موجة قديمة «مستوردة» تتجدد أخذت تطفو على سطح مشهدنا الثقافي، وكما عبثت المقادير بالقصة القصيرة، وقزّمتها إلى (ق ق ج)، على تهمة كلمة «جداً» التي أضيفت عدواناً لكي تبدو طفرة جديدة، سرعان ما تباطأت وانكفأت إلا قليلاً.
قصيدة النثر، أو (القصيد) كما أطلق عليها أدباء العصر الحديث أمثال «جبران، وتوفيق الحكيم، وحسين عفيف وغيرهم» للتمييز بينها، وبين القصيدة، وهذا التخبط في اختيار توصيف واضح لهذا اللون من الكتابة «ولا أقول الجنس» قد يكون أوضح دليل على فقدان بوصلة التسمية.
أعجبني قول «برنار» في محاولته التوصيف فيقول: (قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، مضغوطة، خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب).
لا يصح، من باب تهذيب الألفاظ، أن نطلق تسميات مرتبكة كيفما اتفق، ونقول نثراً وشعراً، ومن الطريف حقاً أن نعلن، قبل أن يتم الزواج التوافقي بينهما، عن ولادة «قصيدة النثر».!
نحن نتحدث عن لغة وعن أجناس أدبية وعن نضوج وأصالة وهوية وحداثة أيضاً، عن شيء روحي يسمو فوق توصيفات ماديّة طارئة، وليست الحداثة أن ندمّر معاجمنا، ولا أن نسفّه مسيرة الحداثة التي لم تتوقف منذ بدء الحياة، لأن مسيرة التطوّر تفرض نفسها في كل آن، ولكنها لا تجبّ ما قبلها أبداً.
الحداثة تنمو على الأصالة ولا تلغيها، أما افتعال التحديث غير المؤصل فهو افتعال عبثيّ، ولا يمكن أن يصبح ترويجاً لحداثة ليس لها غير تنظيرات عابثة.
وفي عودة إلى مسألة القصة القصيرة جداً، وهي، كما أرى، قصة قصيرة إذا استوفت شروطها في أربعة أسطر، أو في أربع صفحات، الإشكال وقع في تلك الـ «جداً» التي اقتحمت الجنس النثري الجميل فأوقعت إرباكاً غير محدود بين أدعياء الأدب، مستسهلين ركوب موجة عابرة لتفريغ عشرات بل مئات من النصوص التي لا ترقى إلى أيّ جنس نثري، وليست أكثر من طرفة أو نكتة أو كلمات جوفاء ليس لها ارتداد صدى.
انهالت القصص القصيرة جداً، وأغرقت السوق الأدبية، وجعلت من مرتكبيها أدباء.! فمن قال أو قالت في نصٍّ من هذه النصوص: (صحوت صباحا، فتحت الستارة، وفي المساء أغلقت الستارة.. انتهت) فهل هذا ما يفرض أيضاً الحال على من يروّجون لقصيدة النثر.؟
الفراهيدي جاء بعد عقود كثيرة ليضبط أوزان الشعر العربي بالتفعيلات المعروفة، وكان الشعر سبّاقاً لأنه حمل على عمود الأساس، وفي مضامينه من رثاء وفخر وهجاء وحماسة ووقوف على الأطلال، وإلى آخر هذه «التهويمات»، حمل عذوبة الموسيقا، وهذا ليس عيباً وليس سبّة، فالشعر وزن وموسيقا، ولو تخلى عن القافية والشطرين «الصدر والعجز» تبقى فيه موسيقاه، وهذا لا يلغي أبداً أن في النثر لغة شعرية، لكنها ليست موسيقا، والحديث عن موسيقا داخلية في النص، أمر أراه أبعد ما يكون عن الفهم.
أنا لست ضد هذا اللون من الكتابة، بل أقول هو في بعضه جميل، لكنني أختلف على إطلاق تسمية «قصيدة النثر» عليه، ففي التسمية الحالية المرتبكة تضاد مع سويّة الطرح.
ولست أفهم كيف «يخرج جِنيٌّ من فنجان قهوة ليعانق نوارس الفضاء ثم يهبط مرسالاً ملائكياً بين عاشقَين، على فرجةٍ مفتوحة في حضن الأرض.!» ثم يمهر هذا النص بأنه قصيدة نثرية.! وعلى من يتساءل ما هذا العبث الضلالي، أن يحمل تهمة التخلّف ومحاربة الحداثة.
إنها دعوة للحوار، وليست دعوة للصراع فنحن جميعاً ننشد الأفضل، وعلى هذا الطريق يجب أن نعمل.