موقع "محمد إقبال" بين مفكري الإصلاح في عصرنا
الدكتور جيلالي بوبكر
إن المكانة التي يحتلها محمد إقبال في الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي الحديث تحددها طبيعة الإصلاح الذي دعا إليه، ونوع التجديد الذي نادى به، كما تحددها طبيعة المرحلة التاريخية التي عاش فيها، والظروف التي شهدتها هذه المرحلة. وتبرز مكانة أي مفكر من خلال الدور الذي يلعبه فكره على المستوى النظري أو على مستوى العملي أو هما معا. ولأراء ومواقف الباحثين والقراء والنقاد دور في تحديد مدى قوة فكر المفكر أو ضعفه وهشاشته
.
لم تكن فلسفة الإصلاح والتجديد لدى محمد إقبال على سنّة سابقيه أو الذين عاصروه، فمحاولته تقوم على إعادة الاعتبار للإسلام، وإخراجه من دائرة الشكوك والشبهات من جهة، وإبعاده عن الركود والجمود من جهة ثانية، وليس إصلاح الدين، وتغيير قّيمه، كما كان يريد البعض، والإصلاح والتجديد يرتبطان أساسا بالفكر وبعصره وبسائر الظروف التي تحيط به. ويخرج الإصلاح الذي دعا إليه إقبال عن أيّة حركة تستهدف تبسيط الإسلام للعامة، وعن أي منهج من مناهج المدارس الفقهية، أو المناهج الكلامية في الدين، ففلسفته تمثل نمطا من التفكير الراقي في مشكلات الإنسان والحياة والوجود، وفي مسائل الحضارة والتاريخ والتقدم. وتمثل منهجا يزاوج بين ما للإسلام من قيّم عليا ومبادئ مثلى وما للفكر الغربي من فوائد تنفع المسلمين إلى جانب إسلامهم، هذا المنهج يقوم على النقد والاقتباس وإعادة البناء، وينتهي إلى نتيجة واحدة هي حقيقة الإسلام ودوره في تدبير شؤون الإنسان وتوجيهها. ومما يتميز به الفكر الإصلاحي عند إقبال الأصالة والتجديد، للإسلام قيم ذاتية تتكشف بفعل الاجتهاد في كل عصر ولكل من يريد ذلك، لا على أساس ملائمة تعاليم الإسلام مع المتغيرات والمستجدات في الزمان والمكان، بل على أساس قبول القيم الدينية لتلك المتغيرات والمستجدات، أو تهذيبها وتوجيهها، وتلك هي عين أصالة هذا الفكر الذي لم يتعال عن التأثر بالغير والأخذ منه، فهو اقتبس من الفكر الغربي، لكنه اقتباس واعي جاء بعد دراسة عميقة ونقد بناء وتأمل في الأصول والسبل والنتائج والمقاصد
.
إن قوة الفكر الإصلاحي عند محمد إقبال وقدرته هو على الوصول إلى رؤية فلسفية إلى الحياة والوجود والإنسان والتاريخ، وإلى بلوغ فلسفة تميزت بالنسقية والتكامل بين وحداتها وعناصرها، كل هذا لم يكن من صنيع الصدفة، بل كان من إنتاج جملة من الظروف تضافرت أدوارها فأعطت شاعرا، ومتدينا صوفيا، وفيلسوفا مصلحا، ومجددا بارعا، فالإسلام والحضارة الغربية والفكر الغربي وواقع المسلمين الفاسد، ومواهب محمد إقبال وطاقاته الإبداعية، هي جميعاً صنعت هذا المصلح، وهذا الإصلاح والتجديد، وهذه المحاولة التي قامت بتعديل المفاهيم الإسلامية، وتقديم الإسلام الإيجابي الحيوي، كما تصدّت لتيارات الإلحاد التي جاء بها الفكر الغربي الذي دخل العالم الإسلامي مع دخول الحضارة الأوروبية الحديثة إلى حياة المسلمين وتأثرهم بها. وفي الدور الذي لعبه الفكر الإصلاحي عند إقبال قال عنه صاحبه في مقدمة كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام": "ولقد حاولت في هذه المحاضرات التي أعددتها بناء على طلب الجمعية الإسلامية بمدراس، وألقيتها في مدراس وحيد رأ باد وعليكرة. بأن أحاول بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة و اللّحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعمل كهذا".(1)
ويصف الأستاذ محمد البهي محاولة محمد إقبال إلى جانب محاولة الشيخ محمد عبده، فيقول: "واضطر كلامها إلى أن يكشف عن قيمة الإسلام في دفع المؤمنين به إلى الحياة والعمل فيها، وقيمته في نظرته وتصويره للحياة الإنسانية، في مواجهة الصليبية الغربية وأهدافها تارة، أو في مواجهة الفكر المادي الغربي الإلحادي تارة أخرى. محمد عبده ومحمد إقبال كلاهما قام إذن بمحاولة فكرية إسلامية أو بحركة إصلاحية في تعديل المفاهيم الإسلامية، قصد منها بيان القيمة الإيجابية في توجيه الإسلام. وكلاهما دفع إذن إلى هذه المحاولة تحت ضغط عامل خارجي أحدهما - وهو الشيخ عبده - تحت ضغط الاستعمار الصليبي، والثاني وهو - محمد إقبال- تحت ضغط الفكر المادي الطبيعي وسيادته في أوروبا، وانتشار الدعوة إليه في الهند خاصة في تلك الوقت عن طريق السيد أحمد خان والشاعر التركي توفيق فكرت من دعاة مذهب أوجست كومت في حركة التجديد الإسلامي في تركيا وكلاهما أخلص في محاولته، وبذل مجهودا مشكورا فيه".(2)
والذي لا يشك فيه الأستاذ محمد البهي كدارس لفكر إقبال وفلسفته هو "أن إقبال درس الفكر الغربي دارسة واسعة، وهضمه وفاد من منهجه وتعبيراته، ومصطلحاته... والذي لا شك فيه أيضا أن إقبال كان صوفيا، وكان يقدر الرياضة الصوفية... وليس فقط لصفاء النفس والروح، وإنّما أيضا للوصول إلى المعرفة الكلية... ولكن مع ذلك ليس ما يذكره إقبال هنا هو ترديد للفكر الغربي... أو أثر للصوفية أو مزاوجة بين الفكر الغربي والصوفية في الإسلام معا. أن محمد إقبال بالأحرى رأى ضعفا في المسلمين كأفراد وكجماعة، ورأى ركودا في أفهام المسلمين للإسلام، ورأى عزوفا من المسلمين - وبالأخص في الهند- عن حياة الواقع والحس... رأى إنسانا سلبيا في كل جانب، ورأى مع ذلك في إسلامه ديناً إيجابياً في كل جانب... رأى من جانب إنسانا لا يصلح لهذه الحياة، ورأى من جانب آخر ديناً هو لهذه الحياة، والحياة الأخرى معا".(3)فكان محمد إقبال في ذلك المفكر المسلم أولا وغربي الأسلوب والصياغة ثانيا. أراد بفكره أن يجعل الحياة متنفس عمل الإنسان المسلم بعد السلبية والنفور من الحياة الطبيعية، وربطها بالسوء والشر. وحركة الإنسان في الحياة مهما بلغت من درجات النماء والتطور والازدهار ينبغي أن يعرف الإنسان أصل الحياة، وأصل الحركة، وهو الذات الكلية.
إنّ الرؤية الفلسفية إلى الحياة وإلى الإنسان وإلى الوجود عند محمد إقبال جعلت منه المفكر المتفرد، لا يكتب للعامة، صاحب نظرة عميقة وفكر واسع، ارتبط فكره بالفكر الفلسفي الإسلامي وبالفكر الغربي الحديث، لا من خلال الاقتباس منه فحسب بل لأجل التصدي للاتجاهات الإلحادية فيه، ويؤكد على هذا الأستاذ محمد البهي قائلا: "إنّ إقبال في تجديد الفكر الديني في الإسلام، كان جامعيا في محاولته... في عمله الفكري للخاصة، وفي اعتبار هذا العمل لجيل معين، وهو جيل التفكير الوضعي، أو التفكير المادي الإلحادي".(4)ويصفه الأستاذ أمين الخولي: "ومن تلك الإنسانيات الإسلامية التي سعد بها الإسلام في العصر الحديث: إقبال الذي كان متدينا في الحياة، ومفلسفا للحياة، ومتفننا من الحياة، ومتصوفا مع الحياة... ذلكم إقبال الذي هو في حق نفحة من حيوية الإسلام الزاخرة ولمحة من إنسانيته الباهرة وسنا من روحانيته السامية في واقعيته العاملة".(5)وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها الدكتور ماجد فخري إلى فلسفة إقبال في كتابه »تاريخ الفلسفة الإسلامية« يعترف له من جهة أخرى بالمكانة المرموقة التي يحتلها في الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، يقول: "على أنّ أهم محاولة - ولعلها المحاولة الوحيدة- لتأويل الإسلام تأويلا فلسفيا معاصرا هي تلك التي قام بها مفكر هندي آخر وشاعر ذو حس مرهف وعالم واسع الاطلاع على الفلسفة هو محمد إقبال – ت 1938... وهكذا فالتنسيق الذي يعمل على بسطه في كتابه »إعادة تركيب الفكر الديني في الإسلام« يشبه بضخامته التنسيق الذي قام به الغزالي قبل ذلك التاريخ بنحو ألف سنة، في كتاب »إحياء علوم الدين«. أما من حيث الجوهر، هو أشبه بتنسيق الكندي وابن رشد في التوفيق الذي حاولاه بين نظرة اليونان الفلسفية إلى الكون ونظرة الإسلام الدينية إليه... ومهما يكن من أمر، فقارئ كتاب إقبال "إعادة تركيب الفكر الديني في الإسلام" لا يتمالك الشعور الطاغي بسعة علمه، وبرحابة تأملاته الميتافيزيقية والدينية... لا يمكن إنكار ما قام به محمد إقبال من محاولة فذّة، عميقة الجذور، لم يبلغ شأوه فيها أي مفكر في القرن العشرين، لإعادة النظر في المشاكل الإسلامية الأساسية في ضوء اعتبارات حديثة".(6)
وقال عنه صاحب كتاب »روائع إقبال«: "إنّ جلّ ما أعتقده إن إقبال شاعر أنطقه الله ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، أنطقه كما أنطق الشعراء والحكماء قبل عصره، وفي غير عصره، إني أعتقد أنّه كان صاحب فكرة واضحة وعقيدة راسخة عن خلود الرسالة المحمدية وعمومها، وعن خلود هذه الأمة وصلاحيتها للبقاء والازدهار، وعن كرامة المسلم، وأنّه خلق ليقود ويسود، وعن تهافت المبادئ والفلسفات والدعوات التي ظهرت في هذا العصر، كالقومية والوطنية والشيوعية والرأسمالية، ووجدتُ فيه من وضوح الفكرة وشدة الاقتناع بها، والتحمس لها، والشجاعة في نشرها، وفي نقد هذه الفلسفات، ما لم أجده مع الأسف في كثير من رجال الدين، لعدم اكتناههم بحقيقتها وإطلاعهم على نواياها وأهدافها وأسسها وتاريخها".(7)ويقول فيه كذلك: »في هذا الجو المكهرب بالفكر الغربي، وفي العالم المتجاهل أو المتناسي لقيمته وقوته، ورسالته ومكانه في قيادة الأمم، تزداد قيمة شاعر يولد في بلاد بعيدة عن مهد الإسلام، في سلالة برهمية قريبة العهد بالهداية الإسلامية، في بيئة كان يحكم فيها الإنجليز وتسود فيها الثقافة الغربية، يدرس فيها العلوم العصرية والآداب الغربية إلى أقصي حدودها، وفي أعظم مراكزها، ثم يشتد إيمانه بالرسالة المحمدية، وحبه وغرامه بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، وثقته بهذه الأمة ومواهبها ومستقبلها، وتشتد حماسته للإسلام، ويشتد إنكاره لأسس الفلسفة الغربية والحضارة الأوروبية، ويستخدم عبقريته الشعرية ومواهبه الأدبية في نشر عقيدته وشعوره ودعوته، ويكون خير مثال للشاعر المؤمن والعالم الداعي والفيلسوف الحصيف، ويحدث هزة في الأفكار والآداب في قطر من أعظم الأقطار الإسلامية و أوسعها، ويتجاوز تأثيره إلى أقطار بعيدة، ويسمع لها صدى في العالم الإسلامي".(8)
وقال فيه وفي فلسفته الدكتور عبد الوهاب عزام بك صاحب كتاب "محمد إقبال، سيرته، وفلسفته وشعره": "مات رجل كان على هذه الأرض عالما روحيا، يحاول أن ينشئ الناس نشأة أخرى، ويسنّ لهم في الحياة سنة جديدة. وسكن فكر جوّال جمع ما شاءت له قدرته من معارف الشرق والغرب. ثم نقدها غير مستأثر لما يؤثر من مذاهب الفلاسفة و لا مستكين لما يروى من أقوال العظماء، و قرّت نفس حرّة لا يحدها زمان ولا مكان، ولا يأسرها ماض و لا حاضر فهي طليقة بين الأزل و الأبد، خفّاقة في ملكوت الله الذي لا يحدّ".(9)
ولقد ذكره الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "من الفكر و القلب"، وأشاد بفكره و شعره و حكمته، و نصح الشباب المسلم بما يلي: "فيا أيّها الشباب الباحثون عن الحب في الوحل... و يا أيّها الباحثون عن النشوة في صهباء أوروبا.. ويا أيّها الباحثون عن الشعر و الأدب تحت أقدام النساء.. يا شباب العرب والإسلام: تعالوا و تعلّموا سمو الحب و لوعته من كبد إقبال، تعالوا فاشربوا الصهباء من المنهل الأقدس الذي شرب منه إقبال... مدرسة أمجادكم التي وقف ينشج على أطلالها أعجمي من الهند بينما ترقصون أنت-م على أنغام القيثارة التي تبع-ث من هناك.. من مواخير أوروبا!!".(10)
وهذا واحد من الشبان المسلمين في الجزائر ينشد في ديوانه الشعري" أسرار الغربة " في قصيدة عنوانها "نجوى إلى إقبال" قائلا:
" إقبال.. إقبال أقوى من ذرى جبل إيماننا الفذ.. أدنى من تناجينا نجوى المحبين.. أشواق معطرة وأنت نجواي.. يا نجوى المحبينا".(11)
فمكانة محمد إقبال في الحركة الإصلاحية وفلسفته ومحاولته الإصلاحية وتجديد التفكير الديني عنده، كل هذا جعل منه نموذجا بل أنموذجا لكل من يسعى إلى البحث عن الحقيقة، ولمن يريد أن يتفلسف أو يتفنن أو يتصوف في الحياة، فهو بحق صاحب فكر، من يطلع عليه يشعر بأنه أمام قوة الأصالة وقوة النقد وقوة الإبداع والتجديد، وأمام نسق فكري متكامل يتوفر على كل ما تتطلبه النسقية من شروط.
********
الهوامش
1- محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص2.
2- محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 424، 425.
3 - المرجع السابق: ص478-479. 4 - المرجع السابق: ص 495. 5 - محمد حسن الأعظمي، الضاوي على شعلان: فلسفة إقبال، دار الفكر، دمشق- سوريا. 6 - ماجد فخري: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 477 - 478 - 482. 7 - أبو الحسن علي الندوي: روائع إقبال، ص 24 - 25. 8 - المرجع السابق: ص 26. 9 - محمد حسين الأعظمي، الضاوي على شعلان: فلسفة إقبال، ص 24. 10 - محمد سعيد رمضان البوطي: من الفكر و القلب، دار الهدي، عين مليلة، الجزائر. 11- مصطفي محمد الغماري: أسرار الغربة: أسرار الغربة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر بدون طبعة وبدون تاريخ، ص89.