بسم الله الرحمن الرحيم



يمكن مشاهدة بعض الأفلام بخصوص الموضوع على الروابط التالية:






















إنَّها الحكمةُ الإلهية الكونية المتمثلة بإخراجِ الشيءِ من ضِدِّه، فالفَرَجُ يَخْرجُ من الضِّيقِ والعُسرُ من اليسر، والنُّورُ ينبلِجُ من بطونِ الظُلماتِ والحياةُ من الأمواتِ ...


بل إنَّ عينَ الإنسان التي بها يَرَى هذه التناقضاتِ وإخراجَ الشيءِ من ضدِّه تنطق بنفسها بهذا التناقضات، إذ هي حدقةٌ مستديرةٌ حالكة السوادِ، في بطنِ كُرةٍ دائريةٍ كالثلج ناصعةِ البياض!


فسبحانَ من أخرجَ وهَدَى خليفتَهُ ونورَهُ الإنسان في الأرضِ، من نُطفةٍ حَقيرةٍ تائِهةٍ في ظُلُماتٍ ثلاث ... وسُبحانَ من يُخرجُ النورَ من الظلماتِ ... والهُدَى من الضَلالِاتِ ... والأحياءَ من الأموات، والأمواتَ من الأحياء ... والذّل من العز والعز من الذّل ... والغِنَى من الفقرِ، والفقرَ من الغِنَى ... واليُسرَ من العُسرِ، والعسْرَ من اليُسْرِ ... والظاهرَ من الباطِنِ ... والباطِنَ من الظاهِر ...


فيشقُّ العدمَ بأمره فيَفْطُرُ منه الوجودَ ... ويَسمعُ للمعسرِ إذا دعاهُ فيخرجُ بلطفه من عسره اليسر ... ويَحنو على الضلالِ فيُخرجُ من ظُلماته الهُدى ...


هو الذي أخرجَ الماءَ مطفئ النَّارِ، من مصدرِ النار (الأكسجين والهيدروجين) ... وأخرجَ الدواءَ من أذيال العقاربِ وأنيابِ الحيات ... وأخرج الخصوبةَ من دمار الفيضانات ... ولبناً سائغاً للشاربينَ من بينِ فَرْثٍ ودمٍ ... وسَكَرَاً حُلواً وثمرات، وفاكهةً كثيرةً وأعناباً من طِينٍ كَدِرْ، وأراضٍ سبخةٍ مالحات ...


وعَسلاً مُختلِفاً ألوانُه فيه شِفاءٌ للناس من بُطونِ حَشراتٍ مؤذياتٍ ... وقُطناً وحريراً ناعماً من دِيدَانٍ وشرنقات ... وماءً عذْباً فُراتاً من أرضٍ جُرزٍ مالحات ...


هو الذي أخرجَ نهرَ الكوْثرِ العظيمِ في القرآنِ من أقصَرِ سُورةٍ فِيهِ ... هو الذي جَعَلَ أطولَ سُورةٍ في القُرآنِ باسمِ حيوانٍ مُستحقرٍ مُزْدَجَرٍ، من الناسِ لا يُهاب ... هو الذي جَعَلَ أحكامَ الزِّنا وهو نجاسةٌ ووَضاعةٌ، تخرجُ من سورةِ النورِ وهو قُدسِيَّةٌ وطهارةُ ... وهو الذي يتحدى الخلقَ بِجَناحِ بعوضةٍ، وسَلْبِ ذُبابٍ ...



وجعلَ إبراهيمَ أبي المُوحِدينَ يَخْرُجُ من بلادِ الشركِ المُبين ... وأخرجَ ذُريَّةَ الأنبياءِ والخلفاءِ المُباركةِ الحَيَّةِ من صُلْبِ شيخٍ كبيرٍ، وبطنِ عَجُوزٍ عَقيمٍ ... وَوَهَبَ يُوسُفَ المُلكَ وهو سجينٌ ...

ثُمَّ أَخْرَجَ خَيرَ أُمَّةٍ أخرجتْ للناس من بين قبائلَ مُتشاكِسَاتٍ مُتناحراتٍ ... ودينَ التوحيدِ من بُطونِ الشِركِ والوَثَنيَّاتِ ... والقرآن العظيم الغني البديع من فم رجلٍ أمّيٍ لا يقرأ ولا يكتب ... عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام ...





لقد خلق الله تبارك وتعالى الكتاب المبين بما فيه من سموات وأراضين وجعل الإنسان خليفته فيهن. وخلافة الأرضِ تتطلبُ الكثيرَ من العواملِ أهمُّها "العقل".


ولكنَّ العقلَ وحدَهُ ليس كافياً لهذه المهمةِ، بل يحتاجُ إلى "مُنَفِذٍ" لأنَّنا لا نعيش في عالمِ الأرواح، بل في عالمٍ ماديٍّ مَلمُوسٍ له قوانينُهُ وأسبابُهُ ومُسبِباتُهُ. هذا المُنَفِذُ هو"اليدُ" التي يتعلمُ ويعملُ ويعيش بها الإنسانُ الذي يتميز عن غيره من الكائنات الحية بدقتها ومهاراتها.


فالاستخلافُ إذاً مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالقدرةِ على الانجاز والتعلمِ، أي بـ "اليد"، ولِذَا جعلَ سُبحانَهُ أهَميَّةً خاصةً لليدِ فهي ببساطةٍ أداةُ الاستخلافِ.



ولأنَّ يدَ الإنسان جزء من الإنسان، والإنسان من خلق السموات والأرض، بل أهمّ ما فيها، فيدُ الإنسان إذن جزءٌ مُهِمٌ من الكتاب المبين، بل هي أبينُ المبينِ لأنَّها أقربُ شيءٍ إلى عين الإنسان وأكثرُها نفعاً إليه ... فيتعلم بأصابعه وبها يكتب ... ويغتسل ويتطهر ويلبس ويترتب ... وبها يزرع ويحصد ... وبها يأكلُ ويشرب ... وبها يتداوى ويتعالج ويسعف ويتطيب ... وبها يعيش ويكدح ويتعب ... وبها يمسح عرق جبينه ... وعليها يرتكز ... وبها يحمل وبها يتعلق ... وبها يستنجد ...


وبها يدفع الشرور والمخاطر عنه ويدافع عن نفسه ... وبها يزدجر وينهر ويضرب ... وإذا ما أراد الشعب الحياة يوماً، يرفعها عالياً بين الجموع ويتحزب ... وبها يلهو وبها يلعب ... وبها يصافح الناس ويتواصل معهم ... وبها يُعبِّر عن حبِّه وفرحه وغضبه وجميع مشاعره ...


وبها يمسح على رأس اليتيم والمريض ليوصل الرحمة لهم ... وإذا ما خلا مدَّها إلى السماء يستنجد بربِّه ويتعبد ... ويمسح الدموع عن عينه إذا بكي واكتأب ... وهي دائماً أمام عينه ينظر إليها ويحركها ... ويتعجب ...



فاليدانُ أداةُ الاستخلافِ وأقربُ وأولُ آيات الكتاب المبين إلى الإنسان ... لهذا فمن تمامِ الحِكمةِ وكَمَالِها أنْ يستشهِدَ تبارك وتعالى بأكثرِ هذا الخلق منفعةً للإنسانِ وأقربهِ إلى عينِه ليكونَ مُبيناً، وما ذلك إلا اليدانِ! فاليدانُ أقربُ وأولُ آيات الكتاب المبين إلى الإنسان ...




لهذا فقد جاء ذكرُ هذه الآية – أي اليدين والأصابعَ – في الكثير من آيات القرآن الكريم ليس بالتصريح بالاسم ولكن عن طريق المجاز والاستعارة بذِكرِ صفاتهم وفوائدهم وأشكالهم وأعمالهم. فالمقصودُ بـ : الصَّفَّتِ، الزَّجِرَتِ، الْمُرْسَلتِ، الْعَصِفَتِ، الذَّرِيَتِ، وَالنَّزِعَتِ ... هو يد الإنسان وأصابعه وليس الملائكةَ الكرامَ. إذ إنَّه تعالى حكيمٌ وكلامُه لا يخلو من حكمةٍ بالغةٍ فما الحكمةُ من ذِكْرِ شيءٍ لا نراه، ولا نستعمله؟



ولو كان الخطابُ للكُفَّار فكيف يتحداهم ويُعجزُهم الله سُبحانَهُ بشيءٍ لا يروه؟ فالكافرُ لا يؤمنُ ابتداءً بالغيبِ، فلو كان يؤمنُ بالغيبِ وبالملائكةِ لما كَفَرَ من الأساس، فلِمَ يتحداهُ ويُعْجِزُهُ سُبحانَهُ بشيءٍ غيبيٍ لا يراهُ أصلاً؟



ثم لنفترضْ إنَّ المقصودَ بالصَّفَّتِ الملائكة الكرام، ما الفائدةُ بعلم إنَّ الملائكةَ صَّافَّاتٌ ونحنُ لا نراهُم أصلاً؟ هل سينقصُ الإيمان لو لم يكونوا كذلك؟ فما الحِكْمةُ إذاً من ذِكْرِ هذه المعلومة؟


سيقال هنا أنَّ العلمَ لله تعالى، فأقولُ نعم، ولكن ما الحِكْمة لنا؟ فاللهُ تعالى حكيمٌ فلا يقُولُ شيئاً إلَّا لحِكْمةٍ! بل حكمةٌ بالغة ... أم إنَّ علينا أنْ نقرأ بغير فَهْمٍ ولا بيانٍ؟ فكيف يكونُ هذا الكتابُ مُبيناً ونحنُ نقرأُ ولا نستبينُ الحِكْمةَ مما نقرأ؟


فيجبُ أنْ تكونَ مادةُ الإعجاز والقَسَمِ مُشاهدةً ومحسُوسةً ومميزةً ومفيدةً وقريبةً منا، فكُلَّما زادَ الإحساسُ والقربُ من الإعجازِ كلَّما كان بليغاً ومُعجزاً وكلما قامتِ الحُجَّةُ على الناس مِصداقاً لقولِه تعالى:


مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ {القصص :72}،


فيجبُ أنْ نُبْصِرَ الآيةَ لتتمَّ الحُجَّة {أَفَلا تُبْصِرُونَ}!


ويجبُ أنْ نسمعَها {أَفَلا تَسْمَعُونَ}، .... ويجبُ أنْ نعقلها {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، ... ويجبُ أنْ نستعملَها ونشكر {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ...



ومن هذه المفاهيم المجانبة للصواب لا توجدُ قوانينٌ طبيعيَّةٌ تَحْكُمُ الكونَ، بل أعدادٌ لا تُحْصى من الملائكةِ تذهبُ وتَجيءُ لخدمةِ الإنسان ... فليس عليهِ الاعتمادُ على النفس في البناءِ والزراعةِ والطِّبِ وكَشْفِ أسرارِ الكونِ، وليس عليه تطويرُ نفسه والرقي بها والدفاع عن نفسه ... فالملائكةُ تقومُ بعملِها على أكملِ وجه!؟ لهذا السبب – ولأمثاله – فأمَّةُ الإسلام ترزحُ تحت فكر التبعية والاتكالية على الغير في جميع شؤونها، كما هو معلومٌ للجميع ...



سنُبينُ أنَّ هذا الفَهْمَ ليسَ مُجانِباً للصوابِ وحَسْب، بل مُعاكِسٌ له. فعلى الملائكةِ الكِرامِ العبادةُ وهي مهيأة لهذا كونُها معصومةً عن الخطأ، وعلى الإنسانِ التعلم في أمورِ الكونِ وهو مهيأٌ لهذا لقدرته على التعلمِ من خلالِ الخطأِ والتجربةِ والمُعاناةِ ...





إنَّ الصافات في قوله تعالى:



وَالصَّفَّتِ صَفّاً {1} فَالزَّجِرَتِ زَجْراً {2} فَالتَّلِيَتِ ذِكْراً {3}


هنَّ أصابعُ يدِّ الإنسانِ الأربعةِ المُتوازيَّةِ ... فهنَّ صَّافَّاتٍ صفاً ومتوازياتٍ ...



وهنَّ الزَّجِرَتِ: فالإنسانُ يَزدَجِرُ باستخدامِ أصابِعِه فيُشيرُ بِسبَّابَتِه إلى المُزدَجرِ ويُغلقُ بالإبهامِ على الوُسْطى والإصبعين الصَغيرين كما هو مُعتادٌ ... واسمُ السبَّابةِ مُشتقٌ من السبِّ والزجْر ...



وهنَّ "التَّلِيَتِ ذِكْراً": فنستعملُ الأصابعَ عند الذِكرِ والتشهُدِ والتسبيح ... فالأصابعُ كِتابٌ يَتلوا ويَشهدُ بأنَّ اللهَ "لَوَاحِدٍ" ...



ثم أيضاً فيما بعد من سُورةِ الصافات ...



وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ {164} وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ {165} وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ {166} ...



فكُلُّ إصبعٍ له مكانٌ مَعْلومٌ ووظيفةٌ وقدرةٌ معْلُومةٌ .... وهم صافُّونَ مرصوصونَ بالتوازي .... وهم أيضاً المُسَبِّحونَ ... سُبحَان اللهِ والحمدُ للهِ واللهُ أكبرُ ....



وكذلك: فالنازعات في قوله تعالى هي أيضاً أصابع اليد:



وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً {1} وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً {2} وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً {3} فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً {4} فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً {5}



وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً: مَن منكم لم يُضطرْ يوماً لإنقاذ غريق؟ أو على الأقل يَعرفُ قريباً له أَنقذَ أو أُنقِذَ من الغرقِ؟ هي لَحظاتٌ غَايةٌ في الحَرَج عندما يرى المُنقِذُ والمُنقَذُ الموتَ رأي العين ...



حسناً هل يمكنُ إنقاذُ – نزعُ - إنسانٍ من الغرقِ بدونِ أصابعَ تقبضُ بِقوةٍ بيدِ الغريق أو بشيء من ملابسه؟



فاليدُ والأصابعُ آياتٌ من آياتِه، بل هيَ أقربُ الآياتِ إلينا ... وهذه الأصابعُ هي النازعاتُ غَرقاً تنزِعُ الغرقى من تحتِ الماءِ ... فنراها ونستعمُلُها في كُلِّ الأوقاتِ ... في الشِدَّةِ والرخاءِ .... لهذا وَجَبَ الشُكرُ عليها إذاً ...



بل إنَّ الإنسان يتميزُ بصفة "النزع" هذه من دون مخلوقات الأرض. فمن المعروف عنه – والفضلُ لأصابعه – القدرة الفائقة والدقيقة لإنقاذ غيره سواءً من الغرق أو غيره بينما تبقى الحيوانات الأخرى على مختلف أنواعها عاجزةً عن فعل ذلك، بالرغم من قوتها وبُنيتها العظيمة.


فتجدُ، على سبيل المثال، أنَّ قطيعاً من الثيران الإفريقية العملاقة يقف عاجزاً عن إنقاذ صغيرٍ له وقع في المستنقعات إذ لا توجد عند القطيع أداة مثل يد الإنسان لنزع الغريق من المستنقع ...



أمَّا ما يُقالُ بأنَّ النازعاتِ هم الملائكةُ تنزِعُ الأرواحَ وقتَ المماتِ فليس بالآية المقصودة. فالآيةُ يجِبُ أنْ تُرى وتُدركَ بل وتُستعملَ كما هي حالُ أصابعَ اليد ... فهي أمَامنا طِوالَ الوقتِ ... ونحنُ بحاجةٍ لها طِوالَ الوقتِ




وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً:

والأنْشُوطةُ هي الرَبطةُ أو العقدةُ وانْتشَطَ الشيءَ: جَذَبَه ونَزَعَه والمعنى هنا أنَّ أصابعَ اليدين تربطُ وتعقدُ جُزءاً من الغريقِ أو من ملابِسِهِ لتنزعَهُ وتجذبَه جذباً ...


وَالسَّبِحَتِ سَبْحا:

وهل يسبحُ الإنسان إلَّا بيده؟ فبعدَ جَذْبِ الغريقِ تتمُ السِباحةُ باليدينِ والأصابعِ به إلى برِّ الأمان ...


فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً:

ثُمَّ يُسرعُ المُنقِذُ بالغريقِ إسراعاً ليصلَ به إلى برِّ الأمانِ قبل فواتِ الأوانِ ... فهو يَسْبِقُ الموتَ سَبقاً ...


فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً:

وأخيراً وبعد الوصولِ إلى شاطئِ الأمانِ، فإنَّ اليدينِ تعملانِ ما يلزمُه الأمرُ لتدبيرِ عَمليَّة ِالإنقاذِ، كقلبِ الغريقِ على بطنهِ ورفعهِ من وسطهِ لإخراجِ الماءِ ... فهي أي الأصابعَ التي دبرتِ الأمرَ كلَّه ... ولِذَا وجبَ الشكرُ لله ، والتفَكُّرُ في هذه الآيةِ، آيةَ اليدِ ...



وكذلك:

وَالْمُرْسَلتِ عُرْفاً {1} فَالْعَصِفَتِ عَصْفاً {2} وَالنَّشِرَتِ نَشْراً {3} فَالْفَرِقَتِ فَرْقاً {4} فَالْمُلْقِيَتِ ذِكْراً {5} عُذْراً أَوْ نُذْراً {6} إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَقِعٌ {7} ...



المرسل هو الحُر الطليق، فيقال أرسلت الطائر من يدي. ومنه شِعْر مُرسل أي لا يتقيد بقافية واحدة، واسترسلَ أي تدلى، ورَسْلٌ أي فيه لين واسترخاء وسهولة وتمهل وترفق فيقال سَيْرٌ رَسْل أي سهل. والمرسال هو الرسول. فمن هذه التعاريف تكون " وَالْمُرْسَلتِ عُرْفاً " في الآية الكريمة هي أصابع اليد الخمسة لأنها حرة طليقة سهلة الحركة لينة ورفيقة ...



وهنَّ معروفاتٌ عُرفاً للجميع ... فهنَّ أمامُ ناظريك أينما ذهبتَ، ومهما فعلتَ ... بل إنَّ أصابعَ اليدِ تتميزُ في شكلِها وتختلفُ عما سِواها بنفس تميزِ "عُرْفِ" الديكِ واختلافِه في الشكلِ عمَّا سِواهُ ...



ومن معاني العُرْفِ أيضاً هو التتابعُ، فيقالُ "عُرْفُ الفرسِ" بمعنى تتابعِ الشعرِ بعضه ببعضٍ، ويقالُ: جَاءَوا عُرْفاً واحِداً، أي يَتْبَعُ بعضُهم بعضَا. وبهذا يكونُ معنى: وَالْمُرْسَلتِ عُرْفاً أي الكُتبِ المَعروفةِ التي هي أصابعُ اليدِ والتي يَتبعُ بعضُها بعضَاً (خنصر، بنصر، وسطى، سبَّابة، إبهام) ....


فَالْعَصِفَتِ عَصْفاً:


والعصفُ هو الإهلاكُ ... وهل أهلكَ الإنسانُ إلَّا ما قدمتْ يداهُ؟ وقد وَرَدَ الوَعِيدُ "وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" 10 مراتٍ في سُورةِ المرسلات وذلك إنذارٌ عظيمٌ بعددِ أصَابِعِ اليدين ...




وَالنَّشِرَتِ نَشْراً:

والأصابعُ مَنْشُوراتٌ نَشراً ... وقد كُنَّ موصُولاتٍ في رَحْمِ الأمِّ أثناءَ بدايةِ الحَملِ (كما هو معْلُومٌ للأطباءِ ومُشاهدٌ من الصورِ الحديثةِ المُبيِّنةِ للمراحلِ الأوَّليَّةِ لتكوِّن الجنينِ داخل الرحم) ثُمَّ نُشِرت تدريجياً إلى خمسة ...




كذلك فإنَّ مقارنة يد الإنسان بأيدي معظم الحيواناتِ تُبينُ أنَّ أصابعَ الإنسانِ تتميزُ بتفرقها (نشرها) عن بعضِها البعضِ، وهذه الميزة جعلته قادراً على عمل أشياءَ كثيرة تعجزُ عنها الحيواناتُ، كما هو معْلُوم ...


فَالْفَرِقَتِ فَرْقاً:

وهنَّ مُفَرقاتٌ عن بعْضِهنَّ البعض فَرْقاً في الشكلِ والوظائفِ والقدراتِ ...


فَالْمُلْقِيَتِ ذِكْراً:

وهنَّ الذاكراتُ والمُسَبحاتُ والحَامِداتُ والمُهللاتُ ...


عُذْراً أَوْ نُذْراً:

وهنَّ يَعْتذرنَ ويَسْتغفرنَ ... فأنت تشيرُ بالسبَّابةِ وتقول: لا إله إلَّا أنت سبحنك إنى كنت من الظلمين ...


وهنَّ المُنْذِراتُ ومنهنَّ السَبَّاباتُ ... فتشيرُ بالسبَّابةِ وتُنذِرُ وتزْجُرُ ...





وكذلك:

والذَّرِيَتِ ذَرْوَاً ... فالحَمِلَتِ وِقْرَاً ... فَالجَرِيَتِ يُسْراً ... فَالمُقَسِّمَتِ أمْراً ... إنَّمَا تُوعَدُون لصَادِقٌ {1 – 5}


والذَّرِيَتِ:

ذَرَاَ – ذَرْوَاً أي طَارَ في الهَواءِ وتفرقَ ... ذَرَّ : أخذَ شيئاً بأطرافِ أصَابِعِه ثُمَّ نثرَهُ وفرَّقهُ. ومنه ذرَّ مِلحاً على الطعام وذرَّ الحَبَّ في الأرض ... فـ "الذَّريت" إذاً كما هو في اللغةِ أصابعُ اليدِ تذْروا الأشياءَ الخفيفةَ ذَرَّاً ... ونحنُ نفعلُ ذلك عند كُلِّ طعام ... نَذُرُ الملح ونَذُرُ السُكر وما إلى ذلك من الأمور ....


والمقصودُ تحديداً أصابعُ اليدينِ تذرُ البذورَ في الأرضِ للزراعةِ ... فتمَّتْ بهذا الحِكْمةُ من تذْكِيرِ اللهِ تعالى بنعمةِ الأصابعِ التي نراها ونستعملُها في جميع الأوقاتِ ... وتمَّ بهذا التذْكِيرُ والحُجَّةُ والحِكْمة البالغة ....



فالحَمِلَتِ وِقْرَاً:

الوِقرُ هو الثُقلُ ... فالحاملتُ وِقراً إذاً الأصَابعُ تُمسِكُ الأحْمَالَ والأثقالَ .... وهل يحملُ الإنسانُ شيئاً إلَّا بيديه وأصابِعِهِ؟ والمقصودُ تحديداً الأصابعُ تحْمِلُ الماءَ في الأوعيةِ المُخَصَصَةِ لِسَقيَ الزرعِ ... والإنسان وبالرغم من ضعفه الشديد جسدياً مقارنة بالحيوانات إلا أنَّه يستطيع – بفضل يديه – حمل أوزان ثقيلة لا تستطيعها الحيوانات ... فلو وقع ثور ضخم في حفرة فلن يستطيع كامل القطيع على إخراجه منها بالرغم من قوتهم الهائلة بينما يتمكن الإنسان من ذلك بيسر كبير بفضل يديه ...


بل قد جاء ذكر أنَّ أصابع يد الإنسان ما هي إلا كتاب بصراحة شديدة في مطلع سورة الطور:



وَالطُّورِ {1} وَكِتَبٍ مَّسْطُورٍ {2} فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ {3} ...



فالمقصودُ بـ : {وَكِتَبٍ مَّسْطُورٍ} هو أصابعُ اليدِ الأربعةِ ... فإذا أمعنتَ النظرَ إلى أصابعِ اليدِ من قُربٍ تجدُ أنها مَسْطورةٌ بخطوطٍ مُستقيمةٍ دقيقةٍ ... ومن العادات المعروفة عند جميع الناس والأمم "قراءة الكفِّ" كما لو كان الكف كِتاباً، بغض النظر عن مشروعية قراءة الكفِّ أو عدمها ...



فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ:

وهذا الرَقُّ هو الأناملُ الرَقيقةُ وقد كن موصولاتٍ في رَحمِ الأمِّ أثناءَ المراحلِ الأوَّليَّةِ لتكوينِ الجنين ثُمَّ نُشِرنَّ تدريجياً إلى خمسةٍ أصابعَ. فاسم "الأنامل" الذي يطلقُ على أصابع يد الإنسان مشتقٌ لغة من الخفةِ والرشاقةِ ودقة الحركة.

فالأصابع رقيقة دقيقةٌ سريعة الحركة (كما هو النمل) ليس بالفعل وحسب، بل باسمها أيضاً. وهنَّ منشوراتٌ إلى خمسة كما تراهنَّ أمام ناظريك طوال الوقت وبهذا فهنَّ "الرِّق المنشور" ...


كما إنَّ الأصابع متصلة وليست "منشورة" عند معظم الحيوانات، فلا تستطيع استعمالها وتوظيفها كما هو حال الإنسان، ولهذا وجب الشكر إذ يمكنُ توظيفها بشكل أحسن عند الإنسان ليقوم بأعماله المختلفة التي من أجلها خلق واستخلف كما فصلناه آنفاً.


والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على آخر المرسلين سيدنا محمد المصطفى
وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين