الصين التي يرقص لها الجميع، هي أوضح نموذج للكارثة الاقتصادية القادمة، وللثورة الاجتماعية غير المسبوقة!!



منذ ما قبل الأزمة المالية التي عصفت بالعالم ذات يوم من أيام جُمَع صيف عام 2008، وخبراء الاقتصاد في كل مكان يروجون لمقولة غريبة مفادها أن الصين هي "حصان طروادة" الحالي والقادم في اقتصادات "الكوكب الأزرق"، باعتبارها ثاني أكبر الاقتصادات، وباعتبارها تمتلك أكبر احتياطات نقدية في العالم، وباعتبارها عرفت كيف تنتقل إلى اقتصاد السوق تحت سيطرة حزب شيوعي ما يزال يدير البلاد بدكتاتورية بعيدة عن كل أشكال الديمقراطية.. إلخ.

ومع أن هذه الإشاعة بشكلها الأولي المُمَهِّد لشكلها الراهن، كانت قد بدأت تروج بعد وقت قصير من الانقلاب على "الماوية" عقب وفاة الزعيم التاريخي للصين "ماو تسي تونغ" في بلد المليار نسمة آنذاك، والمليار وثلاث مائة مليون نسمة حاليا، إلا أنها تفاقمت منذ الأزمة الأخيرة.

ويحق لنا أن نتساءل عن "الحقيقي" و"المزيف" في هذه الدعاية غير المسبوقة.

لن نخوض في نقاش أيديولوجي يُقحمنا في متاهات لها أول وليس لها آخر حول "طروادية الحصان الصيني"، وسوف نكتفي بإيراد بعض المؤشرات الرقمية التي تنطوي في ذاتها على السبب الحقيقي الكامن وراء تلك الدعاية.

1 - خلال ثلاث سنوات من الآن، أي في عام 2015 سيكون عدد المليونيرات في الصين، مليون مليونيرا دولاريا.. و"المليونير الدولاري" هو من يمتلك أموالا منقولة وغير منقولة لا تقل عن مليون دولار.. وسوف يكون إجمالي ما يملكه هؤلاء المليونيرات من ثروة، "9" تريليونات دولار أميركي، أي بمعدل "9" ملايين دولار لكل مليونير، وهو ما يعني قطعا أن هناك من سيملكون عشرات الملايين من الدولارات، أو ربما مئات الملايين منها، على اعتبار أن عشرات الآلاف من هؤلاء المليونيرات سيملكون أقل من ذلك المتوسط الحسابي.

2 – تشير الإحصائيات الصينية الرسمية إلى أن أكثر من "900" مليون مواطن صيني معظمهم من سكان الأرياف والقرى ما يزالون يرزحون تحت خط الفقر، وهم في أحسن الأحوال "فقراء" بمقاييس الفقر في الصين ذاتها، وليس بمقاييس الفقر المعتمدة من الأمم المتحدة ومنظماتها المختصة، وهي المقاييس التي لو اعتمدت لغدا أكثر من مليار صيني يعيشون فعلا تحت خط الفقر.

3 – تكشف مؤشرات البطالة في الصين بناء على تصريحات الدولة الصينية نفسها، إلى أن ما لا يقل عن 10% ممن هم في سن العمل والبالغ عددهم الإجمالي 300 مليون نسمة، يعانون من عدم القدرة على الحصول على عمل. أي أن "30" مليون صيني لا يعملون، ويتركزون في المدن، لأن المؤشرات الصينية لا تعتبر الفقير الذي يعمل في أرضه في الريف حتى لو يكاد يكون معدما بمثابة عاطل عن العمل. ولا تحتسب نسب البطالة إلا ممن هم مسجلين في الدوائر الحكومية المختصة من حملة الشهادات ومن الفنيين المهرة وخير المهرة.. إلخ.. وهؤلاء يتركزون في المدن الكبرى.. وبالتالي فهؤلاء العاطلين إنما هم في واقع الأمر المعدمون ومن يعولونهم من سكان المدن. وهؤلاء يعانون هم ومن يعيلونهم من كل المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يعاني منها نظراؤهم في أي مكان في العالم.

4 - لو تم تقسيم ثروة مليونيرات عام 2015 على كل أفراد الشعب الصيني المليار والثلاث مائة مليون نسمة، لكانت حصة كل واحد منهم "7" آلاف دولار، أي لأصبحوا جميعهم بلا استثناء أغنياء بمقياس الغنى الصيني، ولو تم توجيه هذه الثروات الرأسمالية إلى الاستثمار المنتج محليا بهدف القضاء على البطالة والفقر بعيدا عن القداسة الممنوحة لأيديولوجية اقتصاد السوق بكل كوارثها على بنية المجتمع، لتحققت في الصين تنمية حقيقية من شأنها أن تقضي على الفقر بنسبة 100% خلال مدة أقصاها عقد ونصف من الزمن. ومع ذلك فكل الثروات الصينية والفوائض النقدية الهائلة التي حققتها الصين جاءت من الإنتاج التصديري الذي لا يؤسس لاقتصاد متوازن وثابت وراسخ، ويبقى عرضة للاهتزازات العالمية. ولأن أزمة عام 2008 كانت نقدية ومالية فقط، ولم تمس بُنى الاقتصاد الإنتاجية، فقد ظهرت الصين بمظهر عدم المتأثر بتلك الأزمة والقادر من ثمَّ على دعم المتضررين منها لإخراجهم من أزمتهم.. إلخ.

وذلك كي نعرف أن الثروة الصينية التي حققتها معدلات نمو زادت أحيانا عن 12% سنويا، لم تخلق مجتمعا متوازنا ولا عادلا، وإنما صبت كلها في خانة ضيقة من الذين عرفوا كيف يستفيدون من نظام الانفتاح الصيني ما بعد الماوية تحت هيمنة قواعد ومبادئ اقتصاد السوق ليس إلا. وما المؤشرات الإحصائية التي سقناها أعلاه إلا دليل على صحة ما نقوله..

* فرز طبقي غير مسبوق في العالم يشير إليه البند "1"، حيث تتركز مظم الثروة لدى نسبة من السكان تقل عن واحد في الألف.

* فقر غير مسبوق ترزح تحت نيره نسبة عالية من السكان يشير إليه البند "2"، تصل إلى 70%، يقطن معظمهم في الأرياف ويعملون في الزراعة التي لم تسعفهم التنمية والثروة في الصين من الانتقال بها إلى مستويات التقانة الفعالة عالية الإنتاجية.

* بطالة غريبة الشكل تحتسب فقط من بين الفئة المقيمة في المدن يشير إليها البند "3"، تجاوزت الـ 10%. وهي نسبة عالية بكل المقاييس، خاصة عندما نعلم أنها تخلق إلى جانب فئة الفقراء السابقين، فئة من المعدمين فعلا، والذين سيكونون بيئة لكل الآفات النفسية والاجتماعية.

وبعد، فهل هذا النموذج يمثل فعلا "حصان طروادة"؟

في الحقيقة هناك سياسة مشبوهة انتهجتها الدوائر الرأسمالية في العالم، هدفت من ورائها إلى التركيز على النموذج الصيني ووصفه بأنه يمثل الخيار والبديل والمنقذ والعاصم من الكوارث والأزمات، كي لا تدفع بالدول وبالشعوب التي تريد أن تتحصن من الأزمات بعد معاناتها من أزمة عام 2008، إلى دائرة إعادة النظر في اقتصاد السوق ذاته كموئل لها في المستقبل.
إن التركيز على النموذج الصيني بوصفه نموذجا نجح في تجاوز الأزمة وحقق لنفسه حضورا في أتونها على شكل منقذٍ دون أن يتأثر بها، يهدف إلى المحافظة على الفكر الاقتصادي الرأسمالي سيدا للموقف. فالصين التي لم تخرج عن متطلبات اقتصاد السوق في أطره الرئيسية، والتي انتهجت سياسة الإنتاج التصديري لصناعة الثروة، والتي تعاملت مع مخرجات اقتصاد السوق من "فرز طبقي" و"بطالة" و"إفقار".. إلخ، دونما ثورة على ذلك الاقتصاد أو خروج عن ميادئه، تصلح أن تكون نموذجا يتم وصفه بالمنقذ، كي يصبح قدوة لكل من يريد أن يتحصن من الأزمات..

إنها سياسة تريد من كل الدول التي قررت أن تعيد النظر في مستقبلها الاقتصادي بعد الأزمة، ألا تخاف من الاقتصاد التصديري، وألا تخاف من استهداف جمع الثروة النقدية الفائضة، لأنها تساعد عند الأزمات. وهكذا يبقى اقتصاد السوق، وتبقى الرأسمالية، قادرة على تجديد نفسها حتى وهي تعاني من أحلك الأزمات وأخطرها.

فهل فينا من يستطيع أن يفهم هذه اللعبة، ويدرك أن الصين إذا استمرت في نهجها الاقتصادي الراهن، مقبلة على كارثة اقتصادية ستحرق فيها الأخصر واليابس، وستكون بيئة خصبة لأكبر الثورات المجتمعية في العالم؟!

ولهذا السبب فإن ثقافة جديدة بدأت تنتشر في أوساط الأجيال الجديدة من الشعب الصيني تقول:
"إن الصينيين لم يجنوا من الاشتراكية غير العرق، ومن الرأسمالية غير الحرمان"..

فهل معنى هذا أنهم سيجدون طريقا جديدا لانتشال بلدهم من الكارثة التي يقودهم إليها حزب شيوعي حاول أن يغير نصف جلده مبقيا على نصفه الآخر، فوجد نفسه يمسخ نفسه وشعبه وبلده؟