدام البشر ثقيلة الوزن شديدة الوقع قوية الوطء. فالملائكة لها أقدام أثيرية لطيفة جدا لا تستخدمها فى المشى، بل لها أجنحة رقيقة تغنيها عن المشى. وهذا يذكرنى بقول أحد الشعراء الفرنسيين فى وصف حبيبته هذه ترجمته:
لله ما ألطفُ أقدامِِها * تمشى على العشب فلا يشعرَا!
والخلاصة: إن الله بعد أن أتم خلق الأرض فى ستة أيام خلق السماوات السبع فى يومين، ثم نشر المصابيح هنا وهناك فى السماء الدنيا زينة لها دون السماوات الأخرى على ما يظهر، فبقيت مظلمة لأن السماوات مقر الملائكة، فهى لا تحتاج إلى مصابيح لأن الملائكة أجسام نورانية. ولعل مصابيح السماء الدنيا من الشمع. وآيةُ ذلك قِصَرُ المدة التى استغرقها خلق السماء. وختمت الآية ذلك كله بأنه من تقدير العزيز العليم، فتبارك الله أحسن الخالقين!
لقد حار المفسرون فى فهم هذه الآيات التى تتوسع فى عدد أيام الخلق فتجعلها ثمانية، وفى التوفيق بينها وبين جميع الآيات الأخرى التى تكتفى بستة أيام فقط، فقالوا إن الأيام الأربعة التى أتم الله فيها خلق الأرض يدخل فيها اليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض. مخرج لطيف لا بأس به، ولكنه إن صح أفلا يدل على ركاكة القرآن، الذى كان فى مقدوره أن يستعمل ألفاظا أكثر وضوحا وبيانا، فعدل عنه إلى الركيك الغامض، لا سيما وأن الإبانة صفة ملازمة للقرآن تتكرر فى كل صفحة تقريبا: "بلسان عربى مبين"!" (ص162- 164).
هذا ما قاله عِبْس! وإنى لأعجب: من أين له كل تلك الجرأة، وهو الجاهل الذى لا يفرق بين "ما أَفْعَلَ" التعجبية و"ما أَفْعَلُ" الاستفهامية، فيستعمل هذه مكان تلك كما هو واضح من تشكيله لعبارة "ما أَلْطَفُ أقدامِها" فى البيت الذى أورده للتهكم على القرآن وأسلوبه؟ إن معنى العبارة على هذاالوضع هو: "أى شىء فى أقدامها ألطف من سواه؟"، وهو إنما يريد التعجب من لطف قدميها، فكان ينبغى أن يقول: "ما ألطفَ أقدامَها!". ليس ذلك فحسب، بل زاد الطين بلة فنصب الفعل: "يشعرا" رغم أن حقه الرفع، فتوضع على رائه ضمة لا فتحه. ومرة أخرى ليس ذلك فحسب، بل كان ينبغى أن يقول فى الجملة التى وطَّأ بها لتلك العبارة: "وهذا يذكرنى بقول لأحد الشعراء الفرنسيين فى وصف حبيبته هذه ترجمته: ..." بإدخال "لام" على "أحد" حتى تظل كلمة "قول" منكرة فيصح نعتها بجملةِ "هذه ترجمته". ولكن متى كان الجهال يفهمون؟ إنهم لا يحسنون سوى التهكم والتهجم والتقحم الغبى ليس إلا!
أما قوله: "لقد حار المفسرون فى فهم هذه الآيات التى تتوسع فى عدد أيام الخلق فتجعلها ثمانية، وفى التوفيق بينها وبين جميع الآيات الأخرى التى تكتفى بستة أيام فقط" فالرد عليه هو أن الآية تختلف تماما عن الآيات التى تتناول خلق السماوات والأرض فى ستة أيام. ذلك أن آيتنا هذه لا تتناول من ذلك الموضوع إلا خلق الأرض فى يومين، ثم تدخل عقب ذلك فى موضوع آخر هو إنشاء الرواسى من فوقها ومباركتها وتقدير الأقوات فيها فى أربعة أيام، ثم جعل السماء سبع سماوات فى يومين بعدما تم خلقها قبلا. وهكذا يتبين للقارئ أن الأيام الستة الأخيرة لا علاقة لها بخلق الكون من عدم، بل بتشكيل الجبال وتدبير الأقوات وما إلى ذلك، ومن ثم لا تضاد بين عدد الأيام فى الآية، ذلك الذى يجلعونه ثمانية بإضافة يومى خلق الأرض إلى الستة المذكورة آنفا، وبين عدد أيام الخلق فى الآيات الأخرى التى تتعرض لإيجاد الأرض والسماء من العدم. وبطبيعة الحال فإن الأيام فى الآية غيرها فى توقيت الكرة الأرضية، إذ هى هنا أحقاب تاريخية متطاولة، وليست أياما من ذوات الأربع والعشرين ساعة: "وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تَعُدّون"، "تَعْرُج الملائكة والرُّوح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
أما إذا أخطأ بعض المفسرين وخلط بين هذه الآية والآيات التى تتحدث عن خلق السماوات والأرض فى ستة أيام فهى جريرتهم لا جريرة القرآن ولا مسؤوليته. وفى تفسير الشيخ الشعراوى للآية الرابعة والخمسين من سورة "الأعراف"، فيما يبدو، شىء مما أشار إليه المدعوّ: عباس عبد النور، إذ يقول الشيخ: "والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام، أما آيات الإِجمال فكلها تقول: إنها ستة أيام. ومن هذه النقطة دخل المستشرقون، وادَّعَوْا زورا أن القرآن فيه اختلاف، وحالوا أن يجعلوها ضجة عالية. ونقول: إنه سبحانه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة بلا زيادة ولا نقصان. فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام. ويضم إليها خلق السمٰوات في يومين، فيكون عدد الأيام التي تم فيها خلق السمٰوات والأرض ستة أيام، أو نحمل المفصَّل على المجمل". فإذا كان الأمر على ما فهمتُ فيتحمل الشيخ الشعراوى مغبة تفسيره للآية الكريمة، ويبقى القرآن شامخا كحاله دائما. هذا، ونضرب صفحا هذه المرة عن ثقل ظل عباس أبى دم فطّاس مثل دم البق.
والآن نصل إلى السؤال التالى: هل هناك يا ترى أى تناقض بين قول القرآن لبنى إسرائيل فى موضع منه إن الله فضلهم على العالمين، وبين قوله لهم فى موضع آخر: "بل أنتم بشر ممن خلق" كما يزعم أبو العبابيس (ص171)؟ أليسوا فعلا بشرا من البشر الذين خلقهم الله؟ أم هم ليسوا بشرا؟ أم تراهم من خلق الشيطان؟ إن القرآن ينكر على اليهود والنصارى زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه مهما كانت تصرفاتهم واعتقاداتهم. ذلك أن حب الله لأحد من العباد يستلزم أن يستحق العبد هذا الحب، إذ لا يصلح أن ينال هذا الحبَّ شخصٌ لمجرد أنه فلان أو علان. وقد قال الرسول لعشيرته وابنته وأقربائه: اعملوا، فإنى لا أُغْنِى عنكم من الله شيئا. وفى نفس الوقت يقول القرآن: إنما يريد الله لِيُذْهِب عنكم الرِّجْس أهلَ البيت ويطهِّركم تطهيرا. نعم، ولكن بشروط، وإلا فلن يغنى الرسول عن أحد منهم شيئا.
وبنو إسرائيل قد فضلهم الله على العالمين بأن جعل منهم أنبياء كثيرين، لكنهم لم يكونوا على المستوى العقيدى والأخلاقى المنشود، فعاقبهم الله. فما المشكلة؟ كذلك وُصِف المسلمون فى القرآن بأنهم "خير أمة". إلا أن ذلك كان بشروط، ولم يكن الأمر سداح مداح. وهذه الشروط هى الإيمان بالله واليوم الآخر والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والمجاهدة فى سبيل الله. ولقد حُذِّروا من أن يسيروا فى خطا بنى إسرائيل فيتعرضوا للسخط والعقوبة. فلما فعلوا ولم يتعظوا بمصير القوم عاقبهم الله تعالى وأذلهم وأتعسهم، ونحن الآن نَصْلَى تلك التعاسة التى تمررت بها حياتنا، ولا يبدو فى الأفق أن نهايتها قريبة لأننا نصر على ما نحن فيه من بلاهة حضارية نبهنا القرآن إلى وخامة عواقبها ونهانا عن التدهدى إلى دركها الأحطّ الأسفل، فأبينا وما زلنا نأبى إلا التمسك بها كأن فيها مجد الدنيا والآخرة، على حين أن الدنيا من حولنا تتوثب حيوية وعُرَامًا، ونحن تزداد تراجعا وانحدارا، بل غوصا فى الوحل والطين والمجارى!
ويقول أيضا "مدير" التكية سابقا إنه كان يجب أن يقال عن المجرمين فى سورة "الرحمن": "فيُؤْخَذُون بالنواصى والأقدام" بدلا من قوله: "يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ (41)"، لأن المجرمين مجرمون جمعٌ لا مجرمٌ فردٌ (ص177). وفات العبقرىَّ أن نائب الفاعل هنا ليس هو "المجرمون"، بل شبه جملة "بالنواصى والأقدام"، وهو الجار والمجرور، مثل قولنا مثلا: "سيُسْتَمَع إلى التقرير، وسيُنْظَر فى الأمر، وسيُلْجَأ إلى القضاء، وسيُفْصَل فى الخصومة... إلخ". فماذا بالله يمكن أن يقوله الإنسان لمثل هذا المتخلف عقليا الذى يخطِّئ القرآن ويتهكم به ويصحح له لغته وأسلوبه، وهو بهذا الضعف المزرى المخزى فى اللغة وتذوقها؟
كذلك يخطئ عِبْس القرآن فى قوله عن قوم لوط: "إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين" مؤكدا أن الشذوذ الجنسى قديم قدم الإنسان (ص183- 184). لكن هل هناك دليل على ما يقول؟ إن كل ما استطعت الخروج به من المقال المخصص للشذوذ الجنسى (Homosexuality) فى "الموسوعة البريطانية" (ط2009م)، بالنسبة إلى تاريخ ذلك الانحراف، هو أنه فى فترات وثقافات مختلفة كان الشذوذ الجنسى يحظى بالموافقة أو المسامحة أو العقاب، وأنه لم يكن مجهولا بين الرومان والإغريق. أما القول بأنه كان معروفا بين البشر منذ بدء الخليقة فليس له أى أثر فى المقال المذكور. وهذا نص ما وجدته حول هذه النقطة:
"At different times and in different cultures, homosexual behaviour has been variously approved of, tolerated, punished, and banned. Homosexuality was not uncommon in ancient Greece and Rome."
ونفس الشىء نلقاه بوجه عام فى المادة المخصصة لذات الموضوع من "الموسوعة اليونيفرسالية: Encyclopaedia Universalis" (ط2009م)، إذ هى أيضا لا ترجع إلى أبعد من روما واليونان. وفى موسوعة "الإنكارتا: Encarta" الفرنسية يتحدثون عن العلاقة التى كان يعرفها المجتمع الإغريقى القديم بين الصبيان والرجال، ثم لا شىء أبعد من ذلك تاريخيا. وهو نفسه ما نجده فى "الإنكارتا" الإنجليزية.
ولنفترض رغم ذلك كله أن ما قاله عباس صحيح، فهل يقصد القرآن مجرد الشذوذ الجنسى لدن قوم لوط؟ أم تراه يقصد ممارستهم جميعا له على نطاق واسع، وفى نواديهم، وعلانية، وفى عدوانية يقطعون فيها الطريق على الأطهار المستقيمين حسبما نقرأ فى الآيتين 28- 29 من سورة "العنكبوت": "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)". ومن الملاحظ أن الجملة القرآنية فى كل من سورتى "الأعراف" و"العنكبوت"، وهما السورتان اللتان ذكرتا أسبقية قوم لوط فى هذا المجال، تجىء فيها عبارة "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" حالا لا نعتًا لأن "الفاحشة" معرفة لا نكرة، بما يمكن أن يكون معناه أن تلك الفاحشة فى حد ذاتها ليست هى الأمر غير المسبوق هنا، بل طريقة إتيان القوم لها. كذلك لا ينبغى أن يفوتنا مغزى تسمية الشذوذ الجنسى بين الرجال: "لواطا" (فى اللغة العربية) و"sodomy, sodomie" (فى اللغات الأوربية). ترى ألا يشير ذلك على نحو أو على آخر إلى أن لقوم لوط وقريتهم وضعا خاصا فى هذه المعرّة الاجتماعية والأخلاقية ليس لقوم سواهم؟
أما تأكيد عِبْس أن الشذوذ الجنسى موجود أيضا بين الحيوانات فليس من غرضى أن أناقشه هنا لأنه لا صلة بينه وبين ما جاء عن قوم لوط فى القرآن وسبقهم العالمين فى ذلك الميدان رغم ما قرأته، فى مادة "Homosexual Behavior in Animals" فى النسخة الإنجليزية من "الويكبيديا: Wikipedia"، من أن عالمَ الحيوانات يعرف هو أيضا السلوك الجنسى الشاذ، وإن كان من العلماء من يستبعدون المسألة، إذ يَرَوْن فى ذلك الضَّرْب من السلوك خروجا على الفطرة لا يمكن أن يرتكبه الحيوان.
وفى القِسْم الذى خصصه أبو الأعباس الفَطّاس من كتابه للهجوم على الآيات المرتبطة بالعلوم الطبيعية يبدأ حديثه (ص186) بأنه قد تنبه إلى ما فى القرآن من أخطاء علمية منذ عقود طويلة (كما جاء فى ص188 نصًّا) وانقشعت الأساطير عن ذهنه، فكيف يعود فى المقدمة فيقول إنه لم يتحرر من القرآن وخرافاته إلا بعد بلوغه الثمانين: الثمانين التى لم يبلغها قط لأنه مات قبل بلوغها؟ ترى ماذا ينبغى أن يوصف به كلام مثل ذلك الرجل الذى يتنفس الكذب والتناقض تنفسا؟
وفى ص191 وما بعدها نسمع أبا العبابيس وقد ذهب فى فاصل طويل من السخرية بالآيات القرآنية التى تتحدث عن السماء بصورة أدبية، واقفا عند السماوات السبع مخطئا ما قيل فيها. لكن هل هو على يقين من أن ما قاله القرآن عن السماوات السبع خطأ؟ أليس معناه على الأقل أن القرآن قد بين للناس منذ ذلك الوقت المبكر من التاريخ الإنسانى أن هذه السماء التى يرون نجومها وكواكبها ليست إلا سماء واحدة فقط من سماوات سبع؟ أليس هذا فتحا جديدا يحث العقل على عدم الاستنامة إلى ما تشاهده الحواس فى ذلك الزمن المتخلف علميا؟ ثم ما وجه الخطإ فى كلام القرآن عن المصابيح السماوية؟ هل لا بد، متى تكلم القرآن عن النجوم والكواكب، أن يذكر أبعادها والمسافات التى تفصلنا عنها وطبيعة تكوينها ويستخدم الأرقام والإحصاءات والمعادلات الرياضية، ولا يصفها أبدا بأنها مصابيح؟ أليس ذلك فسولة فى العقل، وبلادة فى الإحساس، وتفاهة وتنطعا فى تناول مثل تلك القضايا؟
أما بالنسبة إلى تهكمه على ما قاله القرآن عن رَجْم الشياطين، فهل هناك دليل على أنه لا يوجد شياطين ولا رجوم، فى الوقت الذى ليس عندنا ولا عند غيرنا ما يمكن نفى ذلك على أساسه؟ وعلى كل حال فالقرآن لم يقل قط فى أى موضع منه إن رجم الشياطين قد بدأ منذ ولادة الرسول عليه السلام كما يسخر الكاتب. وأما أن الملائكة التى فى السماوات لم تكن ليلة الإسراء والمعراج تعلم ببعثة محمد فهو إشارة إلى أنها، رغم كونها ملائكة، لا تعلم الغيب. فالغيب من اختصاص الله، إلا إذا أطلع عز وجل فى بعض الأحيان أحدا من رسله على شىء منه لحكمة من الحكم. أما فيما عدا هذا فالغيب صندوق مغلق لا يعلم بما فى داخله أحد حتى ولا الرسول محمد أو الملائكة. ألا يضع هذا حدا لما كان الكهان يزعمونه من معرفتهم للغيب، ومن ثم يتسلطون به على عقول البشر؟ فما قول عباس الهلاس فى هذا؟
ويبقى تهكمه على التصوير الأدبى الذى يقدم به الحديث الشريف قصة المعراج وأنه، عليه الصلاة والسلام، حين كان يصل إلى إحدى السماوات، كان يستأذن فيُفْتَح له. فهل كان يريد عِبْس أن ينتهج النبى فى ذلك الوقت المبكر، وفى ذلك المجتمع المتخلف، نهج علماء الطبيعة فيأتيهم بعد الإسراء والمعراج وفى يده مناظير فلكية ترصد أبعد المجرات طالبا من أبى جهل وأبى لهب والوليد بن المغيرة وأضرابهم أن يأتوا فينظروا المسار الذى اتخذته رحلته المعراجية حتى بلغ سدرة المنتهى (تلك التى يكتبها صاحبنا بضم سين "سُدْرة" دليلا على تبحر علمه اللغوى الذى لم يحرزه أحد!)، أو أن ينصب شاشة چامبو فى شوارع مكة يعرض عليها تفاصيل المعراج وهو يعلق عليها بطريقة د. مصطفى محمود فى حلقات برنامج "العلم والإيمان"، وقد جلس أهل مكة متربعين على الأرض (فالنبى عربى، والبساط أحمدى!)، وقد فتحوا أفواههم دهشة وانبهارا؟
سيقول: ألستم تزعمون أن فى القرآن حقائق علمية؟ والجواب: بلى، لكننا لا نزعم أنه كتاب فى العلوم الطبيعية ولا أن محمدا عالم فى وكالة ناسا القرشية، بل رسول بعثه الله لهداية قومه والعالم وانتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن ظلام الروح والضمير والعقل والذوق إلى النور الأبلج، وهى المهمة التى أداها النبى خير قيام وكانت ثمراتها إعجازا حضاريا بكل المقاييس. فإن وردت آية تدل دلالة قوية على حقيقة علمية دون اللجوء فى تفسيرها إلى البهلوانيات التى تلوى رقبتها لَيًّا فأهلا بذلك وسهلا، وإلا فإن مهمة الرسول هى هداية الروح والضمير وتحرير العقل من الخرافات التى تكبله وتمنعه من الانطلاق الحر يجوس أرجاء الكون ويحرز الانتصارات تلو الانتصارات.
ويكفى أن نقرأ قوله تعالى: "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟" كى نفهم مكانة العلماء فى مجتمع المسلمين. كذلك يكفى أن يأمر القرآن الرسول بأن يطلب من الله زيادة نصيبه من العلم: "وقل: رب، زدنى علما" حتى نعرف قدر العلم فى الإسلام بوصفه الشىء الوحيد الذى أُمِر الرسول على جلالة قدره بطلب زيادة نصيبه منه. كما يكفى أن يحث ذلك الرسول العظيم كل مسلم على الاجتهاد ويشجعه عليه ويزيل مخاوفه من تبعاته ويبين له أنه حتى لو أخطأ فى ذلك الاجتهاد فإن له لأجرا عظيما، وهو ما لا تفعله ناسا ولا أية مؤسسة علمية فى أية دولة من الدول الغربية ولا غير الغربية أبدا ولا تقوله لعلمائها. وهذا مجرد مثال لما أتى به الإسلام فى عالم الفكر والعقل وتحطيم الأغلال التى كانت تقيد البشر فتمنعهم من التفكير الحر السليم. أما إيجاب طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، ومن المهد إلى اللحد، والقول بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب المعرفة رضا بما يصنع، وأما تمجيد العلماء فى الإسلام وإيثارهم على العُبّاد والزهاد والتأكيد بأنهم ورثة الأنبياء فحدِّثْ كما يحلو لك من هنا للصبح فلن تنتهى ولا يمكن أن تنتهى. هكذا ينبغى أن يتناول الإنسان منا موقف الإسلام من العلم.
أما تهكم عِبْس أبى عقل جِبْس على أنه سيكون للسماء يوم القيامة فى القرآن أبواب وأنها سوف تُكْشَط أو تُطْوَى كطَىّ السجلّ للكتب، وأما الوقوف عند أجنحة الملائكة والسخرية من تلك الأجنحة، فهذا انغلاق فى الذهن، وإلا فهل شاهد نيافته ذلك اليوم وتيقن أن هذا لن يحدث فيه، أو شاهد تلك المخلوقات الكريمة ورأى أنها بلا أجنحة؟ ثم إن هذا اللون من التصوير الذى لا يعجب عِبْس هو الذى أنتج تلك الثمرات الحضارية العظيمة التى أتى بها الإسلام. أما مساومة الله كما يفعل الفلاح القرارى فى سوق الماشية والكُفْر به سبحانه إذا أتت الرياح بما لا تشتهى السفن فأصيب الإنسان فى عينيه أو فى قدميه فهى شيمة المتخلفين من أمثال عِبْس أبى عقل جِبْس، وإن ظن أنه أعلم العلماء وأكثر الفلاسفة فلسفة، على حين أن هذا إفلاس لا فلسفة!
وهو، فيما كرره مرارا عن الفَلَك والسماوات السبع والكواكب والنجوم فى القرآن المجيد ودعواه بأن ذلك مأخوذ من علم الفلك الإغريقى الأسطورى ممزوجا بأطياف شرقية، قد لطش ما قاله محرر مادة "Cosmology" من "دائرة المعارف الإسلامية: Encyclopaedia of Islam"، حيث يقول ما يلى نَصًّا:
The Qur_ān seems to reflect the Aristotelian-Ptolemaic model with the world (al-dunyā) as the lowest level in the center covered by seven homocentric spheres ( falak, pl. aflāk, q 21:33; 26:40). A closer look, however, provides traces of an older, ancient Near Eastern model of the world which is also reflected in Genesis 1:6 (Allāhu lladhī khalaqa sab_a samāwātin wa-min al-ar_i mithlahunna, q 65:12). Here, the world is viewed as not only covered by seven heavenly spheres but also as relying on as many layers of “earths.” The whole structure is surrounded by waters, “oceans,” separated by the creator through a barrier (maraja l-barayni yaltaqiyānbaynahumā barzakhun lā yabghiyān, q 55:19-20; cf. 25:53; see barrier; barzakh).
ومع ذلك فرغم هذا النقل لم يصب لا هو ولا من نقل عنهم كبد الحقيقة. ذلك أن الإغريق لم يكونوا على قلب رجل واحد فى أفكارهم الفلكية، بل كانت آراؤهم خليطا لا شيئا واحدا، إذ كان بعض فلكييهم مثلا يرون الأرض مركز الكون، على حين كان البعض الآخر يقولون بكرويتها ودروانها هى وبعض الواكب حول الشمس. وهذا ما تقوله مادة "الفلك" فى "الموسوعة العربية العالمية": "بدءًا من عام 600ق.م تقريبًا طور علماء الإغريق وفلاسفتهم عددًا من الأفكار الفلكية. فاعتقد فيثاغورث، الذي عاش في القرنالسادس ق.م، أن الأرض كروية الشكل، وحاول أيضًا شرح طبيعة الكون وتركيبه ككل. وبذلك طور نظامًا كونيًّا في وقت مبكر. وفي نحو عام 370ق.م صمم يودوكسوس أوف كنيدوس نظامًا ميكانيكيًّا لشرح حركات الكواكب. ونادى يودوكسوس بأن الكواكب والشمس والقمر والنجوم تدور حول الأرض. وفي القرن الرابع قبل الميلاد أدخل أرسطو هذه النظريةالهندسية،نظرية مركزية الأرض، في نظامه الفلسفي. كذلك اقترح هيراقليدس أوف بونتس، خلال القرن الرابع ق.م الميلاد، أن الحركة الظاهرية للأجرام السماوية ناحية الغرب راجعة في الحقيقة إلى دوران الأرض حولمحورها في اتجاه الشرق. كما اعتقد أن عطارد والزهرة يدوران حول الشمس، وليس حولالأرض. وخلال القرن الثالث قبل الميلاد ذهب أريستاركوس أوف ساموس لأبعد من ذلك فاقترح دوران الكواكب بما فيها الأرض حول الشمس ودوران الأرض حول محورها. وكان كل من هيراقليدس وأريستاركوس سابقين زمانهما، ومع ذلك لم تستطع أفكارهما أن تحل محلنظرية مركزية الأرض. وفي حوالي عام 125ق.م قسَّم فلكي إغريقي يدعى هيبارخوس النجوم التي أمكنه رؤيتها إلى أنواع من التوهج. ونظام الأقدار الذي يستخدمه الفلكيون حاليًّا صورة مطورة منهذا المقياس القديم. ويُعْرَف هيبارخوس في التراث العربي والإسلامي باسم "أبو خس".
خلال القرن الثاني الميلادي طور الفلكي الإغريقي كلاوديوس بطليموس، الذي عاش في الإسكندرية بمصر، نظريات أرسطو وهيبارخوس. وضمَّن بطليموس كتابه: "المجسطي" أفكاره وملخص أفكار الفلكيين الإغريقيين، وخصوصًا هيبارخوس. ويعد "المجسطي"المصدر الرئيسي لمعارفنا عن الفلك الإغريقي. وقد انتقد أبو محمد جابر بن الأفلح هذا الكتابفي كتابه المعروف بكتاب "إصلاح المجسطي"، ودعم انتقادَه هذا عالِمٌ آخرُ أندلسيٌّ هونور الدين أبو إسحق الأشبيلي في كتابه:"الهيئة". ظلت نظرية بطليموس عن مركزية الأرض سائدة لنحو 1500 عام، وتقبل الفلكيون جزءًامن أفكاره وجداوله التي وضعها للكواكب مسبقًا. وخلال معظم هذه الفترة أولىالأوربيون قليلا من الاهتمام بعلم الفلك. هذا في الوقت الذي واصل فيه الفلكيونالعرب رصد السماء وتنقيح ما جاء في كتابات بطليموس والمحافظة عليها. وأخيرًا ظهرت ترجمة "المجسطي" باللاتينية في القرن الثاني عشر فقدمت أفكار بطليموس إلى أوروبا".
وواضح أنه لا يوجد فى علم الفلك الإغريقى شىء اسمه "سماوات سبع" تشكل السماء التى نراها فوقنا السماء الأولى فيهاطبقا لما جاء فى القرآن، ولا أن المسافات الفلكية تقاس بآلاف السنين كما أومأت إلى ذلك الآية الرابعة من سورة "المعارج". ومن الناحية الأخرى ليس فى القرآن أن الشمس تجرى حول الأرض، التى لا يتحدث الكتاب المجيد عنها أبدا على أنها مركز الكون كما يزعم عِبْس وكاتب مادة "Cosmology" فى "دائرة المعارف الإسلامية". وكذلك ليس فيه أن الأفلاك كائنات عاقلة تدبر الكون طبقا لما كان بعض فلاسفة المسلمين يقولون متأثرين خطا الفلكيين والفلاسفة الإغريق، ففى الإسلام لا يوجد إلا مدبر واحد هو الله سبحانه وتعالى. وبالمناسبة فإن أوائل مفسرى القرآن العصريين المتأثرين بالثقافة الحديثة مثلا كانوا يشرحون "السماوات السبع" على أنها الكواكب السبع ظنا منهم أن عدد الكواكب سبعة، غافلين عن أن السماء ليست هى الكوكب من جهة، وأن الكواكب من الجهة الأخرى تزيد عن سبعة. وهذا خطأ يتحملون هم تبعته لا القرآن!
ثم ينقل عِبْسٌ (ص109) قول الرازى العالم الطبيعى (لا الرازى مفسر القرآن) نقل المحتفى الذى يفكر يديه حبورا وسرورا. وهذا هو كلام العالم الفيلسوف كما نُسِب إليه فى بعض الكتب القديمة لا كما سجله هو بنفسه لأن كتبه التى يقال إنه ألفها فى الكفر بالنبوات وما إلى ذلك لا وجود لها، وربما لم توجد قط: "وايْمِ الله لو وجب أن يكون كتابٌ حجةً لكانت كتب أصول الهندسة و"المجسطى"، الذى يؤدى إلى معرفة حركات الأفلاك والكواكب، ونحو كتب المنطق، وكتب الطب الذى فيه مصلحة للأبدان، أولى بالحجة مما لا يفيد نفعا ولا ضرا". لقد نقل عبس هذا النص قائلا إن الرازى إنما يقصد بكلامه هنا "القرآن وأمثاله". وفات مدلسنا الأكبر أنه قد تكررت، فى كتابه هذا نفسه، زرايته على علم الفلك اليونانى الأسطورى الذى يمجده الرازى فى هذا النص. فما عدا مما بدا؟ هل الهدف عنده هو المكايدة، والسلام، ولا يهم التناقض بعد هذا فى قليل أو كثير؟ ثم كيف تكون نهضة عند العرب أو غير العرب دون أن تتقدمها أولا نهضة روحية تتحرر فيها الهمم والضمائر والعقول من الكُبُول التى تشل حركتها؟ وهل كان الرازى ليظهر فى أمة العرب دون أن يسبقه محمد فيدعو إلى طرح الخرافات والأوهام والإقبال على العلم والاجتهاد فيه باعتباره فرضا واجبا يحاسَب الإنسان على إهماله؟ ألا إن الرازى فى كلامه هذا، إذا كان قد قاله فعلا ولم يُحْمَل عليه حملا، لَضَيِّقُ العَطَن إلى مدى بعيد لا يصح من عالم مثله، لكنه التعصب الأعمى للأسف الذى يفعل الأفاعيل!
إن أى تلميذ مفعوص الآن ليعرف من المعلومات العلمية الطبيعية والرياضية ما لم يكن فى جَعْبة الرازى، إلا أن الأمة كلها على بَكْرة أبيها رغم ذلك متخلفة أشد التخلف فى العلم وغير العلم، وكل يوم تزداد تخلفا وتأخرا رغم انتشار المدارس والجامعات وكثرة الكتب والدروس والمحاضرات. وها هى ذى شوارع المحروسة وحاراتها تعج بتلال الزبالة المنتنة والمقذية للعين دون أن ينتفع المصريون، عوامهم ومتعلموهم ومثقفوهم، بما هو متاح لهم من العلم مما لم يكن لدى الرازى عشر معشاره. والسبب هو سقوط الهمة وتسلط البلادة واليأس على النفوس، وكلها أمور لا ينجع فيها إلا استنهاض العزائم واستفزاز الأرواح حتى تهب من رقدة العدم التى استنامت إليها وفرحت بها.
وهنا يأتى دور الإسلام، الإسلام الذى حصرته الحكومات وعلماء السوء فى الحديث عن الحيض والنفاس واللحى والجلابيب والحجاب والنقاب دون الاقتراب من النصوص التى تحض على الوقوف فى وجه الاستبداد والتبعية وسرقة المال العام "عينى عينك" بالملايين بل بالمليارات وتزييف الانتخابات بفجورٍ ما بعده فجورٌ وتحويل البلاد كلها إلى عزبة خاصة للحاكم الجاهل عديم الضمير والعقل والذوق والإحساس، ومعه أولاده وأقاربه الذين يجثمون مثله على صدر الأمة كالجبال لا تتزحزح أبدا، والشعب مطأطئٌ رأسه فى ذلة وانكسار واستسلام، ومنبطحٌ على الأرض تفعل به السلطات الغشوم ما تهوى دون أن يفتح فمه بكلمة. إخص عليك أيها الرازى المرازى إن كنتَ قلتَ ما هو منسوب إليك! لم يكن العَشَم فيك أن يُضِلّك عقلك فلا تنتفع بعلمك، بل تلحد وتكفر بالقرآن وبالنبى الذى نزل عليه القرآن اعتمادا منك على شبهات متهافتة، اللهم إلا إذا كانوا قد حملوا إليك ما لم تقله!
أما بالنسبة إلى قولك، حسبما نسب إليك الناسبون، بأن الأديان كانت سببا فى انشقاق البشر وتحاربهم، وبالتالى رحتَ تنادى بالتحرر منها، فكيف فاتك أن النزعة إلى التخاصم والتحارب لا ترجع إلى الأديان بقدر ما ترجع إلى ما رُكِّب فى غرائز البشر من حب الذات والتطلع إلى السيادة والسيطرة؟ وما رأيك فى أن فلاسفة أوربا ومصلحيها يقولون اليوم فى العلم ما كنت تقوله من قبل فى الأديان؟ فهل نلغى العلم ونقول بخطورته على البشر ونَفُضّها سيرة لأنه يصنع الأسلحة المبيدة المدمرة، ويضع الخطط التى تفكك الدول وتهدمها وتساعد فى الاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها وتغييب عقول شعوبها؟ إذن لن يكون ثمة علم ولا دين، ولا حضارة. وينطبق هذا على كل تصرف من تصرفات البشر، فالحروب تثور بينهم لأى سبب ولكل سبب ولأتفه سبب. وقد قامت حرب طروادة، كما يقولون، من أجل امرأة لا من جراء اختلاف الأديان. وفى عصرنا هذا تُشَنّ الحروب من أجل البترول والمواقع العسكرية والسيطرة الثقافية. والخصومات بين البشر لا تنتهى، بسبب الدين أو غيره. وإذا استعرنا لغة المسرح فإننا نستطيع أن نقول إن ألوان "الصراع" بين الناس لا حصر لها: فمن صراع بين الدول إلى صراع بين المدن إلى صراع بين كل حى وآخر إلى صراع بين الأُسَر إلى صراع بين الرجل وزوجته إلى صراع بين الأب وابنه إلى صراع بين أهل المهنة الواحدة إلى صراع بين الجيران إلى صراع بين الزملاء إلى صراع بين الأصدقاء إلى صراع بين الشخص الواحد ونفسه. ألا تقول العامة إن "المصارين تتخانق بعضها مع بعض"؟ نعم، قد يثور صراع بين عقل الإنسان وعاطفته، أو بين رأى عنده ورأى آخر، أو بين رغبة ورغبة... إلخ.
على أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، إذ إن الأطفال الصغار الأغرار الذين لا يعرفون شيئا عن الأديان ولا تهمهم الأديان فى شىء كثيرا ما يتخاصمون ويتعاركون عراكا شديدا. بل إن معارك الكبار من البشر لا تتوقف حتى فى ميدان اللعب والتسلية حيث لا وجود للأديان فى ذلك الميدان على الإطلاق، ففى مباريات كرة القدم مثلا قد تقوم معارك طاحنة بين المشجعين يسقط فيها قتلى وجرحى بأعداد غير قليلة. كما أن الحيوانات، ولا علاقة لها بالدين فى قليل أو كثير، لا تكف عن العراك والقتال المبير. وليس هذا فحسب، بل إن الملاحدة الذين لا يعترفون بالدين يتحاربون كما يتحارب المتدينون، ربما أفظع مما يتحارب هؤلاء. وكلنا يذكر غزو السوفييت للمجر فى الخمسينات والفظائع التى ارتكبوها فى ذلك الغزو. وكان الطرفان ملحدين، وعلى مذهب واحد هو مذهب الشيوعية. وكانت قبائل العرب فى وثنيتها قبل الإسلام تتناحر لأتفه الأسباب، وقد تطول الحرب بين قبيلتين عشرات الأعوام. كذلك هناك معارك بين الإنسان والحيوان، ولا صلة لها بالدين، سواء كان العدوان واقعا من البشر على الحيوانات رغبة فى الحصول على لحومها أو جلودها أو عاجها مثلا، أو كان الأمر بالعكس كما فى حالة الفئران والثعابين والصراصير والذِّبّان والقمل والبعوض والميكروبات والجراثيم والفيروسات، التى تسبب للإنسان ألوانا من الأذى والمعاناة، بل قد تهدد حياته نفسها تهديدا مفزعا.
هذا، ولا نريد أن نكون ضيقى الأفق مثلك يا طبيبنا الفيلسوف، إذا كنتَ قلتَ ذلك فعلا ولم يكن أحدهم قد نسبه إليك على غير الحقيقة، فنقول: أين الكتب التى تباهى بها؟ لقد انتهى أمرها وتجاوزتها مسيرة المعرفة، ولم تعد لها أهمية الآن. لكننا أعقل من أن نحاجّك بأسلوبك المتهافت، فإننا نعرف أن العلم ينبنى بعضه على بعض، وأن علم عصرك موجود فى طبقة مطمورة من طبقات المعرفة لم يضع، ولولا هو ما كانت علومنا اليوم. أما القرآن فإنه فى القمة دائما رغم كل ما يشغب به أعداؤه عليه ويوظفون أمثال عِبْس من المختلين أخلاقيا كى يَخْتِلوا المسلمين عن دينهم ويفقدوهم الثقة فى كتاب ربهم، مما كانت ثمرته "الفرقان الحق" و"القرآن الشعبى" و"القرآن الإصلاحى" و"قرآن رابسو"، والبقية تأتى، والحبل على الجرّار. أرأيت، يا رازى أو يا من تنطق باسم الرازى، كيف أننا أحكم منك؟ ثم أرأيت، أيها القارئ، كيف وظَّف عباسٌ البغل النغل كلام ذلك الرازى المرازى فى محاربة دين الأمة لحساب أمريكا، وهو يزعم أنه يأخذ بيدها إلى مراقى الفَلاَح؟
على أنى لا أريد أن أقع فى خطإ الرازى، بغض النظر عن أن يكون هذا خطأه فعلا أو شيئًا نُحِل له، فأقول إن العلم لا قيمة له، وإلا كنت من الجاهلين المغلقى الذهن، والعياذ بالله، بل أقول إن الإسلام والعلم أخوان شقيقان لا يستغنى أحدهما عن أخيه، وإلا كنت كبعض زملاء الشباب الأول فى القسم العلمى فى الثانوية العامة، الذين كانوا يغايظوننا نحن طلاب القسم الأدبى فيقولون على سبيل المفاخرة إنه لم يعد هناك أى داع للدارسات الأدبية (يقصدون الدراسات الإنسانية)، ومتسائلين على سبيل الرغبة فى الإفحام: هل بإمكانكم اختراع تليفزيون أو صاروخ مثلا؟ وكنت أضحك من هذه السذاجة قائلا: وهل يصلح التليفزيون دون أن يملأه أمثالنا من أهل الأدب والفن بالمسرحيات والتمثيليات والأفلام والأغانى والأحاديث وما إلى ذلك؟ ولم أكن أحب أن أُولِمَهم بلفت نظرهم إلى أنهم هم أنفسهم ضعفاء فى العلم الذى يباهوننا به ضعفا مزريا ويأتون دائما فى ذيل الطلاب فينجحون بــ"الحُرُكْرُك" بخمسين فى المائة أو أزيد قليلا، ودعنا من الحديث عن تخلفنا الشامل نحن المصريين، بل نحن العرب، بل نحن المسلمين أجمعين فلا نصنع تلفازا ولا دياولو.
كذلك لا أريد أن أكون مثل باحث الدراسات العليا الذى كنت أناقشه ذات يوم منذ عدة سنوات، وكان يظن أن "نحو النص" قد ألغى إلى الأبد "نحو الجملة"، فنبهته إلى أن النحوين يتعاونان ولا يتخاصمان، وأن لكل منهما تخصصه الذى يكمل تخصص الآخر. وكم كان مؤلما حين سألت ذلك الباحث وقتها عن إعراب إحدى الواوات فى النص الذى بين أيدينا فاحتار وبار، ولم يفتح الله عليه بكلمة صحيحة، فقلت له: أتراك الآن مصرا لا تزال على إلغاء نحو الجملة؟ إن نحو النص يُعْنَى بما يُكْسِب النص كله خصيصة التماسك والإحكام، أما نحو الجملة فيهتم بأصغر وحدة تركيبية فى النص، وهى الجملة، على حين يتولى علم الصرف أمر اللفظة المفردة. ولا شىء من هذه العلوم الثلاثة يغنى أبدا عن صاحبيه. وإن مَثَلك يا هذا، فى مناداتك بالاستغناء عن نحو الجملة، كَمَثَل شخص يريد هدم جدران الغرف والشقق وأبوابها اكتفاء بجدران البيت الخارجية وبابه الكبير. والواقع أننى لا أفهم لماذا اتخذ الرازى ذلك الاتجاه الضار إن كان فعلا قد اتخذه، وهو العالم الفيلسوف الذى كان ينبغى أن يكون أوسع من ذلك أفقا وأعمق نظرا.
ومن المضحك، وكل ما كتبه العِبْس مضحك، أن يقول فى موضع من كتابه فى هذا السياق إن علم الإعجاز قد بلغ غاية نضجه فى القرن الرابع، ثم يقول أيضا فى ذات الكتاب إن كتب الإعجاز قد ابتدأ ظهورها منذ القرن الرابع؟ (ص85). ترى كيف يجتمع ابتداءٌ ونُضْجٌ فى ذات التاريخ؟ إن الابتداء معناه أننا ما زلنا فى أول الطريق وأن علماء الإعجاز قد فتحوا لتوهم دكانة الدفاع عن القرآن وقد اخذوا يبتهلون وهم يتطلعون إلى السماء قائلين: يا هادى يا كريم! أما النضج فمعناه أننا وصلنا إلى خط النهاية، ولم يعد هناك زيادة لمن يبتغى زَيْدًا. فانظر، أيها القارئ الكريم، إلى هذا التخبط، وقل لى بالله عليك: ماذا يمكن أن نسمى صاحبه؟
وعلى نفس الشاكلة تكررت سخرية عبد الديجور من الحديث النبوى المعروف عن العسل، متخذا إياه دليلا على أن العلماء المسلمين، حين يصطدمون بأخطاء القرآن فى حديثه عن الكون، نراهم يلجأون إلى لَىّ الحقائق الكونية كى تتسق وما يقوله القرآن بشأنها رغم خطئه، قاصدا أن يقول إن العلماء، بدلا من تخطئتهم القرآن، يعملون على تخطئة الوقائع الصحيحة الصلبة التى تفقأ العين. ومن ذلك قوله (ص198): "وهذا يذكّرنى بحديث العسل، فقد جاء رجل يشكو إلى النبى مرضا يعانى منه أخوه فى بطنه، فأمره أن يسقى أخاه عسلا، وذلك عقب نزول آية العسل بوقت قصير عندما كانت لا تزال طرية فى الذاكرة: "يَخْرُج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاء للناس" (16/ 69). فذهب الرجل وسقى أخاه عسلا، فاشتد مرضه. فرجع إلى النبى وذكر له ذلك، فقال له للمرة الثانية: اسقه عسلا. فرجع وسقى أخاه عسلا، فتفاقم مرض أخيه. ثم عاد إلى النبى للمرة الثالثة يكرر شكواه. ويبدو أن النبى ضاق به وبأخيه، فقال له للمرة الثالثة والأخيرة: "اسقه عسلا. صدق الله وكذب بطن أخيك". وعلى هذا سار المفسرون: تكذيب الأحداث، وتصديق القرآن. ألا من عَدِم العقل فليقل ما يشاء".
ولأن تلك المسألة تكررت من العِبْس مرات حتى باخت كان لا بد من إيراد حديث العسل كما هو فى كتب السُّنّة لا كما أورده المدلّس العريق فى التدليس والتخبيص، حتى يكون القارئ الكريم على بينة من الألاعيب التى يعتمدها صاحبنا فى مهاجمة النصوص القرآنية. وهذا نص الحديث المذكور كما جاء فى البخارى ومسلم والترمذى: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنُه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقه عسلا"، فسقاه. ثم جاءه فقال: إني سقينه عسلا فلم يزده إلا استطلاقا. فقال له ثلاث مرات. ثم جاء الرابعة فقال: "اسقه عسلا "، فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله، وكذب بطن أخيك". فسقاه فبرأ".
ومن الواضح أن الكاتب لم يورد الحديث بتمامه لغرض فى نفسه. ومن الواضح أيضا أن الآيتين اللتين تتحدثان عن هذا الموضوع فى سورة "النحل"، ونصهما: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)"، لم تحددا طبيعة الأمراض التى يشفيها العسل ولا الكيفية التى ينبغى استعماله بها للحصول على الشفاء. وقد اجتهد النبى عليه السلام فى تطبيقهما، ومن البين الجلىّ أن المقدار الذى شربه المريض من العسل فى البداية لم يكن كافيا، فظل يسقيه الرسول إلى أن وصلت مرات السقى إلى أربع لا ثلاث كما زعم المدلس الكذاب، ودون أن يضيق صدره عليه السلام على عكس ما افترى عليه كذابنا المدلس. وحين بلغ العلاج الحد الناجع برأ المريض مما كان يقاسيه. فأين إذن وجه السخرية من الحديث الشريف الذى بتره بترًا أبو العبابيس، أستاذ التدليس والتهليس، حتى يستخدمه فى الغرض الملتوى الذى يروم؟
ومن تسافه عِبْس على القرآن (ص268- 269) مهاجمته لقوله تعالى: "وسخَّر لكم ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه" وغيره من الآيات التى تدور فى نفس الفلك، إذ فهم أبو العريف أن معناها هو أن الله قد سخرها لنا نحن البشر وحدنا، وهذا غير صحيح كما يقول لأن هناك مخلوقات أخرى كثيرة تنتفع بما فى السماوات والأرض مثلما ننتفع نحن به. والحق أن أبا العريف الجاهل كعادته السيئة قد دس هنا أنفه المنتن فيما لا يحسن فطيّنها تطيينا. ذلك أنه ليس هناك حصر أو قصر فى الآية يجعل تسخير ما فى السماوات والأرض خاصا بالبشر وحدهم، بل المعنى أنه قد سُخِّر لنا ضمن تسخيره للمخلوقات التى تنتفع جميعا به. هكذا ببساطة يا أبا الجهل والحماقة!
وبعد، فإن الكاتب، كما رأينا، ينفى أن يكون القرآن معجزا. ورغم ردى بالدليل الحاسم الجازم الساحق الماحق على كل ما سطره من سخف فإنى أود أن أضيف شيئا مهما حاسما فى هذا السبيل. إنه المقارنة الأسلوبية بين القرآن الكريم والحديث الشريف، وهو ما سبق أن اضطلعت به فى كتابين لى ظهرا منذ مدة طويلة، وهما "عشر لآلئ من الحديث النبوى الشريف" و"القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية". وقد تبين من الدراستين أن الأسلوبين مختلفان تمام الاختلاف بما يدل على أن محمدا لا يمكن أن يكون هو مؤلف القرآن على عكس ما يرمى إليه عِبْس الأعباس، الماشى من غير لباس، فى كتابه الهزيل الموتور الذى تنصل منه قبل أن يخرج إلى النور تصورا منه أنه سوف يهد الدنيا فزعم أنه مات، فإذا بأحلامه تطيش، وإذا بكذبه وادعائه الموت قد طلع فاشوشا. وإذا كان واحد مثلى قد اهتم بالرد على الكتاب رغم هذا فتلك خطتى: ألا أترك شيئا دون ردٍّ خدمة للأجيال القادمة حتى لا يقال يوما إن المسلمين قد عجزوا عن الرد على كتاب يهاجم القرآن، وذلك بغض النظر عن قيمة الكتاب العلمية. وعلى أية حال فقد عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن أو آية منه. وسواء بعد هذا أكان سبب ذلك هو أن الله صرفهم عن المحاولة كما يقول بعض علماء المسلمين من أهل الاعتزال، وهو ما لا اوافقهم عليه أبدا، أم كان سببه العجز الذاتى لأن مسامتة البشر لربهم أمر مستحيل تمام الاستحالة. أما زعم العبس أن كتابات ابن المقفع والجاحظ والعقاد وطه حسين أفضل من القرآن فليبلَّه وليشرب ماءه عقب الاستيقاظ صباحا حتى تطرد الشربة الديدان التى تعيث فى مخه فسادا، فقد يستطيع أن ينقذ شيئا من مخه المثقَّب المتهرئ من كثرة ما عاث فيه دود البَلَه فسادا، وإن كنت أشك فى ذلك على طول الخط. وعلى كل حال فقد رددنا على هذه الدعوى بما سحقها وذرّاها فى اليمّ.
ومن ناحية المقارنة الأسلوبية بين القرآن والحديث نجد أن هناك ألفاظا تتكرر كثيرا فى الأحاديث النبوية، فإذا ذهبت تبحث عنها فى القرآن لم تجد شيئا، مثل الزبد والجبن والنبيذ والبُسْر والدقيق والسمن والتمر والفَطُور والعَشَاء والسَّحُور والشبع والرِّىّ والرداء والإزار والبُرْد والبرنس والمُشْط والكحل والطيب والخضاب، وكل أيام الأسبوع ما عدا السبت والجمعة، وكل الشهور ما عدا رمضان، وكل فصول السنة، وكذلك المقاييس كالذراع والشبر والباع والفرسخ، والموازين كالأوقية والرطل، والمكاييل كالصاع والمُدّ والقدح، والبادية والفلاة والصحراء والرمال والتلال، والحسب والنسب، والعِرْض والشرف، والجيش والسرية والقوس والسهم والسيف والنبال والنية والتشهد والخطبة والأمير والبأس والتميمة والحُمَّى والخادم والداء والدواء والرُّقْية والعُرْس والشبهة و الحُجّة والمَظْلَمة والعافية والغش...
وثم ألفاظ وردت فى القرآن مجموعة، وفى الحديث مفردة، والعكس بالعكس، مثل "أرض" التى لم ترد فى القرآن إلا مفردة، بينما وردت فى الحديث مفردة ومجموعة أيضاـ وككلمة "إصبع"، التى لم ترد فى القرآن إلا مجموعة، بينما وردت فى الأحاديث مفردة كذلك، وككلمة "أمين"، التى لم ترد فى القرآن فى الأربع عشرة مرة إلا مفردة، بينما وردت فى الأحاديث مجموعة أيضا... وهلم جرا. وإلى جانب ذلك هناك ثنائيات حديثية لم تأت فى القرآن، مثل كلمتى "أجر ووزر"، اللتين تكرر ورودهما معا فى الأحاديث، أما فى القرآن فلا. ومثلهما فى ذلك الثنائيات التالية: "بغض وحب، هزل وجد، دينار ودرهم، صَبَر واحتسبَ، وَفَّى ووَعَد... إلخ". وهناك كذلك تعبيرات وردت فى الأحاديث النبوية ولم ترد فى القرآن، مثل "ليلة البدر، أما بعد، ما بال...؟، ذات محرم، حديثُ عهدٍ بـ...، كفى بالمرء إثما أن..."، وعلى العكس من ذلك التعبيرات القرآنية التالية: "إن الله لا يحب الـ...، متَّعناهم إلى حين، لا تتَّبِعوا خطوات الشيطان، وما أدراك ما...؟...". وفى الأحاديث كذلك تركيبات لا يعرفها أسلوب القرآن مثل "ألاَ و...، أمَا الاستفتاحية، إياك أن... وهلم جرا". وأريد هنا أن أقف عند تركيب ورد فى كل من القرآن والحديث، ولكن بطريقة تختلف فى كل منهما عن الآخر: ففى الحديث مثلا: "تصدقوا ولو بشق تمرة، بَلِّغوا عنى ولو آية، انظر ولو خاتما من حديد"، وفى القرآن: "كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى". ولكن عند التدقيق نجد أن ما بعد "ولو" فى الحديث هو أهون شىء، بينما فى القرآن هو أهم شىء... وهذه مجرد نظرة سريعة من كتابى: "القرآن والحديث"، الذى تبلغ صفحاته ستمائة صفحة.
ثم إنك تذهب فتفتش القرآن كله من أوله إلى آخره فلا تجد أى شىء عن أفراح الرسول ولا عن أحزانه وهمومه على كثرة هذه وتلك فى حياته كأى إنسان. فمثلا لا ذكر فى القرآن لأى عرس من أعراسه صلى الله عليه وسلم ولا لموت خديجة أو أبى طالب أو إبراهيم ابنه الصغير، الذى رُزِقه على كبر وبعد معايرة قومه له فى مكة بـ"الأبتر"، ولا حتى عمه حمزة، الذى مات ميتة شنيعة فى غزوة أحد. وكذلك ليس فى القرآن أى تألم لهزيمة أحد ولا أية طنطنة أو قعقعة بانتصار بدرٍ المدوى أو فتح مكة الذى وضع حدا للوثنية فى مكة ثم فى بلاد العرب عقب ذلك. ليس ذلك فحسب، بل ما من موضوع يتناوله القرآن إلا وتجد الروح الإلهى من ورائه بجلالها وعظمتها. كما أن القرآن منذ البداية قد تحدى الكفار بأن الإسلام منتصر لا محالة ومنتشر فى الدنيا كلها، وقد كان. وبالمثل تنبأ بأن فارس، التى كانت حديثة عهد بالانتصار على الروم، سوف تنهزم على يد الروم فى غضون بضع سنين، وقد كان. وتنبأ بأن أبا لهب سيموت كافرا وسيدخل النار، وقد كان. وتنبأ عشية الحديبية بأن المسلمين سوف يدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، وقد كان. كذلك تنبأ النبى نبوءات كثيرة، إلا أننى أتريث فقط عند نبوءته بفتح القسطنطينية، إذ لا يمكن التشكيك فيها، فقد فُتِحت القسطنطينية بعد تدوين الأحاديث بزمن طويل بحيث لا يستطيع أى مداور سخيف أن يزعم أن رواة الحديث قد اخترعوا النبوءة بعد فتح المدينة كى يسجلوا للنبى فخارا لا يستحقه...
ودعنا من هذا كله إذا شئت يا أبا العبابيس وقل لى: ما الذى كان يضطر محمدا إلى اختراع القرآن وادعاء نزول الوحى عليه من السماء، وكان قومه يقفون ضده ويسخرون منه ويهزؤون به ويتآمرون عليه ويؤذونه أشد الأذى، وهو الذى عاش ما عاش متواضعا زاهدا راضيا بالقليل، لم يمارس استبدادا ولا أساء استعمال السلطة فى يوم من الأيام رغم استعداد الصحابة للموافقة المطلقة على كل ما يقوله ويفعله صلى الله عليه وسلم، ولا كان يريد لأهله أن يحكموا من بعده ولا كان يدعو إلى قومية عربية، بل أكد أنه لا فضل للعرب على غير العرب ولا لغير العرب على العرب إلا بالتقوى والعمل الصالح؟ وفى هذا السياق يرى ألفرد جيوم أن حرارة الأقوال التى كان يتفوه بها النبى وانشغاله التام بالله وبالقضايا الأخلاقية وشعوره بأن ثمة ضغطا يسوقه سوقا لإعلان كلمة الله هو دليل على صدقه عليه الصلاة والسلام (انظر Alfred Guillaume, Islam, Pelicn Books, 1964, PP. 28- 30)، إذ لا مصلحة له صلى الله عليه وسلم فى شىء من هذا، ودَعْكَ من تحمله لكثير من الأذى والإهانة والألم وتعرضه للتآمر على حياته.
ثم ماذا يمكن أن نسمى الكائن الذى يتصدى لمهاجمة القرآن وهو لا يحسن التفرقة بين همزة الوصل وهمزة القطع إلى مدى غير مسبوق، إذ يضع دائما وباستمرار همزة على ألف التعريف بحيث ما من كلمة فى الكتاب بدأت بألف ولام إلا وجدت على رأس الألف همزة؟ اسم النبى حارسك وصائنك يا عِبْس! كذلك ما من مرة استخدم مصدرا خماسيا أوسداسيا إلا وضع تحت ألفه همزة أيضا. ألا خيبة الله على التافهين! ثم هو أيضا لا يفرق بين ضمير جماعة الإناث وضمير جماعة الذكور، فكله عنده صابون، إذ يقول عن الأمهات: "هم" بدلا من "هُنّ" (ص280). ومثل ذلك صَوْغه الفعل: "يشكو" المسند إلى نون النسوة هكذا: "يَشْكِين" (ص274) بدلا من "يَشْكُون" كما ينبغى أن تكون.
وقد رأيناه قبلا يقول: "سُدْرة المنتهى" (بضم السين بدلا من الكسر)، كما كتب أيضا (ص192) الآية رقم 97 من سورة "الكهف" هكذا: "فما استطاعوا أن يُظْهِروه" (بدلا من "يَظْهَروه"، أى يظهروا السَّدّ أو الرَّدْم الذى بناه الإسكندر)، بما يقلب اللفظة تماما بعيدا عن معناها: ذلك أن معنى "يَظْهَر فلان السُّور": يتسلقه، أما "يُظْهِره" (بضم الياء وكسر الهاء) فمعناه: "يخرجه من الخفاء إلى العلن". ويجد القارئ خطأ آخر من هذا النوع فى ص195 حينما كتب قوله تعالى: "هو اجتباكم فما جعل عليكم فى الدين من حرج" بالفاء بدلا من الواو. ومثل ذلك ضبطه بالضم قاف "قرِّى" فى قوله تعالى مخاطبا مريم عليها السلام: "قَرِّى عينا" (ص274). والحق أنى لا أدرى كيف يقع ذلك المعتوه فى مثل تلك الأخطاء، وهو إنما ينقل الآيات من المصحف الضوئى نسخا فلا مجال فيه لمثل ذلك الخطإ. وثم أخطاء أخرى أشرت إلى بعضها فيما سبق، وأخطاء وقعت بعد ذلك ضربتُ عنها صَفْحًا. فكيف يتصدى متخلف مثل هذا لتخطئة القرآن؟ لقد هُزِلَتْ حتى سامها كل مفلس من العقل والعلم والذوق والحياء كعبس الأعباس، الهجّاص الهلاّس!
وهذا الهجاص الهلاس يحمل أيضا على الطريقة التى يتحدث بها القرآن عن القوانين الكونية، قائلا فى غضب لا مبرر له إن القوانين فى القرآن هى قوانين الله لا قوانين الكون (ص199)، بما يعنى أنه لا يوافق على هذا الوضع باعتبار أن القوانين هى فى الحقيقة قوانين الكون لا قوانين الله. لكن أليس الله هو خالق الكون وخالق القوانين جميعا، ومن ثم فهى قوانينه قبل أن تكون قوانين الكون؟ وهل هناك تضاد بين هذا وذاك؟ وهل يمكن أن يكون هناك كون أصلا، فضلا عن أن تكون هناك قوانين لهذا الكون، لو لم يخلق الله ذلك الكون؟ إن نيافته يزعم أن إسناد القوانين لله معناه أن الله لا يجرى على قاعدة ولا يتقيد بقانون فى تسيير أمور الحياة، بل كل شىء متروك للمصادفة والقرارات اللحظية.
الله أكبر على المفترى الكذاب! لكأننا جالسون على مصطبة فى الريف أمام دوار العمدة حيث يتخذ قراراته العشوائية تبعا للظروف! ترى أين نجد هذا فى كتاب الله؟ وهل كان الكون ليستمر حتى الآن عبر ملايين السنين لو كان الأمر يجرى سبهللا على النحو الذى يصوره ذلك المضروب فى مخه؟ ألم يقرأ قوله سبحانه مثلا: "فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا"؟ ألم يقرأ أن الله قد خلق كل شىء بمقدار وبميزان، فهو لا يميل يمنة ولا يسرة؟ ودعنا مما فى كتاب الله، وخَلِّنا فى الكون الذى خلقه الله، فأين فى هذا الكون ما يدل أو حتى ما يوحى بأن أموره تسير على العشوائية والمصادفة والقرارات اللحظيّة النَّزْوِيّة؟ فماذا نصنع بقوانين الطبيعة إذن التى تخر لها أنوف الجبابرة والحقيرين أجمعين دون أن يستطيع أحد من هؤلا أو أولئك الخروج عليها بغير أن تندق عنقه ويضيع فيها ويلحق غير مأسوف عليه بالهالكين؟ إن هذه القوانين الطبيعية أو السنن الكونية هى التى خلقها الله ورتب كونه على أساس منها، فهى إذن مجلًى لمشيئة الواحد الأحد.
وفى ص200 نراه ينكر أن يكون سبب هلاك الأمم هو الإفساد فى الأرض. أليس الكسل والتنبلة والرشوة وكراهية العلم وعدم الاستعداد لمكافحة العدو وإلقاء اليد إلى التهلكة وما إلى ذلك هى أسباب هلاك المجتمعات، إذ تؤدى إلى تخلفها وفقرها وتعرّضها من ثم لاجتياح الاستعمار أراضيها عاجلا أو آجلا واستيلائه على ثرواتها ومقدّراتها وتصريفه لسياستها على النحو الذى يحب، ومحاربته لدينها وتراثها وثقافتها وتقاليدها، وتقسيمه لها إلى دويلات متناحرة؟ إن الهلاك عنده، فيما يبدو، لا يمكن أن يكون إلا الهلاك بجائحة طبيعية لا الهلاك الحضارى. وبالنسبة إلى الجائحة الطبيعية فإن التحذير بها، حسبما نقرأ عنها فى القرآن، كان يسبق دائما وقوعها، فإن تاب القوم نَجَوْا، وإلا أُهْلِكوا بها.
ومن تقاليعه فى الكتاب الذى بين أيدينا حملته الحمقاء على الإيمان بالغيب (ص228). فكيف بالله يكون إيمان إذن إذا اشترط المؤمن أن يرى كل شىء ويسمع كل شىء ويلمس كل شىء ويذوق كل شىء ويصير المستقبل والماضى حاضرا أمامه وتضطرب نواميس الكون؟ إن هذا ليس إيمانا بل مشاهدة وسماعا وشما وذوقا وحدسا. وشتان هذا والإيمان! ومع هذا فهل يظن القارئ أن فى ذلك حلا للمشكلة؟ إن من الناس ناسا ينكرون الشمس فى رائعة النهار دون حياء أو خجل، وإلا فمن الذى يكذب فيشهد بغير الحق فى واقعة شاهدها وسمعها وتيقن من كل شىء فيها أحداثا وأشخاصا؟ أليس أمثال هذا الشخص يملأون الدنيا من حولنا؟ ثم كيف يريد الكاتب منا أن نتجاهل الغيب، رغم أن عالم الغيب فى هذا الكون المتراحب الأبعاد أوسع مدى من عالم الشهادة بما لا يقاس؟ على أن القرآن لا يتطلب الإيمان بالغيب إيمانا أعمى، بل إيمانا مؤسسا على التفكير وإعمال العقل الذى يوجبه على المسلم فى كثير من الآيات كما هو معروف. فكيف يهاجم عبس إذن الغيب والإيمان بالغيب؟ وما المغزى من وراء هذا الهجوم؟ وما الذى يبقى من الإسلام إذا حذفنا منه الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر مثلا؟
والعجيب أنه يأخذ على المسلم انشغاله بالماضى بسبب الإيمان بالغيب (ص229)، مع أن الغيب فى القرآن بهذا المعنى لا علاقة له بالماضى بل بعالم الخفاء الحاضر دوما كالله والملائكة، أو بعالم المستقبل كالجنة والنار وما إلى ذلك. أما الغيب بمعنى تاريخ الأمم الماضية الذى يخبر القرآن به فليس هو المقصود فى القرآن عند الحديث عن وجوب الإيمان بالغيب والثناء على من يؤمنون به. وأعجب من ذلك أن العِبْس يكرر مؤكدا أن الإنسان ذو وجود ميتافيزيقى وحاجات ميتافيزيقية (ص237 وما بعدها، 244). أليس هذا هو الغيب الذى ينكره؟ أليس هذا هو التناقض بعينه؟ أومثل هذا يصح أن يهاجم القرآن والإسلام، وهو الذى يفتقر إلى المنطق تماما فى كل ما يقول؟
وبالمثل يهاجم العِبْس أبو عقل جِبْس عقيدةَ القضاء والقدر باعتبارها عقيدة التواكل والكسل وسقوط الهمة (ص231). لكن ألم يقرأ قوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، "قاتلوهم يعذبْهم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينصرْكم عليهم ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين* ويذهبْ غيظ قلوبهم"، "إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبّتْ أقدامكم"، "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، "إن تُقْرِضوا لله قرضا حسنا يضاعفْه لكم ويغفرْ لكم"؟ ألم يسمع بالحديث القدسى الذى يقول المولى فيه مخاطبًا ابن آدم: "كنتُ جائعا فلم تطعمنى، وعطشان فلم تسقنى، ومريضا فلم تَعُدْنى"؟ أليس عنده علم بقول الرسول: "اعملوا، فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له"، "اعقلها وتوكل"؟ ألم يصله نبأ قول عمر إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، أو قوله تبريرا لتركه دخول الشام عندما انتشر فيه الطاعون واستغراب بعض الناس لتصرفه متصورين أنه يفر من قضاء الله: إننى أفر من قضائه إلى قضائه؟ ثم إن الإيمان بالغيب فى القرآن قرين العمل الصالح دائما: العمل الصالح لا العمل فقط. فكيف بعد هذا كله يزعم عِبْس الأعباس مناقضة عقيدة الإيمان بالغيب للعمل والإنتاج؟ كذلك نراه يزعم أن الاعتقاد بالقضاء والقدر لا يقيم دولا بل دويلات ولا ينشئ علوما ولا تقدما. لكن إذا كان الأمر كذلك فكيف أنشأ المسلمون ما أنشأوا من إمبراطوريات؟ وكيف أنشأوا العلوم والتقدم والتحضر الذى كانوا يرفلون فيه؟
وبالنسبة إلى وجود الله فإنه كعادته يبدى تذبذبا وتناقضا ولا يستقر على موقف واحد، فهو مثلا فى ص 237 وما بعدها يقول إن وجود الله ليس عليه دليل، ومن ثم فلا معنى للألوهية، مع أن هذه المقدمة لا تؤدى إلى هذه النتيجة. ذلك أن المقدمة المذكورة تعنى أن هناك احتمالا أن يكون هناك إله، ومن ثم لا يصح نبذ هذا الاحتمال والتصرف على أساس أنه ليس هناك إله بالمرة. ثم إنه يقول مع هذا إن الإنسان محتاج إلى الله حاجة الطفل إلى الأبوين. أفليس هذا دليلا آخر على وجود الله؟ وإلا فمن الذى غرس هذه الحاجة فى نفوسنا؟ كذلك ففى ص 244 يسوق مبررات إنكاره لوجود الله، ليعود بعد قليل (ص247) فينفى أن يكون قد أنكر وجود الله أو أنه يريد إنكاره. وهكذا يتناقض ولا يستقر على حال، وفكره مضطرب أشد الاضطراب.
وطبعا هذا كله شىء، وقبولنا منه بعدم وجود إلهٍ شىء آخر. إننى لا أستطيع أبدا أن أفهم أنه ليس هناك إله لهذا الكون، وإلا فمن خلق ذلك الكون بجماداته وبشره وحيواناته ونباتاته وهوائه ومائه وناره وسماواته وأرضه وقوانينه التى تنظم أوضاعه؟ أمر من اثنين: إما أن نقول بالإله الذى نعرفه، ذلك الإله القوى القدير المريد العالم دون حدودٍ يقف عندها علمه أو مشيئته أو قدرته أو قوته أو وجوده، وإما أن نقول إن هذا الكون الجامد الأصم الأعمى البليد الذى لا يدرى من أمر نفسه، فضلا عن أن يدرى من أمرنا شيئا هو ذاته ذلك الإله. وليس هناك احتمال ثالث. فليختر عبس لنفسه أحد الإلهين، وهو حر فى اختياره، لكنه لا بد له من اختيار، وإلا لم يكن ذا عقل.
على أن إيماننا بالإله المطق القدرة والإرادة والقوة والعلم لايعنى أبدا أن الإنسان ليس سوى ريشة فى مهب الرياح كما يزعم نيافة العبس أن القرآن يطلب منا أن نؤمن، إذ يدعى نيافته أن من يؤمن بالقرآن وإله القرآن لا بد أن يفقد الثقة بنفسه وبالإنسان (ص232). ذلك أن القرآن يكرر كثيرا أن للإنسان إرادة ومشيئة. ولقد تتبعت ذات يوم منذ ما يقرب من عشرين سنة ما يقوله القرآن عن المشيئة الإنسانية فوجدت شيئا عجبا: وجدت أن القرآن يسند المشيئة إلى البشر منذ كانوا فى الجنة الأولى التى أُهْبِطوا منها إلى الأرض إلى أن يدخل الداخلون منهم الجنة، ثم لا تفارقهم تلك المشيئة داخل الجنة مع ذلك. وهذا موجود بتفاصيله فى كتابى عن سورة "الرعد"، التى درستها مع طلابى بكلية التربية بالطائف أيام كانت تابعة لجامعة أم القرى بمكة المكرمة. ومن تلك النصوص: "قلنا: يا آدم، اسكن أنت وزوجك الجنة (الجنة الأولى)، وكلا منها رغدا حيث شئتما"، "وقل: الحق من ربكم. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"، "وكذلك مَكَّنّا ليوسف فى الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء"، "نساؤكم حَرْثٌ لكم، فأْتُوا حرثكم أنَّى شئتم"، "وإذ قيل لهم (أى لبنى إسرائيل): اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم"، "تجرى من تحتها (أى من تحت جنة الآخرة) الأنهار، لهم فيها ما يشاؤون".
إلا أن المشيئة الإنسانية ليست مطلقة، بل محدودة ككل شىء بشرى. كما أنها موهوبة وخاضعة للمشيئة الإلهية. وليس فى هذا أدنى تناقض، فمشيئة الله تسيطر على كل شىء، وقد اقتضت هذه المشيئة المطلقة المسيطرة أن يتمتع الإنسان بمشيئة جزئية محدودة داخل تلك المشيئة اللانهائية. ونرى الآيات القرآنية فى بعض الأحيان تركز على المشيئة الإلهية بوصفها كل شىء، وأحيانا أخرى نراها تبرز المشيئة البشرية. وكلا الأمرين صحيح. كل ما هنالك أن طريقة التعبير تختلف تبعا لاختلاف الزاوية التى يتم رصد الأمر منها: فإن نظرنا إليه من الأفق العلوى بدا لنا كل شىء منطويا فى غمار المشيئة الإلهية، على حين لو نظرنا إليها من الأفق السفلى اتضح لنا أن هناك أيضا إرادة إنسانية، وأن هذه الإرادة قادرة على تحقيق العجائب، إذ بهذه المشيئة الصغيرة استطاعت البشرية أن تحقق ما يبدو وكأنه معجزات خارقة، فبنت الحضارات وأبدعت الآداب والفنون والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفلسفات والعلوم، وصنعت الكتب والأقلام والورق واللُّعَب والسيارات والقطارات والطيارات والصواريخ وسفن الفضاء والمذياع والتلفاز والبواخر والغواصات وأجهزة الكاتوب، وأنشأت البيوت والمعابد والملاعب واكتشفت علاج آلاف الأمراض، واستنبطت ملايين الأساليب للتسلية وتمضية الوقت فى سعادة ورضا... إلى آخر القائمة التى لا نكاد نعرف لها آخرا.
وبناء على هذه المشيئة الضئيلة التى تنجز العجائب سوف يحاسب الإنسان يوم القيامة، ولسوف يكون الحساب نسبيا، أى حسب السياق الذى يكون فيه صاحب العمل بمشجعاته ومثبطاته. ومن هنا نفهم لماذا تتحدث الآيات القرآنية عن العفو والغفران الذى قد يصل إلى مسح كل ذنب لصاحبه وكأنه لم يكن. أما قول عِبْس إنه قرر أن يلقى بالله خلف ظهره وينساه ويعتمد على نفسه فى اجتلاب النفع والخير لنفسه، واجتناب الأذى والشر فهو كلام الحمقى الذين عدموا العقل والذوق. وإلا فمن خلق عِبْس؟ ومن وهبه تلك الحرية التى يتيه فرحا بها ويهدد بأنه لن يعتمد إلا عليها، وكأنه طفل قرر أن يخاصم واحدا من لِدَاته تعارك معه على لعبة من اللعب؟ بل من وهبه العقل والحواس واليد والرجل والفم واللسان والأسنان والبطن والعظم والأعصاب؟ فكيف يتصور أنه يمكن أن يستغنى عن الله ويمضى فى الحياة دون إله؟ على رأى المثل: الناس حين تكبر تعقل، وعِبْس حين يكبر يفقد عقله وذوقه! وكلما اكتشف الإنسان المزيد من القوانين الكونية وأبدع من الآلات والأدوات ما لم يكن معروفا من قبل اتسع نصيبه من الحرية وانداح مداها.
وفى ص278 نرى عِبْس يسخر من الدعاء مؤكدا أنه أمر لا جدوى من ورائه ولا طائل لأن الله لا يجيب الدعاء أبدا، غافلا عن أن تحقيق الدعاء (بالمعنى الذى وضحناه آنفا طبقا لما جاء فى الحديث النبوى) مرهون بجملة شروطٍ مؤداها أن يبذل الإنسان كل ما لديه من جهد وعلم وإبداع للخروج من المأزق الذى هو فيه والحصول على المطلوب الذى يرنو إليه. لكن عِبْس يظن أن الكون تكية للعاطلين والكسالى والمتبلدين كالتكية التى يزعمون أنه كان "مديرا" لها. ويبدو أنه مَرَدَ على التنبلة والبلادة والجلوس دون شغلة ولا مشغلة، فاهما أن الحياة "أكل ومرعى وقلة صنعة"، فهو يريد أن ينام فاتحا فمه فتنزل فيه العصافير مشوية جاهزة منزوعة العظم ليأكلها دون أن يحرك ساكنا. ولهذا نرى الله لا يستجيب لنا دعاءنا ضد إسرائيل، والكاتب من جهته يتهكم على عدم استجابته سبحانه هذا الدعاء بالذات. فهل ترانا صنعنا شيئا فى سبيل تحقيق هذا الدعاء سوى الأغانى والرقص والتهديدات الجوفاء التى انعكست ضدنا كعكوسات السحر عند العوام المتخلفين من أمثال عباس بن نسناس؟
وهذا يجرنا إلى الكلام عن مشكلة وجود الألم والمعاناة فى العالم. ولم يقل القرآن قَطُّ إن كل شىء فى الدنيا تمام التمام، بل وضّح بمنتهى الصراحة أن الإنسان مخلوق فى كَبَد: "لقد خلقنا الإنسان فى كبد" (القيامة/ 4)، وأن الحياة فى جانب منها ابتلاء: "ولنبلُوَنّكم بشىءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأَنْفُس والثمرات" (البقرة/ 155)، "ولَنَبْلُوَنّكم حتى نَعْلَم المجاهدين منكم والصابرين ونَبْلُوَ أخباركم" (محمد/ 31)، "لَتُبْلَوُنّ فى أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُُنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذًى كثيرا" (آل عمران/ 136). كما بين لنا فى قصة الخلق أننا إذا خرجنا من الجنة بسبب مطاوعتنا لإبليس وتصديقنا لوعوده شَقِينا: "فلا يُخْرِجَنَّكما (يا آدم أنت وحواء) من الجنَّة فتَشْقَى" (طه/ 117). وحين وقعت الواقعة قيل لهما: "اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (البقرة/ 36). كذلك أوضح القرآن أن من الفتن ما لا يقتصر أثره وأذاه على مرتكبيه فقط، بل يتعداهم إلى غيرهم. ومن ذلك إلقاء القمامة فى الشارع وتلويث مياه الأنهار وعدم إتقان ما ُيْعَهد إلينا من أعمال والغش والرشوة والخيانة الوطنية والتدخين فى حضور الآخرين... وهذه مجرد أمثلة كيفما اتفق. يقول سبحانه: "واتقوا فتنةً لاتُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُوا منكم خاصَّةً". وفوق هذا فمن أسماء الله فى القرآن: الجبار والمنتقم. ومن مظاهر جبروته الزلازل والبراكين والأوبئة والسيول والفيضانات، وإن لم يمنع هذا أن يكون لهذه الكوارث أسبابها البشرية أحيانا.
لكن هذا كله شىء، والقول بأن الحياة جميعها شرور وآلام شىء آخر، مهما تصورنا فى غمرة ضيقنا أو بسبب تشاؤم مزاجنا أنها فعلا كذلك، إذ ما أكثر ألوان السعادة والرضا فى الحياة، لكن البشر يَعْمَوْن عادة عن الموجود فى أيديهم ولا يعتبرون إلا ما ينقصهم فهم يتطلعون إليه وينسَوْن ما يرفلون فيه من نعمة. والعجيب أنهم ما إن يحرزون هذا الذى كان ينقصهم حتى يعدموا الشعور به بعد قليل وكأنه لم يكن مطمح آمالهم من قبل. قد يقال: أوليس هذا ذاته مظهرا من مظاهر النقص فى الدنيا؟ لكنى أتصور أن الإنسان، بشىء من التدريب والتركيز، يمكنه أن يكتسب فضيلة الشكر على ما يملكه فى يده فلا يكون دائما فى حالة تطلع وسخط وانعدام شعور بما فى يديه وكأنه غير موجود. على كل حال ففى الحياة آلام وأوجاع ومشاكل كثيرة، ومهما حَلَلْنا شيئا من تلك المشاكل جَدَّتْ مشاكل أخرى... وهكذا دواليك. ولست أدرى أهذا جزء من طبيعة وجودنا بوصفنا كائنات محدودة نسبية أم ماذا؟ إلا أن هذا هو الواقع، وهذا هو أيضا ما قاله القرآن الكريم، الذى لم يزوق الأوضاع فى أعيننا على حساب الحقيقة، بل أخبرنا بكل شىء كما هو فى الواقع.
وينكر عبس أن يكون الله رازقا، بَلْهَ رزّاقا (ص282). ولكن من يا ترى الذى يُفِيض ألوان الرزق اللانهائية على العباد والمخلوقات؟ أليس هو الله سبحانه؟ إن الكاتب يأتى إلى بضعة أمثلة على ضيق الرزق ويجعلها حالة عامة، وهذا تضليل، ففى الحياة التوسعة والتضييق، وربما كانت التوسعة هى الأصل. ومهما يكن من أمر فكما أن التوسعة لون من ألوان الرزق، فكذلك التضييق لون آخر من تلك الألوان. ذلك أنه ما من مخلوق إلا والله رازقه، وإن كان هناك اختلاف فى مقدار الرزق ونوعه بطبيعة الحال، وهو ما لا يعارض شيئا فى القرآن إلا على سبيل التعسف من الكاتب وتقويل النص ما لم يقل. وقد سبق أن ناقشنا هذه المسألة بشىء من الاستفاضة لدن حديثنا عن عم عثمان زمّار القرية عندنا.
ومن سخفه كذلك قوله إن الله لا يملك طعاما ولا شرابا يقدمه لنا، وإنه أفلس منى ومنك (ص282). فمن خلق كل ما فى الكون إذن؟ هذا رجل أحمق بامتياز. وهذا الأحمق يعود فيقول إن الله لا يرزق إلا من هم فى غنى عنه وعن رزقه، وهم الأغنياء (ص284). فمن يا ترى رزقهم وجعلهم أغنياء يظنون أو يظن الحمقى من أمثال الكاتب أنهم غنيّون عن رزق الله؟ اليس هو الله؟ أم تراه يظن أن الكون وما فيه من رزق عميم لا يُحْصَى ولا يُعَدّ هو نبت شيطانى؟
وفى ص294 يعود فيزعم أن الله لا علاقة له بالكون خلقا أو تغييرا، قائلا إن الله لا ينصر إلا المنتصر فقط، بمعنى أنه لا دور له فى الأمر، بل الدور كل الدور للإنسان وحده. وهذا عمًى عقلى، إذ الله هو خالق الإنسان والنصر والهزيمة، والنواميس التى تحكم كلا منهما، والسبيل التى تقود إلى كل منهما، فضلا عن التوجيهات التى تضمن النصر لمن يريد حقيقةً أن ينتصر. وهل هناك بعد هذا كله من شىء لم يخلقه الله ويوفره لعباده؟ أما القول بأنه لا فرق بين الله والأصنام، إذ كل منهما لا يستجيب لدعاء ولا يخلق شيئا فغباء وعناد سخيف، إذ الأصنام مخلوقة، أما الله فخالق. كما أنه عز وعلا قد بين للمؤمنين طريق النصر والهزيمة وتركهم على المحجة البيضاء. أما تساخف العباس المحتاس فى فهم قوله تعالى عن المسلمين وما حدث لهم فى غزوة حُنَيْن من هزيمة فى بداية اليوم قبل أن يعودوا فيتمالكوا أنفسهم ويقبلوا على المعركة بجأشٍ رابطٍ إلى أن انتصروا من بعد هزيمة: "ويوم حُنَيْنٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغْنِ عنكم شيئا" على اعتبار أنهم ما داموا أكثر عددا لقد كان ينبغى، فى رأيه، أن ينتصروا لأنهم كانوا مؤمنين بالله، فهو تساخف ثقيل الظل، لأن المقصود فى الآية أن المسلمين، بسبب من غرورهم، لم يهتموا بأخذ الحذر ظانين أنهم منصورون لا محالة لكثرة عددهم. وفاتهم أن للنصر عوامل أخرى إلى جانب الكثرة، التى قد تكون عائقا كما حدث فى تلك الغزوة وفى أُحُدٍ من قبل. أما الاعتقاد وحده دون عمل، بل دون عمل صالح، فلا يقدم ولا يؤخر كما يوضح القرآن والحديث.
ثم يمضى الجاهل فيزعم أن للنصر أسبابه التى متى تحققت تحقق النصر شاء الله أو أبى (ص298)، وكأن تلك الأسباب ليست من خلق الله وتهيئته، وكأنه سبحانه لم يحضّ على إحرازها كى يتحقق النصر. نعم إن تساخفه فى مهاجمة القول بأن النصر من عند الله هو تساخف رخيص، فكل شىء فى الحقيقة هو من الله. أليس الله هو خالق الإنسان وخالق عوامل النصر ومبين طريقه والحاضّ على التزام هذه الطريق؟ ومع هذا فكثيرا ما أشاد القرآن والحديث بفضل البشر وأثنى عليهم على عكس ما يقول ويزعم عِبْس. وإلى القارئ بعض الآيات والأحايث التى تقرر ذلك: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة- إن تنصروا الله ينصركم- قاتلوهم يعذبْهم الله بأيديكم- إن تُقْرِضوا الله قرضا حسنا يضاعفْه لكم ويغفرْ لكم- لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزِّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه بكرة وأصيلا- إلا تنصروه فقد نصره الله- يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْنى (المتكلم هنا هو الله)- لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم... إلخ.
كذلك نجده يأخذ على القرآن تقريره أن الله خالق كل شىء وسبب كل شىء (ص300). والواقع أن هذا دليل على خُرْقه وحُمْقه، إذ لو لم يكن الله كذلك ما كان إلها، بل مخلوقا مثلنا. فمن الواضح أن عِبْس لا يفهم طبيعة الألوهية. ومثل ذلك انتقاده القرآن لأن الله فيه هو المحيى المميت لا الأوبئة والجراثيم (ص302). فمن ذا الذى خلق الأوبئة والجراثيم وبث فيها خَصِيصةَ الإمراض والإماتة؟ أليس هو الله؟ أما هى فلا تعقل ولا تقصد شيئا مما يصيبنا من مرض وموت، بل تمارس حياتها غافلة عن كل ما حولها. فالله هو السبب الأول، هو سبب كل الأسباب، وإن كان هذا لا يعنى أن البشر ليس لهم دور ولا فاعلية. وفى القرآن والأحاديث نصوص تسند الضرر والنفع إلى المخلوقات أيضا: فإذا كان يقول مثلا إن القرآن يقرر أن الله هو الذى يحملنا لا السفن ولا الدواب، فإن الله سبحانه ذاته يقول عن الدواب وغيرها من وسائل الحمل والنقل وعن البشر ونفعهم وضرهم: "وتَحْمِل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشِقّ الأنفس"، "والجاريات يُسْرًا* فالحاملات وِقْرًا"، "آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا"، "لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا"، "واللهُ الذى يرسل الرياح فتثير سحابا"، و"أرسلنا الرياح لواقح"، "يُبْرِئ (أى عيسى) الأكمهَ والأبرصَ ويُحْيِى الموتى بإذن الله"، "تقتلون أنبياء الله من قبل"، "مَنْ قَتَل نَفْسًا بغير نَفْسٍ أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناسَ جميعا، ومَنْ أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعا"...
وما دام هذا الأخرق قد اتخذ من أبى بكر الرازى رائدا له فى الإلحاد رغم أن الرجل لم يترك فى الإلحاد كتابا ولا رسالة، اللهم إلا ما يقوله عنه بعض الكتاب ممن لا ندرى مدى صدقهم فيما يتهمونه به، فإنى أورد هنا مقالة لذلك العالم الكبير يقول فيها ضمن نصائح أخرى للطبيب أَوْجَبَ عليه مراعاتها فى عمله: "ويتَّكِل الطبيب فى علاجه على الله تعالى ويتوقع البُرْء منه، ولا يحسب قوته وعمله، ويعتمد فى كل أموره عليه. فإذا فعل بضد ذلك ونظر إلى نفسه وقوته فى الصناعة وحِذْقه حرمه الله البرء" (أبو بكر الرازى/ أخلاق الطبيب/ تحقيق د. عبداللطيف محمد العبد/ دار التراث/ 1397هـ- 1977م/ 38- 39). ترى ماذا يقول فى ذلك أحمقنا الذى أجزل له الله نصيبه من الرعونة والجهل والتغشمر فى الفكر والقول، والتسرع إلى ترديد كلام الكفرة العوام فى انبهار وتلذذ وكأنه وقع على كنز ثمين؟ وبالمناسبة فإن الرازى يعدد، ضمن مفاخر الأطباء، كون اسمهم مشتقًّا من أسماء الله تعالى (ص87- 88).
وفى كتابه المسمى: "السيرة الفلسفية" نقرأ أن الله تعالى هو "المالك لنا الذى نرجو منه الثواب، ونخاف العقاب. ناظر لنا، رحيم بنا، لا يريد إيلامنا، ويكره لنا الجور والجهل، ويحب منا العلم والعدل"، و"أنّ لنا حالة بعد الموت حميدة أو ذميمة بحسب سيرتنا كانت مدة كون أنفسنا مع أجسادنا، وأن الأمر الأفضل الذي له خلقنا وإليه أُجْرِيَ بنا ليس هي إصابة اللذات الجسدانيةبل اقتناء العلم واستعمال العدل اللذين بهما يكون خلاصنا عن عالمنا هذا الى العالمالذي لا موت فيه ولا ألم، وأن الطبيعة والهوى يدعواننا الى إيثار اللذة الحاضرة، وأماالعقل فكثيرا مايدعونا الى ترك اللذات الحاضرة لامور يؤثرها عليها، وأن المالك لناالذي منه نرجو الثواب ونخاف العقاب ناظر لنا رحيم بنا لا يريد إيلامنا ويكره لناالجور والجهل ويحب منا العلم والعدل، فإن هذا المالك يعاقب المؤلِم منا ومن استحقالإيلام بقدر استحقاقه، وأنه لا ينبغي أن نحتمل ألما في جنب لذة يفضل عليها ذلكالألم في كميته وكيفيته، وأن البارئ جلّ وعزّ قد وكل الأشياء الجزئية من حوائجناإلينا كالحراثة والنسج وما أشبه ذلك مما به قوام العالم وقوام المعيشة. فلتكن لنامسلَّمة لنبني عليها، فنقول: إنه إذا كانت لذات الدنيا وآلامها منقطعة بانقطاعالعمر، وكانت لذات العالم الذي لا موت فيه دائمة غير منقطعة ولامتناهية فالمغبون مَن اشترى لذة بائدة منقطعة متناهية بدائمة باقية غير منقطعة ولامتناهية. فإذا كانالأمر كذلك تبعه ووجب منه أنه لا ينبغي لنا أن نطلب لذة لابد في الوصول إليها منارتكاب أمر يمنعنا من التخلص الى عالم النفس أو يوجب علينا في عالمنا هذا ألما مقدارُه في كميته وكيفيته أعظم وأشدُّ من اللذة التي آثرناها. فأما سائر ذلك مناللذات فمباحة لنا"، وأن "ربنا ومالكنا مشفقعليناناظرلنارحيمبنا"، و"أنهيكرهأنيقعبناألم،وأنجميعما يقعبنامنهمماليسمناكتسابناواختياراتنابلممافيالطبيعةفلأمر ضروريلميكنبدمنوقوعه".
وفى كتابه: "الطب الروحانى" نجده، بعدما برهن على أنه لا ينبغى الخوف من الموت من قِبَل الذين لا يؤمنون بآخرة، يقول: "إنيقدبينتأنهليسللخوفمنالموتعلىرأىمنلميجعلللإنسانحالةوعاقبةيصيرإليها بعدموتهوجه. وأقولإنهيجبأيضافيالرأيالآخر، وهوالرأيالذييجعللمنماتحالةوعاقبة يصيرإليهابعدالموت، ألايخافمنالموتالإنسانالخيرالفاضلالمكمللأداءمافرضتعليه الشريعةالحقة، لأنهاقدوعدتهالفوزوالراحةوالوصولإلىالنعيمالدائم.فإنْشَكَّشاكٌّفيهذهالشريعة ولميعرفهاولميتيقنصحتهافليسلهإلاالبحثوالنظرجهدهوطاقته.فإنأفرغوسعهوجهدهغير مقصِّرٍولاوانٍفإنهلايكاديعدمالصواب. فإنعدمه، ولايكاديكونذلك، فاللهتعالىأولىبالصفح عنهوالغفرانلهإذكانغيرمطالببماليسفيالوسعبلتكليفهوتحميلهعزوجللعبادهدونذلك كثيرا. وإذقدأتيناعلىقصدكتابناهذاوبلغناآخرغرضنافيهفإناخاتمونكلامنابالشكرلربناعزوجل. فالحمدللهواهبكلنعمةوكاشفكلغمةحمدابلا نهايةكماهوأهلهومستحقه".
وواضح أن فيلسوفنا إنما ينطق من المبدإ القرآنى القائل بأن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها كما جاء فى الآية 286 من سورة "البقرة"، وأنه لا يَصْلَى جهنمَ إلا من شاقَّ الرسول من بعدما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين حسبما تنصّ الآية 115 من سورة "النساء". والآن هل هذا كلامٌ يقوله ملحد؟ ألا خيبة الله على التافهين! وأخيرا أرجو من القارئ أن يتنبه إلى أننى قد أوردت هذه النصوص للرازى بعد فراغى من الدراسة ونشرى لها فى عدد من المواقع، ومن ثم قد يرى أن هناك بعض الاختلاف بين ما قلته عن ذلك الفيلسوف قبلا وما قلته فى الموضع الحالى للسبب المذكور.
وعند قوله سبحانه: "وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر" نرى عباس الهجاص يسأل: هل يُعْقَل أن الله خلق لنا النجوم، ونحن إنما خُلِقْنا فى الخمس الدقائق الأخيرة من عمر الكون؟ (ص309). والجواب هو أن النجوم، أيا كان الزمن الذى خُلِقَتْ فيه، قد جُعِلَتْ، ضمن ما جُعِلَتْ، لهداية البشر فى ظلمات البر والبحر، وإلا فمن الذين يهتدون بها فى ظلمات البر والبحر إن لم يكن البشر؟ وهذا لا ينفى أن تكون هنا علل أخرى لخلق النجوم، فهو سبحانه لم يقصر خلقها على هداية البشر وحدهم. والمضحك أنه يعود فيَسْخُف سخفا رقيعا حين يسخر من خلق النجوم لأنها لا تطعمنا ولا تسقينا، وكأنه سبحانه قال إنه خلقها لتطعمنا وتسقينا، أو كأنه سبحانه لم يخلق لنا الطعام والشراب. ويزيد سخفا ورقاعة حين يقول إن جميع الكواكب والنجوم يضىء بعضها لبعض شاء الله أم أبى. وهو كاذب وقليل العقل والأدب فى هذا لأنه لو شاء الله ما أضاءت النجوم رغم وجود النار فيها لأنها ليست هى التى خلقت فى نفسها خاصّة الإضاءة بل الله، الذى لو شاء أن يسلبها تلك الخاصة لسلبها إياها ولما استطاعت أن تخالف هى أو غيرها عن أمره سبحانه. ولقد قال الرازى نفسه ذلك ردا على من يرجعون كل شىء إلى الطبيعة، إذ نقرأ له فى "مقالة فيما بعد الطبيعة" قوله: "وأمااستدلالهمبالقُوَىالتيادَّعَوْهافيقاللهم: ماأنكرتمأنيكوناللهجلّوعزّهوالموجِببذاتهلقُوَى سائرالأفعالولطبائعالأشياء؟".



Ibrahim_awad9@yahoo.com


http://awad.phpnet.us/