إشكاليات الخطاب النقدي الأدبي العربي المعاصر

داود سلمان الشويلي..


من المفيد أن نذكر، بداية، أن ما تريد أن تصل إليه هذه الدراسة، هو سلامة الخطاب النقدي الأدبي العربي المعاصر، الخطاب النقدي المنهجي، الذي هو : (( البناء الأدبي القائم والمؤسس، على نظرية نقدية تعتمد أصولا ً معينة في فهم الأدب وفي اكتشاف القيمة الجمالية والنفسية والفكرية والاجتماعية في العمل الأادبي )).

أما الخروج عن اشتراطات هذا الخطاب، فإنه - حسب هذه الدراسة - يشكل أزمة له وفيه، مبعثها تلك الإشكاليات الذاتية والموضوعية على السواء، إذ ان دراسة هذا الخطاب، تقودنا إلى تلمس ما وقع فيه من إشكاليات نابعة من داخله، وأخرى، تعيق تقدمه وتطوره، واردة إليه من خارج كيانه، إلا أنها ذات تأثير سلبي عليه، وهذا ما سنبينه في السطور القادمة.

آ - الإشكاليات الذاتية :
وهي الإشكاليات التي أفرزتها حركة الخطاب النقدي العربي منذ التأسيس، وأثناءالإنجاز، لأسباب، منها :
أولا ً: إشكالية المصطلح.
ثانياً : إشكالية المنهج.

*** *** اولاً : إشكالية المصطلح :

ربما يتساءل البعض عن سبب الحديث عن المصطلح، وما يشكله من إشكالية خارج حدود الحديث عن المناهج، وللاجابة عن مثل هذا التساؤل، نقول : أن المصطلحات هي مفاهيم لغوية اصطلاحية تعود الى المناهج نفسها. وهذا قول صحيح، إلا أن المناهج نفسها - وبعيداً عما سببته من إشكاليات في التطبيق - قد وقعت هي الأخرى بإشكالية التسمية. ويضاف إلى كل ذلك، أن الكثير من المصطلحات، لم تكن تابعة لأي منهج من المناهج النقدية، على الرغم مما لها من دور كبير في النقد الأدبي، لهذا كانت هذه الاستقلالية في الحديث عن المصطلحات والإشكاليات التي أفرزتها في حركة الخطاب النقدي الأدبي العربية المعاصرة. والمصطلح، هو : ما (( اتفقت الجماعة على استخدامه، ليرمز إلى مجموعة من الأفكار والمذاهب، ترسبت مع الزمن، وأصبح لها من (( التحديد )) ما يبرر هذا التعبير او المصطلح، بحيث إذا أطلق فإنه يرمز على الرغم من صغره إلى حركة أو فكرة، ذات سياق تاريخي وفلسفة جمالية، وملامح فنية )). (6 )
وإذا كان المصطلح هو أداة لغوية مفهومية، إلا أنه قد أصبح واحداً من إشكاليات حركة الخطاب النقدي الأدبي العربية المعاصرة. إن من أهم إشكاليات المصطلح واستخدامه :

(1) قصور الترجمة:

على الرغم من أن الترجمة توصف بـ ( الخيانة )، إلا إنه من الطريف، أو المحزن في الآن نفسه، ونحن نقرأ عن حركة الترجمة في العصر العباسي إبان ازدهار الثقافة والحضارة العربيتين، أن نستذكر أن بعض مترجمينا العرب الأقدمين، وبسبب من سوء الترجمة، قد أوقعوا حركة النقد الأدبي العربية - وقتذاك - في إشكالية كبيرة لم تتخلص منها حركة الخطاب النقدي الأدبي العربي إلا في عصرنا الحديث، عندما أخطأ ( بشر بن متى ) في ترجمة بعض مصطلحات كتاب ( فن الشعر ) لأرسطو، خاصة مصطلحي (التراجيديا والكوميديا ) اللذان ترجمهما بـ ( المديح والهجاء ). ومن المسلم به تاريخياً، أن أقطار وطننا العربي، قد وقعت - في التاريخ المعاصر - تحت سيطرة الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، والجميع يعرف ما لثقافة هذين الاستعمارين من تأثير كبير على الثقافة العربية بصورة عامة، فضلا ً عن ذلك، فإن بُعد أو قرب هذا القطر أو ذاك من هذه الدولة الغربية ( الأوربية ) أو تلك، قد أثر هو الآخر في استخدام لغة هذه الدولة أو تلك، كما كان لتخرج أبناء هذا القطر العربي أو ذاك من جامعات غربية عديدة ومتنوعة، له تأثيره أيضا ً في كل ما قلناه .. مما أقام عملية تثاقف كان لها تأثيرها السلبي الكبير في هذا المجال. ان عملية التثاقف القطرية - الاوربية هذه، كانت احد الاسباب التي جعلت من ارتحال المصطلح ( ترجمته ) من تلك الدولة الغربية الى هذا القطر العربي، يختلف عنه لو ارتحل الى قطر عربي آخر، مما أفضى الى نتائج غير سليمة، وذات تأثير سلبي على استخدام المصطلح، ومن ثم استخدام المنهج.
يقول د. صلاح فضل، عن الترجمات التي تمت في بلاد الشام للمناهج النقدية الحديثة، وخاصة ( البنيوية ) : (( يظل هناك امران يعوقان جديا ً امكانية الافادة الكاملة بها، أولهما يتصل بلغة المترجم، المعماة التي تغلب عليها العجمة والتراكيب الغربية، ويعز التقاطها على القارئ المختص مما يجعله يتمنى لو تمكن منها بلغتها الأصلية، وثانيهما يرتبط بعمليات النشر والتوزيع، إذ تتدخل العوامل السياسية المتقلبة لتجعل الحصول على كتاب من دمشق أو بغداد اصعب على أهل مصر مثلا ً من طوكيو أو بكين )) (7).
فضلا ً عن ذلك، فقد أدى هذا القصور إلى بروز ظاهرتين هامتين من ظواهر استخدام المصطلح النقدي ، هما :

أولا ً :
اضطراب وعدم استقرار المصطلح النقدي عند الكثير من النقاد العرب، مما أدى إلى (( سوء فهم تلك الدلالات وبالتالي قد يؤدي إلى خلق أحكام مضطربة وضبابية يكتنفها الغموض والجهل معا ً )) (8 ) . وهذا الاضطراب لم يكن سمة خاصة بالمصطلح فحسب، وإنما هو واحد من سمات حركتنا الثقافية العربية عامة.

ثانيا ً :
غموض، وعدم وضوح المصطلح. وهذا ناشيء عن (( سوء الترجمة حينا ً، او سوء استعماله حينا ً آخر، فضلا ً عن الخلط والاضطراب بين المصطلحين العربي القديم الواضح الدلالة والاستقرار، والغربي أو الاجنبي الذي يكتنفه الغموض وعدم وضوح الرؤية خاصة حين يطبق )) ( 9 ).
ويجرنا الغموض والاضطراب اللذين رافقا عملية ترجمة وتطبيق المصطلح الاجنبي، إلى أحد أسباب قيام الازمة في حركة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصرة، وهو إشكالية الفكر الادبي العربي المعاصر، والتي سنتحدث عنها في السطور القادمة.

(2) غياب المصطلح:

إذا كان استخدام المصطلح في الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر، أدى إلى أكثر من إشكالية، فإن غيابه هو الآخر، يعتبر أحد إشكاليات هذا الخطاب، كون المصطلح، وبما ينطوي عليه من مفهوم معرفي دقيق، يوفر الكثير من الجهد في إنتاج خطاب نقدي أدبي جاد وعلمي، لأن أهم فعالية يقوم بها المصطلح تجاه المنجز الإبداعي، هو استيعابه أولاً، ومن ثم تجاوزه للوصول إلى الحقيقة الأدبية له.

*** *** ثانيا ً : إشكالية المنهج :

للمناهج، وبما تنطوي عليه من مصطلحات ومفاهيم وأدوات فحص، أهمية كبيرة في حركة الفكر بصورة عامة وعلى كافة مستوياتها وعلى حركة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر خاصة .. ودون أن ندخل في تعاريف لغوية أو مفهومية للمنهج، نقول، أن المنهج : (( لاينحصر بمفهوم واحد، أو أدوات متعددة، أو بعض القيم والمعايير، إذ هو في الحقيقة مجموعة من المفاهيم والتصورات المتسقة والأدوات والخطوات الاجرائية والقيم والمعايير، وهو بهذا المعنى رؤية لا مجموعة من الأراء، والمنهج رؤية فلسفية متكاملة، أي رؤية للأدب والنقد والإنسان والعالم )) (1).
وقبل أن نعتمد التعريف السابق، علينا التأكيد على ماجاء فيه من أن المنهج هو (رؤية فلسفية متكاملة ) لأن هذا الوصف سيفيدنا في السطور القادمة. إن الأسباب التي أدت الى وجود هذه الإشكالية، يمكن تلمسها من خلال:
(1) غياب المنهج : أي ما يمكن أن نطلق عليه بـ ( اللامنهجية ) والتي أصبحت - هذه اللامنهجية - سمة لأغلب الدراسات النقدية التي ضمها الخطاب النقدي العربي المعاصر، والتي لاتعتمد لها منهجاً عند الدراسة والتحليل للمنجز الإبداعي. ومن الطريف، أن اللامنهجية هذه، قد أصبحت عند البعض من ( نقادنا ) هي المنهج الذي راحوا يدافعون عنه تحت ذرائع شتى، منها :
- أن المنهج - أيّ منهج - يفرض قيوداً عند التطبيق، إلا أن الدافع الأساس لذلك هو افتقار مثل هؤلاء ( النقاد ) لأبسط شروط النقد الأدبي، وهي المنهجية ومن ثم لعدم معرفتهم بالمناهج النقدية القديمة أو الحديثة، فدفعهم كل ذلك إلى ذم المنهج والمنهجية. إن غياب المنهج، يؤدي - حتماً - إلى الإنشائية والانطباعية والتأثرية فيصبح الخطاب النقدي، عند ذاك - عبارة عن تذوق ذاتي للنص الإبداعي يفتقر للموضوعية، و ورم خبيث في جسد الخطاب النقدي العربي الخاص بالمنجز الإبداعي الأدبي، وكذلك ، وبالاً على المنجز الإبداعي نفسه. ويمكن القول نفسه، على بعض التعليقات الصحفية السريعة التي يطلق عليها البعض (نقداً ). (2)
استخدام المنهج : قلنا، إن اللامنهجية، هي واحدة من الإشكاليات التي جعلت من الحركة النقدية الأدبية العربية، تقع في أزمتها، إلا انه، وفي الوقت نفسه، إن ( المنهجية ) - أي استخدام المنهج - هي الأخرى، قد أصبحت إحدى إشكاليات هذه الحركة، خاصة وأن المنهج يعد من وسائل الخطاب النقدي الأدبي عند متابعته وتقصيه لمعنى النص الابداعي.. ويمكن إجمال صور هذه الإشكالية بما يلي :

(آ) غربة المناهج : ونقصد - هنا - بـ ( الغربة ) معنيين في الوقت نفسه،
أحدهما : أن هذه المناهج هي في الأساس ذات مصدر أوربي، غربي،
وثانيهما : انها غربية عن البيئة العربية بصورة عامة، والثقافة العربية بصورة خاصة.
إن هذه الغربة، أوقعت حركة النقد الأدبي العربي، المعاصر خاصة، في إشكالية كبيرة، ليس فقط بسبب مساوئ ( الترجمة ) فحسب، وانما لأسباب كثيرة، منها : إن تلك المناهج قد تأسست - أصلاً - اعتماداً على مفاهيم فكرية وفلسفية غربــية، ومن أجل منجز إبداعي نتاج لبيئة وحضارة غير البيئة والحضارة العربيتين (11).
وإن هذه الظاهرة هي واحدة من (( أبرز سمات الإشكالية المعاصرة لنقدنا الشعري الحديث نظراً لأنها ترتبط مباشرة بقضية الفكر الغربي المعاصر )) (12).
وكذلك بالنسبة لقضية العلاقة بين الثقافتين العربية والغربية. وقد تنبه أكثر من ناقد لهذه القضية عندما وجد أن بعض المناهج النقدية لا تسعف الذائقة النقدية العربية في دراسة المنجز الإبداعي الأدبي جماليا ومعرفيا اللذان يوفرهما المنجز الإبداعي ضمن خصوصيات البئية والثقافة العربيتين، فراح البعض يستخدم منهجين أو أكثر في فحص منجز إبداعي ما (13) فيما يذهب ناقد آخر إلى محاولة تأسيس منهج نقدي عربي إسلامي (14) كما يقول.

(ب) الدوغماتية في التطبيق:
فهم البعض من النقاد، أن المنهج ما هو إلا أدوات هندسية ذات أبعاد وحجوم ومساحات لا يمكن المساس بها عند التطبيق، فأخذت - عند ذلك - المناهج تسـّيرهم دون أن يكون للمنجز الإبداعي حرية اختيار منهجه. إن التحجـّر ضمن هذه المقاييس، هو ما جعل المنجز الإبداعي، ومن ثم المبدع نفسه، يعيشان وضعاً مأساوياً لا يحسدان عليه، إن كان ذلك عند استخدام المناهج النقدية القديمة ( السياقية ) أو المناهج النقدية الحديثة ( النصية )، ذلك لأنه (( لا وجود لمبادئ وقيم منهجية ثابتة يمكن الاعتماد عليها وتثبيتها إلى ما لا نهاية في تحليل النص الشعري أو غيره من النصوص الإبداعية التي تدور عليها المقاربة النقدية )) (15) .
(ج) قصور الترجمة :
لا يمكننا أن نضيف شيئا ً على ما قلناه سابقا ً عن قصور الترجمة بالنسبة للمصطلح، وفي الآن نفسه لا يمكن إغفال ما للترجمة من دور كبير وفعال وخطير في الحركة الفكرية والثقافية عامة، وفي الحركة الأدبية خاصة، إذ انها واحدة من المستلزمات الضرورية لمجمل الفعاليات الانسانية، ليس في حاضرنا هذا فحسب، بل ومنذ التطور والتقدم اللذين حصلا في الحركة الفكرية والثقافية والعلمية في العصر العباسي خاصة. اذ لعبت الترجمة دورا ً كبيرا ً في ذلك وهي الآن واحدة من شروط التطور والتقدم في كافة الميادين، وهذا ليس مدعاة لبقاء العرب يعيشون ( عالة ) على غيرهم من الامم، وفي الوقت نفسه، فإن الحياة - بصورة عامة - تتطلب الانفتاح على الآخر. وإذا كنا نتفق على هذا الدور، فحري بنا أن نتفحص المنجز الذي قدمته الترجمة بما يتعلق بالمناهج النقدية خاصة، للوقوف على حقيقة هذا الدور ونسب النجاح والفشل، خاصة وأن الكثير من الدراسات والبحوث المعنية في هذا الجانب، راحت تدرس هذه القضية وتقدم لها الحلول، إلا أن هذه السطور سوف لا تفي بما مطلوب منها إنجازه.