"السنة السياسية في بناء السلطة وأدائها" : محمد بن المختار الشنقيطي
((رسالة في الفقه السياسي))هذه سياحة خفيفة في كتاب أو كُتيب للدكتور محمد بن المختار الشنقيطي،وهو كتاب "السنة السياسية في بناء السلطة وأدائها"،وهو من منشورات مركز الناقد الثقافي بدمشق.
يبدأ المؤلف كتابه بهذه المقدمة :
(إذا هم ألقى بين عينيه عزمه *** ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه *** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
هكذا افتخر الشاعر بشر بن ناشب بعدم النظر في العواقب،ونبذ المشاورة،والاحتكام إلى منطق القوة.
لكن للإسلام في الشأن العام رؤية مختلفة،أساسها الشورى والعدل والحرية،وترجيح مصلحة الجماعة المؤمنة على ذات الفرد المتضخمة.
وغاية هذه الرسالة الأولى من (رسائل في الفقه السياسي) أن تسهم في تجلية المبادئ الإسلامية المؤسسة لبناء السلطة وأدائها،من استقراء لبعض ما ورد في السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين من سوابق في هذا المضمار. ){ص 5}.
ثم يضع المؤلف عنوانا يقول : ( الأمير أجير : "إن خير من استأجرت القوي الأمين") ويكتب تحت هذا العنوان :
(دخل أبو مسلم {الخولاني} على معاوية {بن أبي سفيان} فقام بين السماطين فقال : السلام عليك أيها الأجير،فقالوا : مه،فقال {معاوية} : دعوه فهو أعرف بما يقول،وعليك السلام يا أبا مسلم. ثم وعظه وحثه على العدل)ولم يكن ذلك التابعي اليماني الزاهد – وهو يستعمل لفظ الأجير – متلاعبا بالألفاظ أو متطاولا على قائده،وإنما كان منطلقا من التصور الإسلامي الحق لمنزلة الحاكم وعلاقته بالأمة : إنها علاقة الأجير برب العمل. فالأمة هي رب العمل،والحاكم أجير لها،أنابته لأداء وظيفة الحاكم،لقاء أجر مادي معلوم،ومكانة معنوية مشروطة،والتزمت معه بعقد اختياري طرفاه : الأمانة والنصح من الحاكم،والطاعة والنصرة من المحكوم.
ولما كان الحاكم أجيرا للأمة،كان من المطلوب أن يتصف بصفتي الأمانة والقوة اللتين امتدحهما القرآن الكريم في الأجير على لسان ابنة شعيب : "إن خير من استأجرت القوي الأمين" أما الأمانة فهي تشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم،وتكون وازعا له من نفسه يمنعه من أن يستأثر بالسلطة والثروة،أو يؤثر بهما ذويه،أو يسيء استعمالها أي نوع من الإساءة كان. وأما القوة فهي تشمل الخبرات السياسية والعسكرية والفنية التي تمكنه من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأكمل والأصلح للأمة.
وقد اشتهر أفذاذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماع الأمانة والقوة فيهم،منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "قوي أمين لا يخاف في الله لومة لائم"(..) ومنهم عتاب بن أسيد رضي الله عنه (..) وعن عمر بن أبي عقرب سمعت عتاب بن أسيد وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول "والله ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان.(..) لكن الأمانة والقوة قلما تجتمعان في الشخص الواحد،وإذا اجتمعتا فقل أن يكون ذلك بتوازن،وهنا لب الإشكال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالي : "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل،ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : "أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة"... ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم مع أنه أحيانا يعمل ما يكره النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه مرة رفع يديه إلى السماء،وقال : "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد" ... وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق،ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم : "يا أباذر إني أراك ضعيفا .. لا تأمرن على اثنين،,لا تولين مال يتيم".){ص 7 - 9}.
ثم يبحث المؤلف لهذا المشكل عن حل ... (إن عدم اجتماع الأمانة والقوة في أغلب الناس يثير إشكالا عمليا يمكن التخفيف منه من خلال مبادئ المواءمة والتكامل. أما المواءمة فهي في إدراك لملابسات المنصب،وصلة ذلك بأشخاص معينين،بغض النظر عن خبراتهم الشخصية. وهو درس يمكن استنباطه من تأمير النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش لقتال الروم،رغم أن أسامة رضي الله عنه لم يكن في مستوى كبار المهاجرين والأنصار الموجودين في جيشه من حيث التمرس بالحرب والخبرة بالسياسية. (..) أما التكامل فهو أن يكون الحاكم صادقا مع الله ومع الأمة،مدركا لجوانب القوة والضعف في نفسه،فيبحث في رعيته عمن يستكمل به نقصه،ويتدارك به قصوره،حتى ولو كان الحاكم من أهل الأمانة والقوة،لأن التوازن المطلق كمال مطلق،وهو غير متاح للبشر. ويشرح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك في تحليله لتولية الصديق خالدا وتولية الفاروق أبا عبيدة،فيقول : "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا،وكان أبو بكر لينا وخالد شديدا على الكفار،فولى اللين الشديد وولى الشديد اللين ليعتدل الأمر،وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله تعالى في حقه".
وإذا آنس الحاكم من نفسه قوة،وكان قادرا على مراقبة ولاته ومحاسبتهم محاسبة بصرامة،أمكنه تولية كل من لديه خبرة مهما يكن مستوى الأمانة عنده ضعيفا،تأسيا بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن تيمية : "كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور،لرجاحة المصلحة في عمله،ثم يزيل فجوره بقوته وعدله.". ){ ص 11 - 13}.
ثم يكتب المؤلف تحت عنوان : ( الشورى والمشاورة تعصمان من الزلل) .. يسأل المؤلف :
(ما هو الحل العملي لذلك الإشكال المتمثل في عدم اجتماع الأمانة والقوة غالبا؟لقد قدم الإسلام أروع حل عملي لذلك،وهو سلطان الأمة الذي يتجسد في مبدأين :
الشورى في بناء السلطة و المشاورة في أدائها.فبالشورى تختار الأمة أقرب الناس اتصافا بصفتي الأمانة والقوة (..) من المستحسن التمييز منهجيا بين مبدإ الشورى ومبدإ المشاورة. إذ الشورى ترتبط بالمداولات المتعلقة بوجود السلطة ابتداء وبشرعيتها،أما المشاورة فترتبط بالمداولات المتعلقة بأداء السلطة وأدائها وتسييرها. وهذا التمييز المنهجي مبني على اعتبار شرعي وآخر لغوي.
أما الاعتبار الشرعي فهو أن المشاورة وردت في القرآن الكريم في سياق الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم :"وشاروهم في الأمر"وأما الشورى فقد وردت في سياق الحديث عن المؤمنين : "وأمرهم شورى بينهم"فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالشورى،وإنما أمر بالمشاورة،أما المؤمنون فهم مأمورون بالشورى نصا،ومأمورون بالمشاورة ضمنا،اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وفائدة ذلك في التمييز بين الشورى والمشاورة،هي أن الأنبياء لا يستمدون قيادتهم من الأمة،فهم ليسوا بحاجة إلى الشورى ذات الصلة ببناء السلطة وشرعيتها،لأن شرعية الأنبياء السياسية مسألة اعتقادية،فطاعتهم طاعة لله متعينة :"من يطع الرسول فقد أطاع الله"وبيعتهم بيعة لله لازمة : "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله"فحق الأنبياء في القيادة أمر مفروغ منه اعتقادا،وهو تولية من الله تعالى لا من الناس،ولذلك قال تعالى لداود :"يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض".(..) أما الاعتبار اللغوي الذي نستند إليه في التمييز بين الشورى والمشاورة،فهو الصيغة الصرفية والإيقاع الصوتي : أما صرفيا فالأصل في الفعل على وزن "فاعَلَ"أن يكون مصدره القياسي على وزن"فِعال"مثل"قاتل قتالا"أو على وزن"مُفاعلة"مثل "شاور مشاورة"وبذلك تحمل آية آل عمران "وشاروهم في الأمر"على المشاورة لا على الشورى. وأما الإيقاع الصوتي فرغم الاشتراك في الجذر اللغوي فإن لفظ الشورى يوحي بمعنى الانفتاح والتداول غير المحدود بين أطراف غير محدودة العدد أو الصفة،فناسب عملية بناء السلطة التي يشترك فيها الكل مع الكل. أما لفظ المشاورة فهو يوحي بالثنائية والتداول الحصري،فناسب مشاورة الحاكم لعدد محدود من الناس،أو لعموم الناس حول أمر محدد،لكن في عملية ذات طرفين فقط.
وليس استعمالنا للإيقاع الصوتي هنا مجرد انطباع،فالإيقاع الصوتي لألفاظ القرآن الكريم له شأن أحيانا في مدلولاتها،كما بينه كل من الجرجاني والزمخشري من الأقدمين. ) {ص 14 - 17}.
بعد ذلك يكتب المؤلف تحت عنوان (الشورى في بناء السلطة واجبة وملزمة) ... ويبدأ بالقول :
(كثيرا ما دار الجدل حول إلزامية الشورى وإعلاميتها،بمعنى هل يجب على الحاكم الالتزام بمقتضى رأي أغلب الناس في المسألة المتناولة أم لا. لكن هذا الجدل غالبا ما انطلق من خلط بين الشورى ذات الصلة ببناء السلطة،والمشاورة ذات الصلة بأدائها،فأدى إلى تشويش وبلبلة.
وبالانطلاق من هذا التمييز المنهجي تتضح الصورة أكثر :
فالشورى ذات الصلة ببناء السلطة لابد أن تكون ملزمة،وإلا فقدت مدلولها الشرعي وثمرتها المصلحية. وكل نصوص السنة في الموضوع تدل على وجوبها ابتداء وإلزامها انتهاء (..) وأول ما يسترعي الانتباه هنا هو حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يترك لامته حق اختيار قادتها،فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :"لو كنت مستخلفا أحدا دون مشورة لاستخلفت عليهم ابن أم عبد"{ في الهامش : "رواه الحاكم في المستدرك 359/3 وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"}. وفي رواية أخرى : "لو كنت مستخلفا أحدا على أمتي دون مشورة لاستخلفت عليهم عبد الله بن مسعود"{ في الهامش : "النسائي 73/5}.......(..){ص 18 - 19}.
وبعد أن ساق عدة أحاديث .. قال : ( وتدل هذه الأحاديث والآثار دلالة لا لبس فيها على وجوب الشورى المتعلقة ببناء السلطة،وعلى إلزامية نتيجتها،كما تدل على أن السلطة الشرعية قائمة على عقد اجتماعي مقدس هو البيعة الاختيارية من غالب الناس،وأن من خرق قدسية هذا العقد الاجتماعي المقدس فقد أهدر دمه. أما السلطة غير الشرعية فليست بقائمة على تعاقد،وليس لها من حرمة أو إلزام شرعي في رقاب الناس،بل هي من غليظ المنكر الذي يجب تغييره.
ولا يشترط الإجماع في اختيار الحاكم لتعذره عادة،كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من"منهاج السنة"،إنما يكفي حصول الأغلبية. بل هذا عمل الصحابة رضي الله عنهم. فقد اعترض على بيعة أبي بكر الصديق سعد بن عبادة مدة حياته،واعترض عليها علي بن أبي طالب مدة ستة أشهر ،ثم بايع بعد ذلك "ولم يكن بايع تلك الأشهر"{ في الهامش : "البخاري 1549 / 3 وابن حبان 153 / 11} لكن ذلك لم يؤثر في شرعية قيادة الصديق ووجوب طاعته.){ص 22}.
ثم يكتب المؤلف تحت عنوان ( المشاورة في أداء السلطة دائرة بين الإلزام والاستعلام).. ويقول في هذا الفصل .. (وأما المشاورة ذات الصلة بأداء السلطة وتسييرها،فهي واجبة ابتداء،لكن نتيجتها قد تكون ملزمة للقائد المستشير،أو مجرد استعلام منه وتمحيص للرأي،قبل اتخاذه قرراه بنفسه. وتدل السنة السياسية على أن النبي صلى الله عليه وسلم التزم دائما بنتيجة المشاورة في الأمور العامة إلا في حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون لديه وحي من الله تعالى في الأمر،فليس له خيار سوى الإذعان(..) ومن أوضح الأمثلة على ذلك صلح الحديبية الذي أصر عليه النبي صلى الله عليه وسلم،رغم رفض السواد الأعظم من أصحابه للصلح ابتداء. (..) الحالة الثانية : إذا كانت عملية المشاورة قد اكتملت،واستقر رأي الجماعة على خيار بعينه،وصدر القرار بتبني ذلك الخيار،بحيث يصبح التراجع والتردد أمرا لا يحتمل،نظرا لما يترتب عليه من ظهور الضعف والتخاذل داخل الصف المسلم. ولعل قضية الخروج إلى قريش لقتالها عند جبل أحد،تصلح مثالا هنا. فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم رأي السواد الأعظم من الصحابة بالخروج إلى أحد ولم يكن ذلك رأيه،بل كان يرى المقام واتخاذ موقف دفاعي في المدينة. (..) وقد أحسن الإمام البخاري إذ بوب لفقه هذه المسألة بإطناب فقال : "باب قول الله تعالى : وأمرهم شورى بينهم،وشاورهم في الأمر،وأن المشاورة قبل العزم والتبين،لقوله : فإذا عزمت فتوكل على الله. فإذا عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله. (..) ومهما يكن،فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على التمييز بن الوحي الإلهي الذي لا سبيل إلى التعاطي معه غير الإذعان تعبدا لله وخضوعا،وبين اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم المنبثق من خبرته البشرية وتجربته في الحياة،وهو أمر يخضع للنقاش والتداول،ومن حقهم مناقشته فيه،وإبداء آرائهم التي قد تكون أقرب إلى الصواب السياسي أو العسكري. ومن أجل هذا التمييز سأله قادة الأنصار حين عرض عليهم الصفقة مع غطفان : "يا رسول الله أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله؟ أو رأيك أو هواك فرأينا تبع لهواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا بشرى أو قرى.".(..) ولم يكن النبي صلى الله يجد غضاضة في تغيير رأيه حين تبين الصواب السياسي أو العسكري عند غيره،كما فعل في قضية المنزل يوم بدر.(..) ولبعض الفقهاء المعاصرين رأي مستحدث في لزوم الأخذ برأي الأغلبية في المشاورة،فهو يرى أن الأغلبية الملزمة للحاكم هي الثلثان فقط،لا أقل من ذلك. ودليله حديث ابن غنم الأشعري : "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما"{في الهامش : "أحمد 227/4 وقال الهيثمي : "رجاله ثقات إلا أن ابن غنم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم،الهيثمي 53/9 كما ضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"الحديث رقم 1008}. وهو حديث ضعيف على أية حال. فأبوبكر وعمر – في تحليل هؤلاء – يمثلان أغلبية الثلثين،إذا كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا الرأي – على طرافته – لا يمنع قبول رأي الأغلبية التي تقل عن الثلثين. وربما لو دقق أهل هذا الرأي الحساب لوجدوا أن الأغلبية من أصل ثلاثة لا يمكن تصورها في أقل من اثنين،فاثنان من أصل ثلاثة أغلبيةُ الثلثين،وأغلبية مطلقة،وأغلبية بسيطة،في ذات الوقت.(..) والذي نفهمه من مجمل النصوص التي اطلعنا عليها في هذا الشأن أن الشورى في بناء السلطة واجبة ابتداء،ملزمة انتهاء،كما بينا من قبل،وأن المشاورة فيها تفصيل :
*فهي واجبة ونتيجتها ملزمة في الأمور العظيمة التي لا تدخل في اختصاصات الحاكم،نظرا لخطورتها وتأثيرها على مجمل الأمة،كإعلان الحرب،وإبرام الصلح .. إلخ ولذلك نزل النبي صلى الله عليه وسلم عند رأي الأغلبية الراغبة في قتال قريش عند سفح أحد.
وقد جاء الفقه الدستوري المعاصر منسجما مع الفعل النبوي هنا،فمنع السلطة التنفيذية من اتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية دون موافقة البرلمان أو استفتاء الشعب بعامة،وهذا أمر منصوص عليه في دساتير كل الدول الديمقراطية اليوم ..
*وفي الأمور التي تدخل في صلاحيات الحاكم التنفيذية،والتي لا يستطيع أداء مهمته دونها،كتعيين الرجال الدولة التابعين له وعزلهم،فالمشاورة واجبة لكن نتيجتها غير ملزمة له. فبيعة الأمة له تقضي له بحق التصرف في هذه الأمور،والأمة تراقب وتصحح. وليس ذلك بمانع أن يتم تقييده في بعض هذه الأمور لحيويتها،فيكون له اختيار وزرائه وولاته وقادة جيشه مثلا،ثم يقرر البرلمان هذا الاختيار قبل نفاذه،كما جرى العرف في بعض الدول اليوم،حتى يكون القرار مركبا،يعبر عن صلاحيات الحاكم ورقابة الأمة في ذات الوقت.
*أما في الأمور الشخصية التي يتحمل الفرد مسؤوليتها ونتيجتها حصرا،فالمشاورة فيها غير واجبة،ونتيجتها غير ملزمة،ولكنها مستحبة للمسلم تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم،الذي استشار في أمور عائلية خاصة بعض أقاربه وأحبائه،كعلي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما. والمشاورة بهذا المعنى تخرج عن نطاق بناء السلطة وأدائها،فهي ليست فعلا سياسيا،بل حكمة أخلاقية،تفيد الفرد في حياته الشخصية. ) { ص 23 - 30} .
ثم قام المؤلف بخطوة نحو تنزيل (مصطلحات) عصرنا على فعل حبيبنا صل الله عليه وسلم .. فقال :
(وقد اختص النبي صلى الله عليه وسلم قادة الأنصار – مثل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة – بالاستشارة في بعض الأمور التي تخص الأنصار،كمصالحة غطفان على نصف (أو ثلث) تمر المدينة. ويمكن أن نفهم هذا الاختصاص بالمشورة لأبي بكر وعمر وللسعدين من وجهة نظر دستورية على وجهين :
* أولهما : أن نعتبر أبا بكر وعمر نائبين عن المهاجرين،والسعدين نائبين عن الأنصار. وفكرة التمثيل والنيابة في المشورة لها أصل في السنة،ومن أمثلتها بيعة العقبة،وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عرفاء الناس عن رأيهم في التنازل لهوازن عن سبيهم بعد غزوة حنين. وقد بوب البخاري لهذه القصة : "باب العرفاء للناس"(..) و"العرفاء مقام الوكلاء"وهو ما نسميه باصطلاحنا المعاصر بنواب الشعب من أعضاء البرلمانات ومجالس الشورى.
* وثانيتهما : أن نعتبر أبا بكر وعمر والسعدين من أهل العلم والخبرة،فاختصاصه صلى الله عليه وسلم لهم بالمشورة مبني على خبرتهم وعلمهم،لا أنهم ممثلون لعامة الناس من ورائهم. (..) والذي يظهر من الجمع بين النصوص أن لا تناقض : فاختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بعض أهل العلم والثقة والخبرة موجود في السنة،لكنه لا يناقض حق عموم المسلمين في المشاورة. وإنما هو جمع بين المشاورة العامة والخاصة. ويصار إلى المشاورة الخاصة – نيابة عن العامة – إذا فرضت ذلك ظروف عملية تمنع من استبيان رأي الجميع،كما حدث في شأن سبي حنين.) {ص 41 - 42}.
ثم ينتقل المؤلف ليكتب تحت عنوان : ( مشاركة النساء : "إني من الناس") .. و يقول تحت هذا العنوان :
(ومن عموم الشورى والمشاورة أنهما تشملان الرجال والنساء معا. وقد اختلف المفسرون في جمع المذكر – مثل صيغة "وشاروهم في الأمر" آل عمران 159 و"أمرهم شورى بينهم"الشورى 38 – إن ورد في القرآن الكريم هل يشمل الرجال والنساء أم لا .. لكن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قدم قرينة على خروج آية الشورى من هذا الخلاف،طبقا لمنهجه في "إيضاح القرآن بالقرآن"حيث بين أن الأمر بالاستغفار الوارد في آية المشاورة : "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر "يشمل الرجال والنساء بصريح قوله تعالى : "فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" (محمد 19) وشمول أحد الأوامر الواردة في آية المشاورة – وهو الاستغفار – للنساء يقضي بشمول الأوامر الأخرى لهن – بما فيها المشاورة – بدلالة الاقتران والتعاطف. (..) وبالنظر في السنة السياسية،نجد ما يدعم عموم المشاورة للنساء والرجال على حد سواء. فإن كان العلماء اختلفوا في شمول جمع المذكر للنساء،فإنهم لم يختلفوا في دخولهن تحت مدلول لفظ"الناس"وهو أكثر ما استعمل في أحاديث المشاورة : "أشيروا عليّ أيها الناس" "فاستشار الناس" .. إلخ. وفي تصحيح أم المؤمنين أم سلمة لجاريتها دليل طريف على ذلك،فعن أم سلمة .. "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أيها الناس،فقلت للجارية : استأخري عني،قالت : إنما دعا الرجال ولم يدع النساء،فقلت : "إني من الناس"{في الهامش : "مسلم 1795 / 4} .. ){ص 43 - 44}.
سبق للمؤلف أن قال :
(ولعل أحسن ضابط هنا حول من تشملهم الشورى والمشاورة،هو ذلك الذي يمكن استنباطه من التعبير القرآني : "وأمرهم شورى بينهم"،فكل من كان الأمر أمره،بمعنى أنه معني بذلك الأمر،متأثر بنتائج القرار السياسي الذي سيتخذ حول ذلك الأمر،فإن من حقه الإسهام في المشورة،سواء أصالة أو نيابة.){ص 38 - 39}.
مرة أخرى يستحضر المؤلف الشعر .. (وأخيرا يحسن بنا أن نختم هذه الرسالة ببيتين للشاعر بشار بن برد،كما بدأناها ببيتين لبشر بن ناشب. فرغم ما عرف به بشار – والله يغفر له – إلا أنه عبر في هذين البيتين عن ثقافة إسلامية متحضرة،لا تحتقر الشورى كما احتقرتها جاهلية القبائل،بل تدرك ضرورتها وثمرتها :
إذا بلغ الأمر المشورة فاستعن *** برأي نصيح أو مشورة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة *** فإن الخوافي قوة للقوادم
أما"الخوافي"فالريش في مؤخرة جناح الطائر،وأما "القوادم"فالريش في مقدمة الجناح،والمعنى أن آراء الرعية عُدة وقوة للقائد،فلا يجوز أن يحتقر آراءهم أو يتجاوزها،فلن يقلع الطائر في آفاق السماوات بقوة قوادمه دون دعم وسند من خوافيه. "قال الأصمعي فقلت لبشار : إني رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك في المشورة،فقال : أما علمت أن المشاور من إحدى الحسنيين : بين صواب يفوز بثمرته أو خطإ{هكذا} يُشارَك في مكروهه. فقلت : أنت والله أشعرُ في هذا الكلام منك في الشعر"
فلتكن هذه خاتمتنا،آملين أن يقهر الحق القوة،ويهزم العقل الجهالة،ويسود العدل والحرية،وينتصر بيتا بشار على بيتيْ بِشر في نهاية المطاف.){ص 45 - 46}.
نسال الله – سبحانه وتعالى – أن يبرم للأمة أمر رشدها .. وأن تنتصر قوة الحق على حق القوة.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
Mahmood-1380@hotmail.com