منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 4 من 4

العرض المتطور

  1. #1

    أعلام من بلدي ( 1 ) - سعد الله الجابري -

    سعد الله الجابري وحوار مع التاريخ (أوراق مضيئة) ـــ رياض الجابري



    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    المقدمة

    الحوار مع التاريخ شاق... عسير... فنحن لا نستطيع أن نعيده ونسترجعه لنناقشه، إلا من خلال ما كتب عنه أو قيل.‏

    ثم إن التاريخ حركة دائبة هادرة، متغيرة غير ثابتة... تنتابها انفعالات اللحظة الحاسمة التي تسقط فيها خطا الموقف لتسجل في التاريخ.‏

    وهكذا يصبح عالم الأمس... عالم الآباء والأجداد، عالماً تتلاشى فيه بعض الحقائق، وتحرّف حقائق، وتطمس حقائق، وتزول الألوان... فالكل باهت، ويزول ما رسمته يد الأيام...‏

    بيد أن صدق مواقفنا في واقعنا المتغير، ومن خلال أمتنا العربية وحرصنا على جيل يترعرع في عهد سريع التغير، وإدراكاً لواجباتنا الوطنية وحسّنا القومي الذي يمدّنا بمعنى الانتساب إلى الوطن، كل هذا يحفزنا لدرس أعمال رجالنا الأبطال الذين قضوا وتركوا لنا ما نتعظ به في التاريخ، ثم سبر حياتهم لنزداد إيماناً بحبنا وتعاطفنا مع وطن وشعب، ولنخلق في روح الجيل وضميره إحساساً بالاعتبار والتمسك بالجذور التي تثبت النبتة في أرضها والفرد بقومه وهو يحمل مسؤولية المستقبل، وتراه بأشد الحاجة لمعرفة السبل الرشيدة التي تصل به إلى شاطئ العزة والكرامة الإنسانية.‏

    إن تفكيرنا الصحيح في مستقبل الأمة العربية، وحرصنا على مستقبلها الوطني يحفزنا إلى دراسة أعمال رجالنا وأبطالنا وبعثها لنزداد مضاءً في العزم، وثباتاً على المبادئ الوطنية ولنخلق لدى النشء الطالع إحساساً بالقدرة والاعتبار وتواصل العمل النضالي.‏

    من هذا المنطلق، نفتش عن أبطالنا في ثنايا تاريخنا، في ماضينا وتراثنا، الذي اكتسب بعض الثبات في المواقف، بينما الحاضر لا يملك هذه الصفة إلا عندما يصبح ماضياً، نفتش في ثنايا التاريخ منذ أن وعيناه جهاداً ومقاومة، أي منذ نهاية الاستعمار...‏

    وقد نبحث كذلك، عمن كانت على يده هذه النهاية لنراه في شخص سعد الله الجابري، مع نخبة من أصدقاء الدرب وحاملي المشعل، والذين يُعدون بحق أبطالاً تفخر بهم الأمة العربية من محيطها إلى خليجها...‏

    ولما كانت لشخصية سعد الله الجابري صفات القيادة والريادة، والإخلاص المطلق لمبادئه، فقد وقع اختيارنا على هذا الشاب المنطلق، والذي كان الجريء الحلبي الأول الذي لم يتسلل الخوف إلى قلبه مطلقاً، والذي بدأ نضاله الوطني وهو لا يزال على مقاعد الدراسة في الآستانة (تركيا).‏

    يقول باتريك سيل(1) Patric Seal:‏

    "إن سعد الله كان أشجع رجل في الكتلة الوطنية وأكثرهم استقامة".‏

    ولئن كان تاريخ الأمم هو من تاريخ رجالها، فرجل سورية ـ سعد الله ـ قد ارتبط بالحركة القومية العربية منذ نشأتها، ولا ينكر الشعب السوري والعربي على امتداد أبعاده، أن سعد الله الجابري كان صاحب كلمة، وصاحب قرار، وصاحب رأي في المواقف السياسية الحاسمة. ولهذا فنحن في حوارنا مع تاريخ رجل، سنصل إلى رجل تاريخ، تاريخ حيك نسيجه بالوطنية وتشابكت خيوطه بالإخلاص والصبر والثبات، وأهم ما في هذا التاريخ أنه فتح باب القضية العربية بوحدة تخلق القوة وتكون أكثر خلوداً من الحضارات....‏

    رياض الجابري‏

    حلب/ سورية‏

    (1) باتريك سيل ـ الصراع على سورية. Patric Seal - The Struggle of Syria.‏___________________________________________ ______________________


    كيف أرسم صورة الجابري؟

    1894 – 1947

    ما فكر إلا في بلاد الشام وطنه الصغير

    وبلاد العرب وطنه الكبير

    "ما كان لنا أن نختار عندما فرض علينا الانتداب، ولكن كان لنا الاختيار أن نحاربه حتى نقضي عليه، وقد فعلنا ما يقضيه علينا الواجب الوطني".

    سعد الله الجابري

    إذا كانت الأنثروبولوجيا الحديثة، تحاول رسم صورة الشعوب والأشخاص، بخطوطها الكبرى عبر التاريخ، فسأحاول في دراستي هذه أن أرسم صورة الجابري عبر تاريخه لأبيّن معالمها وأخرج مواقفها شفافة صافية، وأحاورها بصدق في ضوء الأحداث الوطنية التي عاشها، والمرحلة الحاسمة والفاصلة بين استعمار واستقلال...

    وسوف أدخل على الجابري من باب التسلسل الزمني لحوادثه، علّني أشرح التوافق البطيء أو التنافر بين الأشياء والزمن، وسأواجه سعد الله من خلال منعطفات حياة تركت بصماتها في نفسه وأثرت في سلوكه وتجلّت في تعامله مع الناس، وبرزت صريحة واضحة في مواقفه الوطنية، وتلك نتيجة طبيعية لوجود وشائج قربى شبكية بين الجابري ونشأته.

    وهذه الدراسة تدعوني لأن أشرح بعض المواقف والظروف العائلية والنفسية التي تهم الموضوع، والتي أحاطت بالجابري وأنشأته على إحدى الصور، ولهذا تعد هذه الدراسة خارطة نفسية للمشاعر الوطنية التي حفرت فيها قنوات ورسمت الطرق التي سلكها سعد الله، ثم اقتادته بحكم إرادة الوجود، وخلال السهول والجبال الشاهقة التي يتألف منها مجرى التاريخ الخالد، وذلك منذ ولادته وحتى وفاته عام 1947، وما رسمته من تخطيط وطني تجلّى في انتزاع الاستقلال من براثن الاستعمار.

    ولهذا سيكون حواري مع التاريخ سنة إثر سنة حيث تتواصل الحوادث لتكشف عن جذور الحدث في تمددات الواقع الذي يبتدئ قبيل القرن التاسع عشر وحيث كانت البلاد العربية، كلها، عالماً غير مستقر، كما يشير التيليسكوب التاريخي الكبير، والذي هزّ العالم العربي كلّه، لأن هذا الوطن كان بوابة العالم ومصدر الطاقة.

    من هو الجابري...؟

    في يوم من أيام 1894 استيقظ حي (السويقة)، في قلب مدينة حلب في سورية، على صرخة طفل جميل، سماه والده (سعد الله).

    وإذا كان الطفل عادة يولد مرتين: الأولى ولادة بيولوجية عضوية، والثانية ولادة ثقافية، يتحوّل فيها إلى كائن ثقافي وأخلاقي، فنحن سوف ندرس الولادة الثقافية والأخلاقية من خلال المناخ الأسري الذي عاشه ومن خلال المناخ البيئي الذي أثر في إكسابه جزءاً من شخصيته.

    وإذا كان الأطفال يرضعون الحليب منذ أول صرختهم. فهم يرضعون من ثقافة الأسرة، والأم خصوصاً، كما يرضعون من ثقافة المجتمع شيئاً فشيئاً ومن خلال امتصاصهم التاريخي بعض عناصر البيئة.

    وتأثرت (أنا) سعد الله بالبيئة الاجتماعية بجميع أطرها المتداخلة وذلك من الإطار الحضاري العام إلى الإطار الأسري الخاص.

    المناخ الأسري:

    حبا سعد الله الطفل في جو عائلي جيد، فالنسيج التربوي والثقافي المتمثل بعناصر عائلته، ثم الحقائق والآراء والأفكار والأحاسيس والاتجاهات قد انتقلت في معظمها إليه، بعد أن اختار منها ما يناسب نفسه ويرضي منطقه، على مدى الأيام.

    ونما سعد الله في ظلال وارفة، عطف أبيه الحاج (عبد القادر لطفي الجابري) مفتي حلب، ووالدته السيدة (حسنى ملك) وهي شركسية الأصل، والتي حضنته حباً وأكسبته رهفاً في المشاعر، كما أسهم والده في إغناء شغفه بوطنه وإحساسه بقومه.

    وتربية الطفل عادة تنبع من نبعين اثنين: الفطرة، والتربية أو الوراثة والاكتساب، بيد أن العامل الفطري عند سعد الله، واستعداداته النفسية الأولى، قد تغلّب على الاكتساب، وبمعنى آخر، إذا كان الماء يأخذ شكل الإناء، والإنسان يطبع بالمكان، فإن المكان الذي درج فيه، قد كان لـه مفعوله، ولكن طغيان العناصر الذاتية، كان أشد وضوحاً عنده.

    وبرزت عناصر الصدق والأمانة والإخلاص في مسلكه، ونشأ وهو يحمل شعوراً غنياً بالحب لقومه وشعبه وعروبته منذ صغره. وهذا دليل على أن روحه قد أشبعت وامتلأت بحب الله والوطن وغمر جوانحه ونفسه، ثراء العاطفة ومسؤولية المستقبل والمصير، لأنه منذ إيقاع حياته الأولى عبّر عن مشاعره وهواجسه الوطنية، كما سنرى.

    تروي قريبة لـه، (وهي مصدر ثقة كبير) أن سعد الله كان في السابعة من عمره عندما كان يتقد وطنية ويتفجّر، قالت: "في يوم كانت أمه تحتضنه في حجرها حباً ورعاية، فما كان من سعد الله بعد صمت طويل وهو يتأمل وجهها سوى أن تأوّه من أعماقه وقال: "(أماه ليتك كنت عربية)".

    في السابعة وهو يحمل هذا الشعور المتقد وطنية، وهذا الوجدان الملتهب حماسة في السابعة حيث الطفولة تسيطر على كيان الطفل، ولا تترك متسعاً من الوقت إلا للعب واللهو، كان سعد الله يطرق باب عالم آخر هو عالم الرجال، عالم عاشه قبل الأوان. وراح اليافع ينمو... ويترعرع... ومظاهر النباهة والزعامة القيادية والاستقامة تسيطر عليه في أكثر مواقفه، وبين رفاقه، حتى إن أكثر انفعالاته قد استخدمها استخداماً بناءً أفاد منها فيما بعد تجاه وطنه، وذلك عندما احتقر الشهوات، وجابه الألم والحرمان، وهو يتطلع إلى هدف وغرض رفيع...

    كان والده عبد القادر لطفي الجابري رجلاً عصامياً، يعمل بشكل متواصل ليستطيع أن يعيش جيداً ويؤمن حياة أولاده التسعة وزوجتيه الاثنتين...

    ودارت الأيام... ومات والده ووالدته... وعاش وحيداً في داره، منعزلاً متفرغاً إلى قراءاته واتصالاته مع شلة من الأصدقاء، كان يرى فيهم بريقاً وطنياً وطموحاً لتحقيق استقلال البلاد التي كان يحسها تئن وتتلوى تحت نير الاستعمار العثماني...

    وإذ يخلو إلى نفسه كان يتوجه بكل قلبه إلى النور الذي ملأ وجوده إلى نور الله حيث يصلي ويطلب الرحمة لوالديه، والكرامة والعزة لشعبه ووطنه. وكان يقرأ القرآن الكريم الذي كان يدعو الناس إلى النظر في الأرض والسماء، في الأحياء وفي أنفسهم... بحثاً عن آلاء الله.

    كان مؤمناً بصدق وإخلاص رغم تكيّفه مع عصره وولوعه بأحدث الأزياء توخياً لأناقة اشتهر بها.

    لم يتزوج، وكأنه منذ صغره يثير (قلق) مطلب السعادة الأعمى، مطلب إرضاء الغرائز الحيوية الضيقة، حتى قال فيه أصدقاؤه الشعراء:

    قال الشاعر بدر الدين الحامد:

    لم تُلقِ بالاً إلى الدنيا وزخرفها
    ولم تُرِد متعاً من لذةٍ ودَدِ

    كما قال الشاعر عادل غضبان:

    ذهب الذي وقف الحياة على هوى
    وطنٍ نماه، فعاش في العزّاب

    وكأن سعد الله كان يوازن في (شعوره ولا شعوره) في إعطاء كيانه ووجوده إلى وطن وأرض أو إلى أسرة وأولاد، وغلبه حب الوطن وشغله عن كل أمور الشباب من لهو ومال ونساء... فليست حياة اللذة والاستمتاع بالعالم كلَّ شيء في الدنيا. وانصرف إلى تعبئة نفسه لإعطائها كاملة إلى الوطن، وربما كانت أكثر أمواله التي ورثها عن أسرته تصرف على قضية وطنه، فالوطن هو الكرامة وهو الحرية وهو الحب.

    من هذه الينابيع الأعمق، التي تتيح لكل فكر أن يلقى معناه وتبريره، استمد سعد الله الجواب عن المسائل الأساسية في الحياة والتي تتوجها (عزة الوطن).

    المناخ الاجتماعي:

    تنفذ آثار البيئة إلى النفس وتؤثر في نضجها ونموها وسرعة ارتقائها، كما أنها تعين إيقاع ارتقائها إلى الصفات العامة للشخصية.

    وكان أن وُلِد سعد الله في أحضان القلق الاجتماعي والاضطراب السياسي والذي كان وراء آلام معاناة شعبه الأعزل المقهور.

    وكبر سعد الله وصحا على ما كان يحيطه من اجتماعات واتصالات تقوم بها عائلته لاسيما أخوه الكبير فاخر الجابري، حيث كان يجتمع مع رجالات البلد في داره في الأنصاري أو في (قناق) الشيخ عبد الحميد الجابري في السويقة، حيث كان (الليوان) يضم الوطنيين كما أن تنقلات أخيه الكبير إحسان الجابري وسفره مع بعض رجالات السياسة من أجل قضية الوطن قد أغنت مشاعره الوطنية وعبّأتها.

    شهد سعد الله كيف كان (الليوان) يضم العديد من بيت الجابري في حلب "إذ إنها كانت أكبر عائلة حلبية وأوسعها سلطة"([1]). وكان أكثر أفرادها رجالاً ونساءً يحملون في قلوبهم الشعور الوطني الصادق. وفي اجتماعاتهم اليومية كانوا يتداولون في أمور البلاد وما آلت إليه الحال من استبداد السلاطين وملاحقة الوطنيين والمفكرين.

    كان سعد الله يحضر معظم هذه الاجتماعات، ويصغي بانتباه شديد إلى ما يدور فيها ويلتقط كل خبر، ويمتلئ بذلك إحساسه بالقهر الشديد من حلم جائر، في الوقت الذي يزداد فيه قوّة ومضاء في سبيل خدمة وطنه.

    وكان ينزعج أشد الانزعاج للسياسة التي يطبقها السلاطين في حق الأفراد السوريين والعرب، وامتلأ قلبه الكبير بالتصميم على محاربة الظلم بأية وسيلة كانت، وتلوّنت اتصالاته الجماهيرية بمواقف التفاعل بينه وبين أفراد عائلته التي تشهد الاجتماعات الوطنية، وبين عدد كبير من الأشخاص، وفي هذه الاتصالات كلّها كانت قضية تحرير الوطن تتوج هام الجهاد.

    المناخ السياسي:

    كانت سورية واحدة من أعظم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، وكانت ملتقى الحضارات ومهد الديانات، وفي نهاية القرن العشرين اعتراها التغيّر وتطورت أوضاعها السياسية منذ تقلبها في أحضان استعمار عثماني ثم فرنسي، وكادت تفقد هويتها وتنسحق ذاتها لولا مبادرة بعض الوطنيين من رجالها.

    كما كانت سورية جزءاً من الوطن العربي، الذي كان يرزح تحت اجتياحات الدول الأجنبية منذ انهيار الخلافة الإسلامية، فقد انحسرت كل حضارة، وأصبحت في عصر انحطاط علمي وسياسي وثقافي، تفاقم التخلف الحضاري ووقفت عجلة الازدهار والكسب وتقوقع كل تقدم.

    وساد الاستعمار العثماني الذي اشتهر بضغوط كثيرة سوف نراها، وكان استعمال القسوة والسحق والنفي والتشريد ووسائل القمع الفردية والجماعية، حتى استكان الشعب للهوان.

    وراح العرب يسعون إلى تأليف جمعيات سرية داخل وخارج نطاق الوطن العربي في بغداد واستنبول والقاهرة وباريس... لإنقاذ البلاد، بعد أن لجأ الأتراك إلى سياسة التتريك في كل مظاهر الحياة بأساليب قمعية وجائرة وقام كتاب وطنيون يجاهدون من خلال قصائدهم لاستثارة الحماس وإلهاب المشاعر وتقوية الحماسة والروح الوطنية.

    وهكذا انصرف سعد الله في هذه الأجواء نحو الجهاد.

    دراسته:

    في هذه الأجواء المحيطة القاتمة التي ذكرت؛ راح سعد الله يدرس في مدرسة الرشدية الثانوية، وقد لاحظ كيف انحبست الروح الوطنية في صدور بعض المدرسين الوطنيين الذين لم يستطيعوا أن يعلنوا عن نواياهم في سبيل الجهاد ضد موجة التتريك المنتشرة في جهاز التعليم.

    وكرّس جهوده في دراسته حتى استطاع أن يبرز ويتفوق ويتخرج مبكراً وبعد الدراسة الثانوية ذهب إلى الآستانة (استنبول) والتحق بالكلية الملكية السلطانية ليدرس الحقوق. وإلى جانب دراسته، كان يراقب بعين بصيرة وعن كثب، ما يدور في أجواء السياسة التركية، والتي كانت وراءها جماعات يهودية غنية متمكنة من قوتها المادية وحنكتها السياسية، والتي كانت تحلم بشراء الأراضي العربية... وراح سعد الله يتابع هذا الموضوع، وهو مقهور الشعور، وعلم أن المستشرق الهنغاري (أرمينوس فامبيري) وكان صديقاً حميماً للسلطان عبد الحميد الثاني، هو الذي رتب لـ(تيودور هرتزل) لقاءه مع السلطان عبد الحميد سنة 1901، حيث عرض عليه فكرة شراء فلسطين وهجرة اليهود إليها، كما نصح القوميين الأتراك بضرورة التخلي عن الإسلام، لأنه ينزع عنهم شخصيتهم القومية.

    وهكذا لمس سعد الله الأجواء لاسيما تلك التي خلقتها جمعية الاتحاد والترقي منذ عام 1908، والتي كان وراءها اليهود الذين عبثوا في أمن البلاد وتدخلوا في شؤونها سراً، وشكلوا جمعيات كثيرة، حتى أن اليهوديين: (نسيم روسو، ونسيم مازلياح) كانا من العناصر المؤسسة والفعالة في حركة (تركيا الفتاة) التي عرفت بأنها (حصان طروادة الماسوني)([2]).

    على الرغم من القهر من السياسة (التركية اليهودية) والتي تستهدف البلاد العربية وفي مقدمتها سورية، فقد مضى في دراسته بجد ومثابرة، ولعل أقرب الأشخاص إليه هو الذي يستطيع أن يصفه بتجرد وكان هذا الشخص صديقه العراقي (توفيق السويدي) زميله الذي وصفه بموضوعية بعيدة عن كل غاية يقول: "عرفته عام 1910 وكان شاباً يلتهب حماسةً ويتدفق فطنة، كان يميل إلى الدعابة ويستلطف النكتة، ولكنه كان منصرفاً بكليته إلى الدرس والمطالعة. وشغوفاً بالأدب عامة وبالشعر خاصة، وكان ميالاً إلى التجدد في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وعلى قدر عظيم من الكياسة على الرغم من صغر سنه، كما كان طموحاً إلى العلا، فكأنه أدرك، منذ صغره، أنه مدعو لتحمل عبءٍ عظيم بعد ذلك في سبيل وطنه".

    في عام 1912 وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره، اتصل بالشباب العرب وأسسوا (الجمعية الفتاة) وأقسموا اليمين للعمل على استقلال البلاد العربية، ولاسيما وهم يرون نزاع (الرجل المريض) ويرون كيف برزت أطماع دول في غزو واستلاب بلاده وأرضه الواسعة الأبعاد وكيف انكشف قناع الاستعمار وتعرى باطله.

    ومضى مع رفاق الطريق، وزاد في حماسته موقف أخيه الكبير إحسان الجابري، الذي كان يحضر المؤتمر العربي في باريس عام 1913.

    وبقي تحرير البلاد العربية هو الأمل الأول عنده، بل هو الحلم والهدف الأسمى...

    عاد إلى حلب بعد تخرجه من المدرسة الملكية الشهيرة، وراح يعيش في قلب العواصف السياسية الكبرى، ولمس بمشاعره رغبة المستعمرين سواء أَكانوا أتراكاً أو فرنسيين أو بريطانيين، في السيطرة على بلاده الخيرة والغنية، أمام ضعف السلطة وتخاذل المسؤولين.

    ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 1922 كان يجري التلاعب بمصير الوطن العربي، ومن جانب تركيا بشكل خاص، ولاسيما بعد توديع استنبول آخر سلطان عثماني.

    وأراد سعد الله الجابري أن يشكل نواة من القوى الوطنية لمحاربة الاستعمار، فجدد اتصالاته بمن كان معه في الكلية، ومنهم شكري القوتلي وغيره من العناصر الوطنية، ولم يهرب سعد الله من واقعه، إنه فكر حر لا يتيح للمرء أن ينطوي على ذاته.

    وفي هذا العمر، وقد تفتحت شخصيته ونضجت؛ وتوازنت مقوماتها وسمت، وثبتت دعائم طباعها واستقرت، نستطيع أن نرسم بوضوح أطر الكيان الخالص، الروحي والنفسي لسعد الله وانعكاس ذلك في سياسته.

    صفاته الشخصية:

    1ـ مظهره: كان جميلاً حسن الهيئة أنيق المظهر، يصفه بعض معارفه: أن سعد الله كان أنيقاً في الكلام واللباس. وعلى الرغم من مظهره الجاد أو (الجاف) أحياناً، فقد كانت الحيوية الفياضة تشع من حركاته، فإذا تكلّم تكلمت الحياة فيه.

    2 ـ ذاته: من أبرز صفاته التي تنبع من نفس شفافة صدق وطنيته وإخلاص جهاده ورائع شجاعته، إذ لم يكن يخشى شيئاً ولم يحس بالخوف في أي موقف في حياته، لأن الخوف شعور بالموت المعنوي، ولذا لم يجد الخوف منفذاً إلى أعماله أو طريقاً إلى كلامه أو سبيلاًَ لتعامله. وكان ذا حساسية مرهفة جعلته يرى الأخطاء حوله ويحس بالالتواءات الاجتماعية ويرى الاعوجاج في كثير من المواقف، ويتجلى تذبذب الأشياء بين القيم لتضارب ما يرى وما يشعر وهنا كان القلق يتجسد في نفسه تجاه وطنه ومعاناة شعبه من ظلم المستعمرين وبطش السلاطين منهم، وهذا ناتج عن وعيه بمصير بلاده العربية.

    يصفه محمد علي علوية باشا: "أما الخلق فكان مثال الرجولة في الوطنية، والتواضع وعزة النفس وعفة اليد واللسان، كان هادئاً لين الطبع، لا هدوء الكسل ولا لين الاستخذاء، بل هدوء الشفيق الرحيم ولين الوادع الكريم"([3]).

    أما عفة اليد والنزاهة، فيذكر أنه قد أعاد إلى خزينة الدولة مبلغ /6/ ستة آلاف ليرة سورية زادت عن مصروف الوفد السوري الذي ترأسه إلى الإسكندرية لاجتماع وتأسيس الجامعة العربية، في الوقت الذي مرض فيه وهو على رأس عمله، فدخل مستشفى المواساة في الإسكندرية، وخرج مديناً بما يزيد عن /12/ ألف ليرة سورية، ولم يسمح لنفسه أن تمتد يده إلى المال الذي فاض عن حاجة الوفد.

    إنها كبرياء النفس..... وقد قال فيه عمر أبو ريشة:

    في محاريبك الوضيئة تغفو
    كبرياء الآباء والأجداد

    3 ـ جرأته: لم يسكت عن الحق، وهذا ما جعله جسوراً في تنفيذ خططه، ونظيفاً في رأيه ومخبره، ونظافة النفس واليد والسمعة تكسب الجرأة في كل موقف.

    وكان في جميع المحافل الأجنبية مثال الرجل الجريء في صراحته، القوي في حجته، الصلب في حق وطنه وأمته: "وبجرأة سعد الله وإقدامه وصراحته وتضحيته استطعنا أن نسترد الاستقلال من غاصبيه، وتمكنا من السير بالقضية العربية، خطوات إلى الأمام"([4]).

    وتلك الجرأة أودت بسعد الله إلى المنفى والسجن، كما حصل في محاكمة الزعيم هنانو، تلك الجرأة كلفته غالياً عندما نفي في سبيل عقيدته، وفي سبيل إيمانه بضرورة تحرير البلاد من كل ضغط أجنبي ونير استعماري.

    والواقع... كان سعد الله يعيش بصدق في مركز الحوادث السياسية، حيث تلعب فيه مشاعره وتتفاعل، وترفعه من مستوى الحياة اليومية إلى مستوى من المعاناة الجماهيرية الصعبة لتنسكب في سلوك مقدام جريء لا يهاب شيئاً.

    4 ـ تفكيره: إنه صاحب عقيدة، ثابت الرأي، واثق الخطوة. يقول فيه الشاعر خير الدين الزركلي:

    عرفت فيه القوي الإيمان يوم تغلبت الشكوك

    والثابت على العهد يوم زلّت الأقدام

    والصريح الصادع بالحق يوم عقدت الألسنة

    نعم كان صريحاً جداً حتى قال فيه مصطفى النحاس:

    "ولعل أبرز ما في صفات الجابري، أنه صريح إلى أبعد حدود الصراحة، صراحة مقترنة بصلابة وممتزجة ببسمة خلابة لا تفارقه في أحلك الساعات وأشد الأزمات، تجذب إليه رائيه لأول نظرة، وتحبب فيه من يحدثه أول مرة"([5]).

    كان سعد الله شديد الميل إلى الحياة (الجادة) ولذلك كان قليل المجاملة، قوي الإرادة ثاقب الفكر شديد الإخلاص لرأيه وموقفه بين الناس.

    يصفه بعض إخوانه: إنه محدث من الطراز الأول، وسريع الانتقال وذكي الفؤاد وحاد الذهن. ووصفه أحد أصدقائه: "كان يجمع إلى علو كعبه في ثقافة عصره تمسكه بثقافة دينية مؤدياً للفرض والنفل في طاعة ربه، فكان بذلك حجة قارعة على من أسرهم التقليد الأعمى بزخارف المدينة"([6]).

    والخلاصة، إن نفسه مليئة بالصفاء والروعة. ولا يمكن إدراكها بمجرد التفكير، فإنه مرهف ولا يدركه إلا الحكيم.

    5 ـ صفاته الاجتماعية: تتجلى الصفات الاجتماعية عادة بمعنى التعامل مع الناس ولعل أول ما لمسه الشعب عند سعد الله هو التواضع الحقيقي الذي صبغ أعماقه النفسية، وارتبط بسلوكه الأخلاقي الذي ينقّي الحياة كلّها. ورغم أن بعضهم يصفه بالتعجرف والكبر، فهذا الكلام مرفوض أصلاً، ولأنه في الواقع يميل إلى (الجد) في أكثر تصرفاته، فقد ظنّ الناس أنه يتصف بالفوقية والتعالي.

    ويصفه السيد مصطفى النحاس([7]) بقوله: "أنست بصداقته، وسُعدت بأخوّته، فأعجبت بخلقه الجذاب وروحه الوثاب، ونفسه الصافية وقلبه الكبير".

    وكانت معاملاته الاجتماعية تتجلى بالسمو والصدق مع كل الأفراد، أي أنه كان يحقق جوهر إنسانيته، ويتضاعف عطاؤه لكل من يطلب مساعدته.

    كان يعطي حتى لو كان في ضيق، كما كان يوزع راتبه الذي يتقاضاه عندما كان وزيراً للداخلية، على مستخدمي أوتيل (أوريان بالاس).

    يروى عن سعد الله أنه كان راكباً سيارته، ماراً فوق جسر فيكتوريا، فرأى السيد (س) يمشي مطرقاً مفكراً، فطلب من السائق أن يقف وينادي السيد (س) ليجلس قربه. سأله ما بك يا سيد (س)؟ أراك على غير عادتك. فقال (س): علي أن أدفع مبلغ /5000/ل.س قبيل الساعة /12/ ظهراً وإلا فالموقف صعب جداً. فما كان من سعد الله إلا أن قال لـه: تعال إلى الأوتيل قبيل الساعة /12/ على أن تسعى الآن لتجمع ما تستطيع... وقبيل الوقت المحدد جاء السيد (س) ومعه /1500/ل.س فقط، فأعطاه سعد الله مبلغ /5000/ وقال: أعطني ما عندك: وذلك ليشعره بجدوى سعيه وعدم الاعتماد الكلي على غيره. أخذ (س) المبلغ وهرول إلى حيث يدعوه الموعد.

    كان ـ رجل الساعة ـ لمواطنيه... وصديق الساعة لكل من حظوا بأن يكونوا لأول مرة من عارفيه.

    وإذا كانت الصداقة تقاس بمقياس الزمن عادة، فإن سعد الله كان يهب صداقته لأي امرئ يقابله وهباً مخلصاً لدرجة أنه يبعث في نفسه شعوراً بالود والمحبة يلازمه طوال حياته.

    كان يصمت أحياناً مع محدثيه... ولكن الحياة كانت تنفرج من بين بسماته أو عمق نظراته، وإذا ما ضحك فملء فؤاده، حتى يبعث المرح والطهر بين خلانه.

    وصديق عراقي كريم من أصدقائه يصفه ويقول: "كان سعد الله الجابري مجموعة فخمة من السجايا والفضائل، ينافس بعضها بعضاً فإذا نشدته كإنسان وجدت بين ضلوعه من نزعات الكرم والنبل والأريحية والتسامح والرحمة وطيب العنصر ما يشبه أوصاف الأولياء، وإذا بلوته رجل دولة لقيت الشجاعة والمروءة وبعد النظر والصلابة في موقفه، والحنكة وسعة الإطلاع، مما جعله في مصاف كبار الرجال في أمتنا العربية، بل في عصرنا الحاضر، وإذا نشدته قومياً عربياً لقيته من هؤلاء الذين أنشؤوا القومية وراضوها، فقد كانت جنيناً في حلم الدهر، يحذق فهمها، ويتعصب لها ويغالي بولائها ويقامر في سبيلها، ففي بلاد الشام والأردن وفلسطين والعراق ومصر والحجاز وغيرها من بلاد العرب، في كل هاتيك البلاد، لم تخل زاوية من آثاره في خدمة القضية الكبرى".

    تلك الأوصاف جليلة القيمة ندر وجودها آنذاك في العصر الذي عاش فيه وذلك لكثرة الضغط الذي كان يقهر أشد النفوس، ولهول المعاناة التي ضيقت الخناق على أصحابها، والقهر والإذلال اللذين يسيطران على المناخ الفكري والنفسي في ظل الاستعمار.

    وفي الواقع إن المعاناة قد خلقت سعد الله الجابري خلقاً جديداً، ونفخت في روحه، مما جعله مارداً في وجه الفرنسيين.

    ويصفه رشيد الحاج إبراهيم، رئيس اللجنة القومية في حيفا سنة 1948 ويقول: "وكما تصمد قمة جبل الشيخ للعواصف والزوابع والرياح والثلوج، فلا تزيدها الزعازع إلا ثلجاً ونقاء، كذلك كانت الخطوب، ما كانت لتستطيع زعزعة قدم سعد الله عن كل ما كان يؤمن به، فينصرف إلى تنفيذه، بالقوة والإيمان والصمود والإقدام".

    ([1]) حلب الحلم، انترانيك زاروكيان.

    ([2]) صالح زهر الدين ـ اليهود في تركيا. ص22.

    ([3]) محمد علي علوية باشا ـ في كلمته التأبينية.

    ([4]) نجيب الراوي، وزير العدل العراقي، في كلمته التأبينية.

    ([5]) مصطفى النحاس عن كتاب أحمد الجندي. ذكرى سعد الله الجابري.

    ([6]) الأستاذ الشيخ أحمد رضا في كلمته التأبينية.

    ([7]) رئيس حزب الوفد المصري، في كلمته التأبينية.

    ([8]) من كلمة حكومة العراق في تأبينه.

    __________________________________________________ _______________


    أخلاق السياسة

    جهاد....‏

    ونضال ....‏

    لو أن الإنسان يتقيد بالأفكار (الحق) لبزغ فجر الخلاص على الأرض....‏

    ولكن...! هل للسياسة أخلاق؟ ألم يحسم التاريخ هذا السؤال؟ ألم يكشف التاريخ على أن الأخلاق في السياسة هي (المصلحة)؟ ألم يقل لنا (ميكافيلي) إن الكذب والمخاتلة والدس والدهاء والاحتيال كلها فضائل في ميدان السياسة من أجل المصلحة؟‏

    نعم... إن كل سنبلة في تاريخ السياسة عليها طلّ من دهاء... أفلم يكن شراء الضمائر والجرائد أهدافاً مبررة تباح للحاكم المستعمر ولماذا؟ في سبيل سحق الشعب... إذن ما جدوى أن تطلع شمس ولا حرية يملكها هذا الشعب؟‏

    وتترنح حضارة الأخلاق... ويصبح الوصول إلى (عدم إنسانية) في سياسة الناس مسألة زمن فحسب... وهنا قد تتلامس أبعاد الأشياء فلا يبقى من شيء...‏

    ويلخص لنا تاريخ البشرية أن الصفة المسيطرة على حياة الشعوب، هي عدم مراعاة حقوق الإنسان، بل طمسها في بعض الأحيان، وفي قرن العلم والنور ازدادت ضمائر الدول الكبرى إفلاساً وتقهقراً، وازدادت تصرفاتهم سحقاً وتجبراً، وبذلك ابتُلعت الحقوق، ولم تبق مسألة نوالها سهل، بل أصبح من أصعب القضايا استرداد الحق سلوكاً وحواراً وجهاداً.‏

    وراح سعد الله، أمام تلك الجدران السياسية الصماء، راح يجاهد منذ أن كان على مقاعد الدراسة، وفي رؤاه المستقبلية المستشفّة. كان يرى أن أي شيء ذا قيمة وكرامة إنسانية لن يتحقق إلا بالنضال والتضحية بالنفس فأقسم بينه وبين نفسه ألا يسكت عن الحق، لأن الحقوق الإنسانية هي ضرورات فطرية للإنسان، من حيث هو إنسان.‏

    لن يسكت عن الحق، وإلا فسوف يولد في الصمت انفجار...‏

    __________________________________________________ _______________



    - يتبع -
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  2. #2

    رد: أعلام من بلدي ( 1 ) - سعد الله الجابري -

    ماشاء الله..
    قرات شطرا كبيرا من التأريخ القيم للعلامة...
    وننتظر البقية ولاأدري هل يصنف كسير اعلام ام تاريخ.
    لك كل التقدير.
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3

    رد: أعلام من بلدي ( 1 ) - سعد الله الجابري -

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريمه الخاني مشاهدة المشاركة
    ماشاء الله..
    قرات شطرا كبيرا من التأريخ القيم للعلامة...
    وننتظر البقية ولاأدري هل يصنف كسير اعلام ام تاريخ.
    لك كل التقدير.

    هؤلاء الرجال العظام هم من صنع التاريخ في سورية الحديثة فلا مجال لفصل سيرهم الذاتية عن مجريات التاريخ وحوداثه

    مع كل الاحترام والتقدير
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  4. #4

    رد: أعلام من بلدي ( 1 ) - سعد الله الجابري -

    جهاد التحرر.... عام بعد عام....

    1911:

    أسست جمعية سرية في باريس عن طريق مجموعة من الشباب المثقف سميت: (الجمعية العربية الفتاة). وهدف هذه الجمعية تحرير الأراضي العربية من الهيمنة العثمانية والأجنبية.

    1912:

    وتداعى الشباب العرب للعمل تحت شعار هذه الجمعية وأسست لها فروع سرية في بعض الأقطار العربية، خوفاً من بطش الاستعمار.

    1913:

    وقد كانت البلاد العربية تعيش هذه الفترة في ركام من الظلمات، التي مارسها الحكام الاتحاديون من جماعة الاتحاد والترقي في تركيا، والذين استولوا على الحكم بعد أن تم لهم خلع السلطان عبد الحميد.

    ومنذ ذلك الوقت اكفهرت سماء البلاد العربية وراحت تجتاز سلسلة من العقبات والأحداث والتحديات الخطرة والمنذرة بالسوء، في ميادينها الداخلية والخارجية، حيث لعبت بها أهواء بلاد ودول كثيرة ومطامعها.

    وبدأت سورية تتصدى لهذه السياسة الغاشمة، وراح الوطنيون يطالبون بإعلام الدول الحيادية بما يمارسه الاستعمار في سورية وفي العالم العربي.

    وانعقد مؤتمر عربي في باريس عام 1913، وافتتح أعماله في 18 حزيران في قاعة الجمعية الجغرافية 186 شارع (بولفار سان جرمان) وقد تم التعبير عن إرادة التحرر والاتفاق بصورة واضحة وبصيغ معتدلة ولكنها حازمة، وإن قرارات المؤتمر التي أبلغت إلى الدول العظمى، وإلى السفير العثماني في باريس، قد وضعت (وللمرة الأولى) القضية العربية أمام الرأي العام العالمي.

    وحضر هذا المؤتمر السوريون وعلى رأسهم إحسان الجابري الأخ الأكبر لسعد الله الجابري وكان ارتكاس هذا الحضور في نفس سعد الله كبيراً بحيث عزز موقفه وشدّ عزائمه في المضي في جهاده.

    وكان العداء، وكانت البغضاء تنتشر وتستشري بين الشعب العربي وبين الأتراك منذ أن انفجر بارود الحقد في نفوسهم، إثر حادثة (الصفعة)([1]).

    كانت صفعة كالها شفيق مؤيد العظم لطلعت باشا التركي، وأصبحت الشرارة الحامية التي فجرت بركان الغضب في نفوس الحاكمين، ولا سيما وهم معبؤون تعبئة قوية بفعل النشاط اليهودي السري في تركيا.

    وتضافرت جهود نواب العرب في مجلس (المبعوثان) في تركيا، مع الجمعيات والأحزاب التي أسسها العرب منذ مطلع القرن العشرين، منها: (جمعية الإخاء العربي الإسلامي) و(حزب الحرية) و(الائتلاف العثماني) و(المنتدى الأدبي) الذي كان في ظاهره ثقافياً، وفي حقيقته سياسياً، و(الجمعية القحطانية) و(جمعية العهد) و(الجمعية الفتاة) التي انتسب إليها المغفور لـه الملك فيصل بن الحسين.

    1914:

    وفي هذا العام دقت نواقيس الحرب العالمية الأولى، وجند سعد الله في الجيش العثماني (كوجوك ضابط) أي ضابط صغير، وعين مراقباً على الأرزاق وقوافلها في بلدة (أرض روم) وقضى مدة الحرب بعيداً عن الوطن. كان مخلصاً في خدمته للجيش، أميناً على ماله وأرزاقه وتلك عهود وذمم، كما كان وفياً للعهود العسكرية، على الرغم من شعوره بأن الأتراك كانوا يظلمون قومه، وأبت كرامته أن يخون الأمة التي يخدم في جيشها. ولعل الإخلاص في العمل مبدأ أخلاقي يدل على عمق التوازن النفسي والروحي، فليس في داخل الذات صراع أو نزاع بين الفكرة والعمل، وإنما توجد وحدة سيكولوجية تجمع النية والعزم والتنفيذ.

    وعندما انتهت خدمته وأصبح حراً يعيش المبادئ التي تنمو فيه، انبرى لمحاربة الاستعمار العثماني الذي خيّم بظلمه وظلامه على البلاد العربية؛ والآن، وفي جو من حرية التصرف سار في درب الجهاد وفي رأسه قبس من نور وفي قلبه وثبة وطن.

    وكان يفهم من الاتفاقات الدولية منذ عام 1914 أو قبله بقليل، أنه في حال تفكك الإمبراطورية العثمانية، فإن منطقة النفوذ الفرنسي في الشرق الأدنى، ستتناول سورية كاملة بحدودها الطبيعية، وإن من شأن ذلك تأمين التوازن العادل بين الدولتين الفرنسية والبريطانية وفي الواقع تعرضت الإمبراطورية العثمانية لخسارة أراضيها وقد ألغيت امتيازاتها بقرار وحيد الطرف أصدرته تركيا في عام 1914 أي بعد أن دخلت فيها ضد الحلفاء، ولكن الإلغاء التعاقدي لم يتم إلا بموجب معاهدة (لوزان) في 24 تموز 1923.

    1915:

    وأمام أطماع فرنسا بامتلاك مناطق نفوذ بحرية وبرية صرح وزير البحرية الفرنسي في أيار 1915 "أن البحر لن يكون مفتوحاً إلا إذا بقيت سورية ضمن دائرة نفوذنا" وهنا وقفت تركيا في صف الإمبريالية الألمانية والنمساوية، كما لجأ الحلفاء إلى التقرب من العرب، وسرعان ما حصلوا على مساندتهم في وقت مبكر مقابل تعهدات ووعود حازمة بالاستقلال، ومن أجل ذلك جرت مفاوضات بين الشريف حسين شريف مكة، وبين السيد هنري مكماهون، المقيم العام البريطاني في القاهرة.

    ابتدأت هذه المفاوضات في شهر تموز 1915 وانتهت إلى اتفاق في 10 تموز 1916، وقد تضمن هذا الاتفاق في بنوده إعادة الأراضي التي كانت دائماً للأمة العربية، وتعهد العرب مقابل ذلك بتقديم العون للحلفاء من أجل كسب الحرب.

    ولكن... عندما عيّن جمال باشا السفاح قائداً عاماً للجيش الثالث، نصب أعواد المشانق في كل من دمشق وعاليه، لشنق خيرة الشباب الوطني في عام 1915.

    1916:

    وفي 11 أيار من هذا العام تخلّت فرنسا بموجب اتفاقية (سايكس ـ بيكو) عن جميع حقوق سورية في فلسطين وشرق الأردن، وتنازلت لإنكلترا عن أراض تغطي مساحتها سبعين ألف كم2.

    ونص هذا الاتفاق على تجزئة عجيبة للأراضي العربية المنسلخة عن الإمبراطورية العثمانية حيث تم إشباع الأطماع جميعها، وقد خصصت منطقة على الساحل السوري لفرنسا، ومنطقة في الجزيرة لبريطانية، ومنطقة تتضمن فلسطين عدّت دولية.

    أما سورية الداخلية، فقد قسمت إلى منطقة تخضع للنفوذ الفرنسي، ولكنها ذات سيادة عربية، وأخرى تخضع للنفوذ البريطاني مع احتفاظها بسيادتها العربية، وعندما احتجّ الإيطاليون، أضيفت منطقة تخضع للنفوذ الإيطالي، وذلك من جنوب الأناضول في مناطق أضاليا وأضنة وقونية.

    ثار الشعب العربي لهذه التقسيمات التي تجري دون علمه، وقام بمظاهرات وحشد قواه إلى أن كان يوم 10 حزيران حيث أعلنت ثورة الشريف حسين بن علي شريف مكة والذي أعلنها من بطاح مكة ثورة عربية تحريرية ضد الحكم العثماني.

    وأطلّت تباشير الفرح إثر هذا الإعلان، وبادر المثقفون العرب إلى الالتحاق بالثورة، وتحملوا الكثير في اجتياز الفيافي والصحارى، سيراً على الأقدام أو على ظهور الجمال. وكان الضباط وبعض الجنود في الجيش العثماني، أسبق الجميع في الالتحاق بالثورة، على الرغم مما لا قوه من تعذيب حتى الموت.

    وكان رد فعل الإمبراطورية العثمانية عنيفاً، فاستمرت تنصب أعواد المشانق وحاصرت المدن وجوعت السكان، ولعل تجويع الناس كان واحداً من ألوان السياسة الغاشمة التي مارسوها في بلاد العرب، بلاد القمح والخيرات... وكذلك نفوا بعض المواطنين العرب من مناطقهم، ودكوا مدينة (الحلة) في (العراق).

    وعلى الرغم من هذا كله تابع الشعب مسيرته، ولما اكتمل عدد المجاهدين المقاتلين بدأت الجحافل تتوجه إلى الديار الشامية عن طريق ـ العقبة ـ عمان ـ دمشق، ومن ثم سارت إلى منطقة الثورة، وانضمت إليها بعض القبائل العربية لمواصلة الجهاد وبلغ عدد المتطوعين الملتحقين بالثورة ما يقارب 100,000 متطوع.

    1917:

    ولم تزل الحرب العالمية في لظاها وعنفوانها، واستولت الثورة الشيوعية على الحكم في روسيا، ولم تتورع عن إفشاء (السر الكبير) عندما نشرت معاهدة سايكس بيكو حيث تم فيها اقتسام البلاد العربية من قبل الحلفاء (سراً).

    في 2 تشرين الثاني في العام نفسه صدر وعد (بلفور) القاضي بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، تعهدته الحكومة البريطانية.

    وعلى الرغم من أن العرب ناصروا الحلفاء أثناء الحرب، ولكنهم نالوا أسوأ معاملة منهم باقتسام أراضيهم وضرب حقوقهم عرض الحائط...

    كانت القوى الغاشمة هي التي تتحرك وتحرك الشعوب، فما جدوى التفكير وما جدوى المقاومة أمام (ثعالبة السياسة الاستعمارية).. ستبقى مقاومة سلبية النتائج وسيبقى عمل المجاهدين تجديفاً عبثي الإقناع...

    الدول العظمى تتحرك، تدير المؤتمرات... تخطط... تبرر بمنطق الاستعمار ولا شأن للبلاد الضعيفة والتي لا تملك من أمرها شيئاً...

    وكانت صدمة قوية لسعد الله وهو يرى ويشهد ما تم من مؤامرات في سنة واحدة... (سايكس بيكو، وعد بلفور)...

    لن يرضى أن يخضع لهذا المصير... ولكن... ما هو الحل...؟

    توحد جهود العرب... تكتل العرب... توحد كلمة العرب... تشكل رأي عام عربي موحد وكان يرى أن سورية ـ خصوصاً ـ والتي استطاع شعبها أن يهضم في تاريخه أصفى الحضارات لن يخضع أو يعيش في ظل العبوديات...

    1918:

    وانتهت الحرب العالمية الأولى، زال الحكم العثماني عن سورية، وراحت القوى المنتصرة تتلاعب بمصير العالم العربي...

    وأمعن الحكم العربي الذي تلاعب به الاستعمار كما يريد تشويهاً وتمثيلاً وقامت أول حكومة عربية، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ سورية الحديث... بدا لأول وهلة أن الدولة الفتية، أضعف من أن تتحمل عبء التبعات الجسيمة التي فرضتها مسؤوليات الحكم...

    وراح الأمير فيصل بن الحسين يطالب الحلفاء بتحقيق الوعود التي قطعوها لأبيه الشريف حسين خلال الحرب العالمية الأولى من أجل إعطاء سورية حريتها واستقلالها، وكبر الأمل في نفس سعد الله الجابري وهو يرقب من بعيد الخطوات السياسية الكبرى. وسرعان ما انكشف (البرقع السياسي) أمام الأمير فيصل، حيث طمست تواقيع الصكوك والوعود وتفاقمت أطماع الدول، واتضح لفيصل أن فرنسا وإنكلترا اتفقتا على اقتسام الأراضي المحررة من الإمبراطورية العثمانية.

    وحول هذه الأراضي سال لعاب الدول الأوروبية الاستعمارية ذات الاحتكارات البترولية والتي تمارس نشاطها بموجب اتفاقيات مجحفة، انتزعت من حكام البلاد دون موافقة الشعب، ولعلّ الاحتكارات البترولية هي أخطر أخطبوط استعماري في العالم وقد امتدت أذرعه إلى البلاد العربية ومنها سورية. وفي الواقع اشترك الاستعمار الفرنسي مع الاستعمار الإنكليزي في اقتسام أملاك ألمانيا وتركيا فكان لفرنسا الانتداب على سورية ولبنان، وللإنكليز فلسطين والعراق.

    أما في داخل سورية فلا زال الجيش العربي يتقدم حتى دخل مدينة دمشق في 30 أيلول 1918، واستقبله الشعب بالتصفيق والزغاريد. دخل الأمير فيصل دمشق مع المتطوعين العرب، وحلّ هو في دار البارودي والد فخري البارودي، الذي اشترك في الثورة منذ أيامها الأولى.

    شرع فيصل في أول وصوله في تأليف حكومة عربية، وعهد إلى اللواء علي رضا باشا الركابي أحد أبناء دمشق أحد قواد الجيش العثماني، بمنصب الحاكم العسكري لمدينتي دمشق وحلب، وكل مدينة يحتلها الجيش العربي. وبينما كان الجيش العربي يواصل زحفه نحو الشمال السوري، سقطت مدينة بيروت بيد الحلفاء، فأرسلت الحكومة العربية في دمشق، برقية إلى رئيس بلدية بيروت، تطلب فيها رفع العلم العربي فوق دار الحكومة.

    وأقيم احتفال كبير في هذه المناسبة، بعد وصول اللواء شكري باشا الأيوبي من دمشق، الذي احتل دار الحكومة، وأعلن انضمام بيروت إلى الدول العربية.

    بيد أن القائد الإنكليزي، أصدر أمراً إلى اللواء الأيوبي بمغادرة بيروت والعودة إلى دمشق خلال أربعة أيام. وأنزلت الراية العربية عن دار الحكومة، وعين الجنرال (بياباب) الفرنسي حاكماً على مدينة بيروت.

    كان هذا التصرف أول تنكر للحكم العربي في سورية من جانب البريطانيين والفرنسيين، وقد اكتشف بصورة واضحة التواطؤ السري الذي تم بين الحلفاء على اقتسام سورية الأجزاء المحررة من الاستعمار العثماني، ولا سيما ما يتعلق بالأراضي السورية، وكأنهم يريدون بذلك طمس الهوية السورية ومحوها ووضع سورية موضع التبعية والاستلاب، والفتن والاغتراب، وسورية لم تكن تعلم بهذه الخطوات.

    ودخل الفرنسيون سورية باسم الانتداب دخلوها دخول الظافر ليحتلوا البلاد ويظلموا العباد. ولكن الجيش العربي استطاع أن يحتل مدينة حمص في 14 تشرين الأول 1918، ومدينة حماه في 16 منه ومدينة حلب في 25 منه، كما بدأت ثورات سورية متفرقة منها ثورة الشيخ صالح العلي في جبال العلويين الذي أعلنها ضد الفرنسيين منذ عام 1918 واستمرت حتى عام 1921 وكانت ألوية النصر تُعقد لـه في أكثر المعارك.

    ثم حدثت اشتباكات ومناوشات مع الجيش التركي، إلى أن تم جلاؤه نهائياً عن سورية في 31 تشرين الأول 1918.

    وأعلنت الهدنة بين الأتراك والحلفاء، وصدر تصريح بريطاني فرنسي مشترك يؤكد أن أهداف الحلفاء من الحرب هي التحرير النهائي والكامل للشعوب التي عانت مدة طويلة من الاضطهاد التركي. وتم إعلان تنازل تركية عن ولايات الشام وبغداد والحجاز وعسير واليمن.

    1919:

    وتلقى العرب خبر افتتاح مؤتمر الصلح بين الحلفاء والعرب، وقد افتتح هذا المؤتمر في 18 كانون الثاني 1919 في قاعة (الساعة) بوزارة الخارجية الفرنسية، وقد حضر الملك فيصل ليطالب الحلفاء بتنفيذ وعودهم التي كانت قد أعطيت للعرب.

    ولكن روح المماطلة والتسويف أقضت مضجع الشعوب العربية في مثل هذه المؤتمرات، وكانت أن عمت الثورات السورية تعبر عن غضب الشعب، فقامت ثورة مسلحة بقيادة الزعيم إبراهيم هنانو([2])، في شمال حلب (جبل الزاوية) وكان هنانو لا يقاتل الفرنسيين كرئيس عصابة، بل كقائد جيش مسلح تابع للدولة العربية، وكذلك قامت ثورة البيطار.

    وقد اتفق صالح العلي مع إبراهيم هنانو وتعاونا، واتفق مع الشهيد يوسف العظمة، وقد عجز الفرنسيون في القبض عليه حياً أو ميتاً، وصدر الحكم عليه بالإعدام، ثم توارى عن الأنظار، اضطر الفرنسيون للعفو عنه بعد عام، وأصدر المفوض السامي الجنرال غورو قراراً بذلك.

    عاش سعد الله مع هذه الثورات، وقد تفتحت أمام بصيرته أبعاد القضية كلها، وتفتحت خطوات الاستعمار الفرنسي والبريطاني كأغوار مغلقة على الفهم، أتراها أغواراً ماثلة في ظلام فكر الشعب؟ أم في تجاوز السلطات الحاكمة والغاصبة لحقوق هذا الشعب؟

    ولكن الشعب كان يعيش هزة وطنية على أهبة الاستعداد لتلبية أي نداء للثورة، وكان التلاحم قوياً بين سعد الله وهنانو، فسعد الله يعبئ ويوقظ روح الجماهير، في الداخل وهنانو يقود الحركة عسكرياً من الريف، ويعتمد على سعد الله كسند مادي إلى حد كبير... وكان يثق برأيه، ويحبه من أعماقه، وكان يقول: "سعد الله حبيبي، ويا لسعادة من كان سعد الله أخاه وصديقه".

    في هذا الوقت أراد الأميركيون، وخصوصاً الرئيس (ويلسون) أن يستطلع رغبة سورية التي وضع نظام الانتداب من أجلها. ولذلك قامت لجنة أميركية منذ 10 حزيران وحتى 21 تموز 1919 وقد أرسلت تحت قيادة (كراين، وكينغ) باستشارة الأهلين، وقد كان من الصعب التفكير بأن السوريين يمكن أن يرجعوا عن استقلالهم... إن السيادة الوطنية هي النظام الذي يفضلونه على أي نظام آخر.. وقد وقعت معاهدة فرساي في 28 حزيران 1919، ولذلك قصد الملك فيصل أوروبا مرة ثانية على أمل الاتفاق مع فرنسا.

    وقد استقبل الملك فيصل استقبالاً حسناً من قبل كليمنصو رئيس الحكومة الفرنسية وهيأ لـه مشروع اتفاق فرنسي ـ سوري. وهو أول مشروع تمت مراجعته على أساس من السيادة، وفي هذه الأثناء جرى تعيين الجنرال (غورو) مفوضاً سامياً.

    1920:

    وعاد الأمير فيصل إلى دمشق في 13 كانون الثاني 1920 وعرض اتفاق كليمنصو على رجال السياسة في اجتماع سري عقد في منزل الدكتور أحمد قدري ولكن الوطنيين رفضوه بالإجماع، وكان الإحساس التاريخي يتضمن موقفاً نقدياً في مواجهة الأحداث القريبة والبعيدة على حد سواء.

    وقام الأمير بجولة في المحافظات السورية، وازداد بهذه الزيارة يقيناً أن الشعب السوري بكامله يرفض وجود فرنسا.

    واجتمع المؤتمر السوري في آذار 1920 وقرر إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية بما فيها فلسطين، والمناداة بالأمير فيصل ملكاً دستورياً.

    وفي 18 آذار 1920 أقيم احتفال بمدينة دمشق بحضور ممثلي فرنسا وإنكلترا وقناصل الدول، تمت خلاله مبايعة الأمير فيصل ملكاً على سورية وقد وضع المؤتمر السوري في جلسته التاريخية من هذا الشهر، مذكرة سياسية خطيرة قال فيها:

    "إن الأمة العربية ذات المجد القديم والمدنية الزاهرة، لم تقم جمعياتها وأحزابها السياسية في زمن الترك، بمواصلة جهادها السياسي، ولم ترق دم شهدائنا ولم تثر على حكومة الأتراك إلا طلباً للاستقلال التام والحياة الحرة، بصفتها أمة ذات وجود مستقل وقومية خاصة لها الحق في أن تحكم نفسها بنفسها أسوة بالشعوب الأخرى، التي لا تزيد عنها مدنية ورقياً...".

    وكان هذا حلم سعد الله لتوحيد البلاد العربية كلها، والرجوع إلى مصدر سياسي واحد يشمل سماء هذه البلاد.

    ولكن... أحدث هذا القرار رد فعل عنيف في الأوساط السياسية الفرنسية والإنكليزية، وأعلن (لويد جورج) رئيس الوزارة البريطانية أمام مجلس العموم أن بريطانية وفرنسا أبلغت الأمير فيصل أنهما لا تستطيعان الاعتراف بقرار المؤتمر السوري.

    وتوالت البرقيات المماثلة على فيصل من الرئيس الفرنسي ميلران واللورد اللنبي، تبلغه رسمياً قرارات مؤتمر الحلفاء المنعقد في 20 نيسان 1920 في مدينة سان ريمو الإيطالية، وقد عهد لفرنسا بموجبها الانتداب على سورية ولبنان، وعهد إلى بريطانية الانتداب على العراق وفلسطين.

    توتر الجو العربي... عصفت الرياح المنذرة بالشؤم في كل مكان، سقطت حكومة علي باشا الركابي، نهضت حكومة هاشم الأتاسي، وكان من أبرز أعضائها رضا الصلح، عبد الرحمن شهبندر، يوسف العظمة، فارس الخوري، ساطع الحصري، جورج رزق الله...

    في هذا العام ازدادت السحب قتامة وتصاعدت في جو مكفهر وقامت الثورات في كل مكان.

    وبقي زعيم الشمال إبراهيم هنانو يتابع قيادة الثورة في الريف حيث تلاحمت مع ثورة الشيخ (صالح العلي) في اجتماع (مرعيان) في شباط 1920 في جبل الزاوية، قرب حلب التي راحت تسبح في غضب عاصف.

    ولكن... ماذا يكون الموقف عندما يخرج من أبناء الشعب من يحارب أصحاب الرسالات العليا؟

    كان جبل (بيلان) مسرحاً لثورة صبحي بركات، ولكن ما أن تمت الهدنة بين الأتراك والفرنسيين حتى ألقى بركات السلاح وانضم إلى الجيش الفرنسي، وخان الرسالة وأفلست قيمه الروحية والوجدانية، وبدأ يتعقب جيش هنانو ويضايقه.

    وهذا هو السبب الدفين في قلب سعد الله الجابري في كرهه لبركات... الذي لجأ إلى الفرنسيين في سياسته وثورته، بعد أن طغت مصلحته على كل القضية. ورغم تحسن العلاقات فيما بعد بين أعضاء الكتلة الوطنية وصبحي بركات، فإن هنانو والجابري لم يغيرا موقفهما.

    وكان سعد الله يرى أن الإنسان لن تكون لـه قيمة حقيقية بوصفه شخصية إنسانية إلا من خلال كفاحه ليكون ذا خلق وخلال حسنة.

    وفي الواقع لم يكن من السهل نجاح الثورات لولا تهيئة الأجواء وشحذ النفوس وإثارة الوجدان الذي أصيب بالخدر...

    وكان سعد الله يشحذ الهمم قدر الإمكان، ويبعث الحماسة في نفوس الشعب إذ عليه تتوقف الأمور وتقع مسؤوليات كبرى للتعاون مع القيادة؛ وبكل مثابرة على المبدأ المخلص، وتصلب عنيد دون تراجع في المواقف الوطنية مع النزاهة والسمو، راح سعد الله يعمل على خلق القوة اللازمة من اتحاد الأفراد والتحاقها بالقيادة، ورأى أن أية قوة على الأرض لا تستطيع الوقوف أمام أمة تملأ نفوس شعبها وقادتها قوة الإيمان وجرأة القلب ونزاهة الضمير. كما أن الحضارة تفترض أناساً أحراراً لأن بالأحرار وحدهم تتحقق الحضارة وتصنع.

    شعر الفرنسيون بمن كان يحشد الطاقات ويلهب النفوس ويفجّر أطر الجهاد ويغلي مراجل المشاعر الوطنية، ولمسوا عن قرب أن سعد الله وراء ذلك كله، وآمنوا بما كان لـه من صفات خلقية ووطنية حببته إلى الشعب بل إلى العالم العربي الذي راح ينقاد لمبادئه وأول مبدأ هو (الحرية).

    وكان إيمانه بنوال الحرية ـ ولو طال الزمن وتشبث العدو ـ هذا الإيمان كان يغذيه بنشاط إرادي وسط اندفاع جارف للقوى الاجتماعية وهذا يعني نمو قدرة التصميم الذاتي المستقل وسط دوافع نفسية.

    وفي كتابه "الإسلام ـ وآسيا" ذكر (أوجين يونغ) أن المسيو (دي جوفتيل) ألقى خطاباً في مدينة تولي عام 1920 ذكر فيه "ليعلم الناس أن سورية ولبنان قطران متممان لفرنسا وإن ثورة بلادنا وثورة اللبنانيين والسوريين (مشتركة) ويصبح الانتداب المعزز بالقوة المسلحة معززاً بقوة أعظم هي المصالح المشتركة".

    وهكذا كان... فقد قرر مؤتمر (سان ريمو) في 19/20 نيسان 1920 منح فرنسا الانتداب على كيليكيا وسورية، كما منحت بريطانيا الانتداب على فلسطين وشرق الأردن، واحتلت جيوش فرنسا دمشق وقضت على الاستقلال وأعلنت الانتداب، ووضعت يدها على زمام الأمور ومرافق البلاد.

    وفي 9 تموز 1920 وقعت معركة ميسلون بين القوات الفرنسية الغازية بقيادة الجنرال غورو وبين القوات العربية التي قادها وزير الحربية يوسف العظمة، وانتهت بانتصار الجنرال غورو واستشهد يوسف العظمة وتشتت قواته، وكأن هذه المعركة قد وضعت حداً للسيادة السورية. وسرعان ما توجه الجنرال غورو وفي دمائه تغلي روح التحدي والعدوان إلى ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي وقال: "ها نحن عدنا يا صلاح الدين... إن وقفتي هذه تكرس انتصار الصليب على الهلال".

    وفي تاريخ 13، 14 تموز أصدر الجنرال غورو إنذاراً وطلب:

    1ً ـ استلام الخط الحديدي.

    2ً ـ قبول العملة الفرنسية.

    3ً ـ تسريح الجيش العربي.

    وتحركت جيوش فرنسا نحو الشمال، واستسلمت حلب يوم 13 تموز 1920 للجنرال (دي لاموت) الذي عين كامل باشا القدسي والياً على حلب، وأعلن انفصال حكومة حلب عن حكومة دمشق.

    وفي 31 آب 1920 أنشأ الجنرال غورو (المفوض السامي) بموجب القرار (318) دولة لبنان الكبير بمساحة /10170/كم2، ولكن لجان الحدود بقيت تعمل أكثر من عشرين عاماً حتى أصبحت مساحة لبنان /10400/كم2.

    وقد أعلن غورو من قصر الحرش في بيروت دولة لبنان الكبير بضمان فرنسا وحمايتها. وضم إليه أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا، بعد أن كانت تابعة لحكومة دمشق، وهذا العمل السياسي يجسّد معنى الاغتيال الحقوقي ووأد حرية التملك الوطني.

    واحتجت دمشق رسمياً. ولكن... من يسمع؟... وتوالت التقسيمات تباعاً، ففي 8 أيلول اصدر المفوض السامي إعلان حلب دولة مستقلة باسم دولة حلب، لها علمها الخاص وتنتهي حدودها الجنوبية عند الكيلو 115 أي بعد خان شيخون.

    في هذه الفترة بالذات كان الملك فيصل قد أبرق إلى اللورد (كرزون) وزير الخارجية البريطانية ـ بواسطة اللورد (اللنبي) موضحاً أن هدف الفرنسيين إخراجه من سورية وإرغامه التخلي عن العرش، ومما قاله في البرقية: "أنا لا أرغب في البقاء في هذه البلاد مهاناً ذليلاً، ولا أطيق الذم الذي يوجّه إلى أمتي من غير حق".

    وفي مساء اليوم نفسه جاء الكولونيل (تولا) وسلم الملك فيصل كتاباً باسم الحكومة الفرنسية جاء فيه: "أتشرف بإبلاغ سموكم الملكي قرار الحكومة الفرنسية أنها ترجو منكم أن تغادروا دمشق بأسرع ما يستطاع، بسكة حديد الحجاز مع عائلتكم وحاشيتكم، وسيكون تحت تصرف سموكم والذين معكم قطار خاص يبرح محطة الحجاز بدمشق غداً 28 تموز الساعة الخامسة صباحاً".

    وذهب فيصل وجرى وداع لـه، وذهب معه ساطع الحصري والدكتور عبد الرحمن شهبندر. غادر الملك إلى درعا في قطار خاص حمله إلى حيفا، ثم توجه في باخرة متجهة نحو إيطاليا وكان معه إحسان الجابري وساطع الحصري ونوري السعيد وتحسين قدري.

    وانطوت صفحة جهاد وتضحية في أول خطوة تخطوها سورية نحو التحرر، وانطوى أمل سعد الله في أن يكون الملك فيصل هو الرمز لوحدة البلاد العربية.

    وتوالت التقسيمات باستمرار... ففي 23 أيلول أصدر المفوض السامي (الجنرال غورو) قراراً بإنشاء دولة العلويين على أن تكون اللاذقية عاصمة لها، كما جرى تعيين الحدود السورية الفلسطينية باتفاق (فرنسي ـ بريطاني) وقع في باريس بتاريخ 23 كانون الأول 1920. على أن الكارثة الكبرى لسورية هو حل الجيش الوطني، واعتبار أسلحته وذخائره وما لديه من أوائل غنيمة حربية....

    وألّف المفوض السامي غورو حكومة جديدة برئاسة (الألشي) وألغيت من الوزارة الجديدة وزارتا الدفاع والخارجية (وهما أهم وزارتين بالنسبة للمستعمر) وأصبح المندوب السامي هو الحاكم الفعلي للبلاد.

    1921:

    ثم بدأت تنازلات من الفرنسيين للأتراك لإرضائهم وكسب تعاونهم. ففي 9 آذار عام 1921 وقّع (أريستيد بريان) الرئيس الفرنسي معاهدة في لندن تعيد فرنسا بموجبها لتركيا إقليم كيليكيا... وبموجب هذه المعاهدة مُنحت الأقلية التركية في سنجق إسكندرون نظاماً إدارياً خاصاً مع اعتبار اللغة التركية بالنسبة لهذه الأقلية لغة رسمية كالعربية والفرنسية.

    وبعد ذلك قام الفرنسيون بتجهيز /5/ خمس حملات يقود أحدها الجنرال غورو لمحاصرة الثوار في جبل الزاوية شمال حلب. فاضطر إبراهيم هنانو لمغادرة الجبل في 12/7/1921 وبرفقته /55/ جندياً وضابطاً، غير أن أربعة من ضباطه وقعوا أسرى في أيدي الفرنسيين وقد أعدموا على الفور.

    تابع هنانو سيره على جواده جنوباً في بادية الشام، يأوي إلى منازل البدو في النهار، ويسير ليلاً، حتى بلغ عمان في رحلة طويلة شاقة خوفاً من بطش الفرنسيين.

    وفي عمان آواه الأمير عبد الله بن الحسين، أمير الأردن، وشاء هنانو أن يذهب إلى القدس لزيارتها رغم نصح أصدقائه بالعدول عنها، ولكنه أصر على ذلك واعتقلته هناك السلطات البريطانية بناء على طلب من القنصل الفرنسي. واحتج الأمير عبد الله إلى الحكومة البريطانية طالباً إطلاق سراح ضيفه وجاره، فلم تستجب السلطات البريطانية لطلبه، مما أدى إلى قيام مظاهرات كبيرة في الأردن، وقد أرسل هنانو مخفوراً إلى بيروت.

    وهكذا غدر به الإنكليز بالاتفاق مع الفرنسيين وسلموه لهم على الرغم من كل قانون عرفي أو دولي.

    نقله الفرنسيون إلى حلب وحاكموه أمام المجلس العرفي، متهمين إياه بجرائم عادية (سلب، نهب، قطع طرق، قتل).

    كان سعد الله لا يفارق هنانو، وفي رفقته كان يذكي الحماسة والاندفاع للقضية الوطنية حتى في أحلك الساعات وأشدها هولاً، كان لا يغمض لـه جفن إذا كان هنانو في متاعب أو معاناة...

    كيف أغفو على فراش الأقاحي
    وهنانو على فراش القتاد

    في هذا العام بالذات، دعا الجميع إلى عقد مؤتمر عام في جنيف أثناء انعقاد الجمعية العامة لعصبة الأمم. وفي يوم 2 آب 1921 انعقد المؤتمر في جنيف وكانت غايته توحيد الأحزاب الاستقلالية ورصّ الصفوف.

    واشترك إحسان الجابري مندوب حزب الاستقلال العربي مع كثيرين في سبيل تلك الغاية، ووضعوا نداء ينشد المطاليب الآتية:

    1 ـ الاعتراف بالاستقلال والسلطان القومي لسورية ولبنان وفلسطين.

    2 ـ الاعتراف بحق هذه البلاد في أن تتحد معاً بحكومة مدنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب من الشعب وأن تتحد مع باقي البلاد العربية المستقلة.

    3 ـ إعلان إلغاء الانتداب حالاً.

    4 ـ جلاء الجنود الفرنسيين والإنكليز عن سورية ولبنان وفلسطين.

    5 ـ إلغاء تصريح (بلفور) المتعلق بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

    لم تثمر هذه المساعي في الوقت الذي وقع فيه (فرانكلين بويون) اتفاقية أعطت فرنسا بموجبها لسكان إسكندرون وأنطاكية الحق برفع علم يحتوي على الألوان والشعارات التركية. وفي 20 تشرين الأول 1921 تنازل كذلك (فرانكلين بويون) عن أغنى إقليم في شمال سورية، يشكل المسيحيون أكثرية السكان فيه، وهو إقليم (كيليكيا) والذي يمتد فوق مساحة خمسين ألف كم2 من الأراضي الخصبة.

    1922:

    وبعد ذلك اتجه المفوض السامي من جديد إلى السياسة الداخلية وأمر بأن تجرى محاكمة الزعيم هنانو. وفي 15/5/1922 ـ وكان عام التحدي والكبرياء ـ انعقدت محكمة رهيبة، ولكن هنانو لم يرهبها وكان كل الحكام من الفرنسيين العسكريين، (فهم الخصوم وهم الحكام) وكان سعد الله لا يغيب، عن تلك المحاكمة العلنية...

    وافتتحت المحاكمة... وحين قال رئيس المحكمة (المجلس العسكري) للزعيم هنانو: "إن الشعب السوري لم يطلب منك إعلان الثورة: فهل يمكنك أن تأتيني بشخص واحد سوري كلفك هذه المهمة؟".

    وهنا فرق السكون الذي ران على جو المحكمة صوت شاب أنيق وقف ليقول بلغة فرنسية، بعد أن فجّر ألمه جرأة وإقداماً: "يا سيدي الرئيس... أنا أدعى سعد الله الجابري، من أبناء هذا البلد ومن مثقفيه... أنا والألوف معي كلفنا إبراهيم هنانو مقاتلة فرنسا التي دخلت بلادنا دون حق، ومن حقنا أن نقاوم الاحتلال الأجنبي بقوتنا المسلحة، وإن المجرم يا سيدي الرئيس هو من يعتدي على سلامة الناس وحرية الشعوب لا ذلك الذي يدافع عن استقلال بلاده ويجابه حراب السنغاليين في سبيل تحرير أراضي آبائه وأجداده. إننا نحن الذين طلبنا من الزعيم الكبير مقاتلتكم ونحن لن نتخلى عن مقاتلتكم ما دام فينا وطني واحد، حتى تخرجوا من بلادنا".

    دوّت قاعة المحكمة بالتصفيق، فغضب رئيس المحكمة وصاح بالحراس: "أوقفوا كل من صفق هنا"، ثم التفت إلى سعد الله الجابري وقال لـه: "تلك هي نظريتك، ولكن إبراهيم هنانو قتل وفتك ودمر، فماذا ترى في ذلك؟".

    فردّ الجابري: لقد أعلن إبراهيم هنانو الحرب عليكم باسم الشعب السوري العربي، والقتل والفتك والتدمير نتيجة طبيعية للحرب التي خضتم غمارها.

    فقاطعه رئيس المحكمة قائلاً: "شكراً لمعلوماتك التي نحن بغنى عنها".

    وانتهت المحاكمة بعد صراع مرير بين الحق والباطل...

    هذه الجرأة الكبيرة في ذلك الوقت كانت مبعثاً لثقة الشعب بسعد الله وكان الوطنيون لا يقضون أمراً إلا بإرشاده ورأيه... ويصف شاعر سورية عمر أبو ريشة موقفه هذا ويقول:

    ما نسيناه يوم جيء بإبراهيم=بين الحراب والأجناد
    وتلقته سدّة الحكم خجلى=منه، من جرحه، من الأصفاد
    وهجان القضاة تلمع في أحدا=قها الزرق مدية الجلاد
    سألوه عن صحبه فأبى أن=يقفر الغاب من حمى الآساد
    فسرى الصمت يحبس النفس المت=عب في رهبة القضاء البادي
    وإذا زأرة يموج لها الجمع=وتدوي صخابة الأرعاد
    وإذا سعد الأبي مطل=ثابت العزم مطمئن الفؤاد
    صاح: إني فرندُ كل حسام=شهرته كف العلا للجلاد
    كيف أغفو على فراش الأقاحي=وهنانو على فراش القتاد
    أنا زودته بما ألقت الأيا=م فينا من عدة وعتاد
    فاغسلوا ذل كيدكم بدمائي=واحملوا هامتي على الأعواد
    حبذا الموت إن رأيت على=موتي حياة لأمتي وبلادي

    أمام تخوف الفرنسيين من تخطيطه ونشاطه، بدأت سلسلة طويلة من القهر والإذلال بإصدار أوامر وأنظمة تقيد كل فكر وحركة.

    وراحت سورية تغرق شيئاً فشيئاً تحت نير حديدي ظالم، وبدا هدف الاستعمار واضحاً، وهو تفريق البلاد والمحافظات وعزل بعضها عن بعض إدارياً ـ واجتماعياً وإقامة حواجز وحدود بين فكر وفكر وعائلة وعائلة.

    ولعل سياسة تمزيق الأوصال في الجسم الواحد، يضعف بل يميت هذا الجسم، ولا سيما عندما يغذى جزء على حساب جزء آخر. وبسياسة التفريق والمحاباة، وتدليل بعض العناصر وإغرائهم بالوظائف والرشاوى، استطاعت السلطة أن تشتري بعض الأفراد بينما صعب شراء البعض وصعبت مساومتهم.

    وعندما انتهت المناوشات بين فرنسا وتركيا في كيليكيا وتم التفاهم بينهما عقد مؤتمر في لوزان ـ سويسرا، لحل قضايا الشرق.

    فتوجه الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري إلى استنبول في شهر تشرين الثاني واتصلا بالسياسيين الأتراك ليبقى التنازل عن البلاد العربية للعرب ذاتهم، لا لفرنسا؛ ولكن تركيا رفضت وتمردت، فقويت فرنسا بهذا الرفض وراحت تلجأ إلى سياسة التفتيت والتقسيم... وأصبح الشعب السوري الذي لا يملك جيشاً ولا سلاحاً كالتائه على صدر الرصيف يهاجر من استعمار إلى استعمار.

    وسارت السلطة على مبدأ (فرّق تسد) في كل مسالكها، وقسمت سورية إلى دويلات أربع وهي: دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة جبل الدروز وأمام تقطيع الأوصال التعسفي راح سعد الله يسعى لجمع الكلمة، ولكن السلطة الاستعمارية راحت تراقب تحركاته وتتجسس على تجمعاته، بيد أنه لم يبالِ فمضى يشيع في النفوس تقبل مبدأ (الوحدة) بين المحافظات والتي لا يمكن لإحداها أن تستغني عن الأخرى.

    ولكن الفرنسيين زادوا في الضغط، وأوجدوا المحاكم المختلطة وأكثروا من الأزلام والعملاء لاسيما من الطوائف المختلفة، وكان سعد الله يستغرب سياسة التفريق التي تقوم على أساس الأديان، وكان يقول: "في العراق مذاهب دينية كثيرة، ولكنهم لم يقسموا البلاد تبعاً للمذاهب والعرق، ولم يكن اختلاف الأديان في سورية يقوم بوجه الوحدة والاتحاد".

    ولم يكتف الفرنسيون بسلوكهم هذا وإنما زادوا في التحدي إذ عمدوا إلى عملية تخريبية وهي غسل الأدمغة وتفريغ الشعب السوري من الداخل. وأدمغة الجيل هي (الغاية) الاستعمارية، فعندما تملأ هذه الأدمغة بقيم ومفاهيم لا جذور لها ولا أساس في تكوين الفرد السوري وتربيته، فسوف يشب الجيل كما يريد التبشير المدرسي الاستعماري، والذي خلق في الواقع، جيلاً مضطرباً مخلوعاً من تراثه وروابطه واتصالاته النفسية والاجتماعية، لأن برامج التدريس في الأصل وضعت بنهج استعماري...

    وكثرت المدارس هذه والتحق كثير من أبناء الشعب بها، حتى نشأت فئة ترعرعت في معاهد الأجانب وهي بعيدة جداً عن التفكير القومي الصحيح والانتماء إلى الوطن والجذور؛ واتجه التدريس نحو تمجيد فرنسا، وكرست كتب التاريخ لدراسة تاريخ فرنسا وبعض البلاد التي غفت تاريخياً ونامت حضارتها، كبلاد الفرس وبابل وآشور، وألغي تدريس التاريخ الوطني لخلق فجوة بين حاضر وماض، ولحق الأذى فكر التلاميذ، إذ نشؤوا وأفكارهم وقلوبهم مزروعة بحب فرنسا وحضارتها؛ ويشهد الكثيرون حتى من الأساتذة الذين أرغموا على تدريس هذه المواد؛ كيف أن الطالب يعرف عن ظهر قلب كيف يرسم خريطة فرنسا، ولكنه يجهل أن يرسم خريطة سورية أو أي بلد عربي آخر...

    ونتيجة لذلك غسلت الأدمغة، وبعدت المسافات بين الجيلين وذاب التجانس في الرأي والمواقف واضمحلّت المفاهيم المتقاربة والمتوحدة، وضاع فهم الأمور على حقيقتها.

    وهكذا استطاع الاستعمار الفرنسي أن يحدث شروخاً في نفسية الشعب الواحد، وأن يحدث اختلالاً في التوازن الاجتماعي القائم؛ وظهرت ارتكاسات اعتقادية وسياسية متنافرة بين الأفراد. ولكن الشعب تابع نضاله من أجل الوحدة بين المحافظات.

    وفي 22 حزيران أعلن مجلس الاتحاد الوحدة التامة لسورية بناء على تقرير فاخر الجابري كما أعلن عن المجلس التأسيسي بناء على طلب الحكومة، وبعد شهر تقريباً، وفي 24 تموز 1922 تقرّر في عهدة لوندرة (صك الانتداب)، وقد جاء في مادته الأولى:

    ـ تضع الدولة المنتدبة في خلال (3) سنوات تبتدئ من دخول هذا الانتداب دور التنفيذ، دستوراً أساسياً لسورية ولبنان وهذا الدستور الأساسي يوضع مع السلطة المحلية. ويجب أن يراعي فيه حقوق وأماني جميع السكان القاطنين في البلاد المذكورة.

    يقول سعد الله الجابري:

    "هذا الصك في ثلاثة أرباع مواده ـ إشارة واضحة للتنقيب عن الآثار ولذلك كان حذراً وقلقاً في رؤاه المستقبلية. فقد تكون هذه المواد جسراً لسيطرة سياسة من نوع جديد. ونصت المادة الخامسة من هذا الصك على أن المزايا والحصانات التي كان الأجانب قد حصلوا عليها سابقاً لن تكون نافذة تحت الانتداب؛ ولكنها تعود بمجرد زواله؛ وهكذا فإن صك الانتداب أعطى فرنسا وبريطانيا العظمى حق التدخل في الشؤون الداخلية حتى بعد زوال الانتداب".

    وتابع غورو سياسته في تمزيق سورية حيث أصدر قراراً بتاريخ 24 تشرين الأول 1922 أقام فيه دولة الدروز ـ ولم يكن عدد سكان الجبل وقتئذ يتجاوز 40 ألف نسمة.

    ذكر الكاتب السياسي باتريك سيل "Patric Seal" في كتابه "بلاد العرب The Arab Countries" رأي سعد الله في سياسة شاءت أن تقضي على البلاد العربية؛ يقول سيل (مترجماً) رأي سعد الله: "إن تجزئة سورية، يتعارض مع بنيتها السياسية والطبيعية والجغرافية وقد كانت التجزئة نتيجة لتحالف قوى أجنبية، تمت بشكل سري وعلني وفرضت على الشعب السوري بالقوة.

    والسوريون، كباقي العرب المخلصين، يرغبون في الوحدة خاصة في هذا العصر الذي يشهد ذوبان الكيانات الصغيرة، والقضية السورية تشمل أربعة كيانات هي: سورية، لبنان، فلسطين، وشرق الأردن.

    وهناك عوامل أساسية تأخذ دورها في تشكيل مطالب الوحدة في المنطقة، بغض النظر عن شكل الوحدة المنشودة، وهي التي وجهت نضالنا في السابق ضد جميع المعيقات.

    وبعد مضي عشرين عاماً أضحت كل دولة تعيش على نمط عوّدت شعبها على أن يناسب أسلوب معيشته الحاضرة وحسب قيمه الخاصة.

    وتبعاً لهذا التغير المفروض، تعين علينا أن نغيّر سياستنا طبقاً لهذا التغيير المستجد وذلك بأن نسعى لقبول التسوية وإقناع الطرف الآخر بذلك؛ على أن تبقى دمشق (العاصمة) وأن يكون الحكم فيها جمهورياً؛ ونحن نصرّ على الوحدة على أن نترك اختيار شكلها للمواطنين.

    إن شعب لبنان بما فيه من أقلية مسيحية وغالبية إسلامية وذلك في المناطق التي ألحقت بلبنان بعد الحرب الكبرى، يرغبون في الانضمام إلى سورية دون قيد أو شرط، ونحن نتوق إلى إقامة سورية الكبرى، وإلغاء التقسيم المفروض علينا بالقوة، وبالمنافع الأجنبية وطمع خصوم سياسيين؛ ونحن نريد الوصول إلى هذه الغاية بكل وسيلة ممكنة، يختارها أهل المناطق المسلوخة عن سورية، ونحن لا ننكر العقبات الكبيرة التي تعيق حركتنا. يقول سعد الله: "إن هذا الشكل من التعاون بيننا وبين لبنان، يمكن أن يتخذ مثالاً يُحتذى لشكل التعاون بين بقية المناطق التي سلخت عن سورية؛ إلى أن تتم الوحدة وتنتهي هذه التجزئة التعسفية... وفي الواقع فإن تقسيم سورية قد أخّر نموها وتقدمها وغيّر موقعها من مكانها الصحيح. ومن خلال رغبتنا في تحقيق هذه الوحدة، بالإقناع المسالم والتفاهم المتبادل نود أن نؤكد على ضرورة إبقاء دمشق عاصمة والنظام جمهورياً لكل المؤسسات القائمة على سورية".

    1923:

    ولكن على الرغم من المساعي السياسية كلها والمؤتمرات جميعها بين البلاد العربية، فقد أعلن تطبيق صك الانتداب في سورية ولبنان في 5 تشرين الأول 1923، أيام الجنرال (ويغاند).

    بيد أن فرنسا لم تقم بتعهدها وفق صك الانتداب، بل تمادت في حكمها المباشر محتفظة لنفسها بحق التشريع والتنفيذ، وكان سعد الله يكتب العرائض، عرائض احتجاج على حق الانتداب؛ ولكن الاستعمار سادر في حركته السياسية التي رسمتها الدول العظمى.

    ترى هل أخذت فرنسا بعين الاعتبار احترامها ومراعاتها لحق الشعب وأمانيه وهل كان يسمح للوطنين الإعراب عن رأيهم سلباً أو إيجاباً؟ في الواقع... كان عام 1923 مسرحاً لثورات كثيرة، ولم تنطفئ نار الثوار وحسب تصريح الجنرال (ساراي) المندوب السامي الثالث لسورية ولبنان قال: "لقد قامت في سورية ولبنان عام 1922 خمس وثلاثون ثورة ودفن فيها من الجيش الفرنسي /5/ آلاف جندي".

    1924:

    وفي هذا العام وافقت عصبة الأمم في 29 أيلول على صك الانتداب في قصر سان جيمس في لندن؛ وكان سعد الله الجابري في حلب؛ وأراد أن يفجّر إطار الإمكان الإنساني والوطني لدى الحلبي، وراح يسعى لتهيئة النفوس ويجمع المخلصين للقضية ـ حتى بدت وكأنها هوس وطني مضفور مع أواصر الحياة....

    بيد أن الخوف من السلطة الفرنسية كان مسيطراً على النفوس، والخوف على الراتب كان يقلق البال، قال سعد الله: "إن أكثر الناس في حلب يودون الذهاب للسلام على ملك الحجاز ولكن الخوف مؤثر عليهم".

    وراح بعض الوطنيين يسعون معه لتمكين قيام الوحدة؛ وضم شمل المحافظات التي سلخت، وكان أن سافر عبد الرحمن الشهبندر إلى أميركا، ووجه نداء إلى الشعب الأميركي يطلب فيه وحدة سورية ويرفض الصهيونية، وذكر سعد الله في يومياته: "قرأت أن عبد الرحمن الشهبندر قد عاد، واستقبل من الشعب، ولكنه أنزل من قبل السلطة في محطة (القدم) عوضاً عن محطة الحجاز كي لا ينطلق ولا يكدر... ولكنه خطب بالشعب، ورأيت بين سطور الخطبة شيئاً من الجرأة بالمطالبة بالاستقلال والحرية، أرجو أن يكون زعيماً حقيقياً للبلاد...".

    وأرسلت ثلاث برقيات للشهبندر تهنئه بالوصول كما أرسلت برقية لعبد الحميد كرامي في طرابلس الشام ولشكري الجندي في حمص لعودتهم من منفاهم وهذه صورة برقية للشهبندر: "سرت البلاد بمقدم ابنها البار وركن وحدتها واستقلالها؛ لازلتم حاملي لواء الجهاد المفدى المقدس".

    واستبشر سعد الله خيراً إذ انعقد أمله براقاً في شخص عبد الرحمن الشهبندر، ولكن ازداد ضيق الاستعمار من نشاط سعد الله وتحركاته فحاولوا استمالته وتقريبه منهم، ولكنه لن يخضع لمستعمر؛ قالوا عنه إنه عنيد متصلب، ويذكر سعد الله في يومياته: "نقل إلي الطبيب صبري فرح أن الفرنسيين يعيروني (كالخشبة) لا تقبل المرونة؛ ويريدون المذاكرة، ولكنها تبدو صعبة معي... فأجبته: "هم الذين رسوا هذه الخشبة واضطروها لترك مرونتها بشرائط سياستهم وإدارتهم المتحضرة".

    "والواقع أنه لا يمكن أن يمر يوم ولا نرى ولا نسمع ما يزعجنا، بما يأتيه الفرنسيون في البلاد، دعت التجار لتسألهم رأيهم في الوحدة، فما كانت توجه سؤال الوحدة إلا وتضيف إليه من التهديد والتخويف بأساليب مختلفة لكي يكون الجواب سلبياً؟ فمن جملة ذلك لما سألت عبد القادر جزماتي وكوزم وهما من أغنياء التجار في حلب أضافت قائلة: دمشق واردها أقل من وارد حلب فحلب تضطر للبذل وإنفاق واردها على دمشق؛ وبذلك ستضيع ثروتها بغير موضعها؛ فهل تطلبون الوحدة؟ أمام هذا السؤال والتهديد، وأمام التاجر النفعي الخائف لابد وأن يكون الجواب سلبياً ومع ذلك فالأمر كله كان خديعة؛ وما تريده فرنسا هو إسكاتنا عن مطاليبنا، ولكن إن شاؤوا أو أبوا لابد أن يأتي يوم ننال ما نتمناه رغم أنوفهم".

    وبدأ سعي جديد وأسلوب جديد في التعامل مع بعض الشخصيات، في سبيل إيجاد توازن جديد؛ وفي تصور سعد الله أن يتعاون الأفراد في تكامل اجتماعي وسيكولوجي ليظهر للفرنسيين أن أهل حلب يد واحدة وصوت واحد. قال: "يشاع بأن الوحدة تقررت بين الولايتين حلب ودمشق، ولكن دون أراضي اللاذقية، وما عدا أراضي اسكندرون وإنطاكية، لم أفهم معنى هذا إلا ما هو مأمول من الفرنسيين، ومع ذلك أرضى بالوحدة التي أطلبها أنا، ولو كانت بين دمشق وحلب...".

    "قرارات...! ونعمم القرارات... ولكن هل ينفذونها؟ أم تهمل كبقية القرارات...؟"

    يقول: "أتاني كتاب من حسني البرازي، يكلفني الذهاب إلى عمان، وهذه نيتي وقصدي، ولكن مشاغلي وقلة دراهمي... كيف العمل بهم؟".

    كان ينفق من جيبه الخاص ما يستطيع "أرسلت برقية إلى الملك وحفظت الأصل عندي، ودفعت /704/ قروش سورية، ولم يتبرع أحد من أصحاب الإمضاء بشيء.."

    كان ينفرد بحمل المسؤولية، وإرسال البرقيات على نفقته الخاصة؛ يقول: "كُلفت بالسفر وكنت أود ذلك من صميم نفسي، ولكنني أخاف من الشغل العالق بي وهو مشكلة الوقف قاتل الله هذه الأمور تنسي الإنسان أفعاله الوطنية وواجباته".

    وعندما كان يقارن بين الحركة والتحرك الوطني في حلب وغيرها من المحافظات؛ كان يرى أن المحافظات تنشط وتعمل، ما عدا حلب التي لعبت بها الأهواء والنوازع السيئة، بحيث فرقت حتى بين الأهالي في الحي الواحد، وأضاعت كلمتهم ومزقت وحدتهم، وخلقت بينهم كثيراً من الجواسيس حتى من بين الفئة المثقفة من أهالي حلب.

    "واليوم مساء في اجتماع أحد الجوامع، جمعتنا الصدف مع بعض العلماء، فطلبت إليهم أن يهنئوا الملك حسين بقدومه إلى سورية، فما رأيت منهم إلا الاستنكار معللين بأن هذا الرجل غير محبوب من الناس؛ بدعوى أنه كان ضد الأتراك؛ وأبدى هذه الفكرة الشيخ أحمد الزرقا ولكن ذلك كان تفسيراً لآرائه لا الشعب".

    وأدرك الفرنسيون ذلك حتى صرح مدير الاستخبارات الفرنسي عندما قال لنجيب الريس: "إياك والشغل بالسياسة هنا في حلب؛ لأن حلب غير دمشق، ما يجوز هناك لا يجوز هنا؟ لا تفسد الأهالي، ولا تعلمهم أفكاراً هم بعيدون عنها".

    وحار الفرنسيون وكان لابد لهم من أن يوقظوا حركة تفسد ما بين الشعب، وبعدما أعلنت الوحدة الكاذبة أوعزوا إلى بعض الأشخاص في حلب بأن يطالب أن تكون حلب (عاصمة الدولة) وهذا أمر لابد من أن يصيب هوى في نفس كل حلبي؛ لأن المنفعة تقضي بذلك، والناس لا تدرك أن هذا العمل مناورة للإيقاع بين دمشق وحلب، ويكون ذلك واسطة للإدعاء بأن الشعب ممزق ومفرق لا يتفق على شيء حتى ولا على العاصمة([3]) ولا يملك وحدة الكلمة.

    وكبرت الشائعة وراجت، وفرح بعض الحلبيين بجعل مدينتهم عاصمة و"الشائعة قوية في قضية العاصمة ونقلها إلى حلب، حتى جرائد دمشق تكتب ذلك، فإذا تحقق هذا دل على أن الفرنسيين يصارحوننا بالتلاعب([4]).

    وفي الواقع بدأت الأهواء الشخصية تلعب في نفوس الشعب المستسلم للواقع المريض طمعاً في قضاء مصالحه؛ وكان هم فرنسا الوحيد أن تزعزع الثقة في التفكير الفردي المستمر بكل الطرق والوسائل، وتراها نجحت لحد كبير لاسيما وقد استمالت شخصيات كبيرة إلى جانبها. وقد شبّه سعد الله وضع سورية في ذاك الحين للأندلس أيام الانحطاط قال: "الله يأخذ بيد هذه الأمة التي أصبحت كالأندلسيين أيام انحطاطهم تتقاذفهم مطامع الأجانب وتضاربهم بعضهم ببعض"([5]).

    وإذا كانت الحضارة في جوهرها أخلاقية، فإن الأخلاق فسدت وأصابتها الميوعة ودخلت المنفعة قلوب الناس وأوصلت الشعب إلى واد غير ذي قرار. وأراد الفرنسيون من جديد أن يزيلوا الروابط الأخوية بين الأفراد فدخلوا عليهم من باب الدين حيناً ومن باب التنافس الوظيفي حيناً آخر، ومن باب المراكز الحساسة في قيادة البلد! وهذه كلها أسلحة فتاكة، إلى جانب إفساد الذمم والضمائر مع تفقير الشعب والتقتير عليه، وإلى جانب تأليب عناصر الفتنة والخراب والتخريب بأيد مجهولة وشحن النفوس بالقهر والإذلال أمام مخالفات بسيطة، لا تشكل أي جرم أو جنحة في الأحوال العادية، وهكذا كانوا يثيرون المواقف ويشعلونها دون أن تتلوث أيديهم...

    وكان الباب الخطر الذي دخلوا منه هو باب الدين فرغم أن الحلبيين كانوا يعيشون بانسجام وحب مع الأقليات والطوائف كلها؛ فقد تمكن الفرنسيون وقد نبتوا في كل مكان، من ذر الغبار في عيونهم، وزرع النكد بينهم؛ وأرادوا بذلك تفرقتهم عن طريق الدين (وتلك نقطة حساسة جداً لأنها تتعلق بالمزاج والكرامة الشخصية عند كل فرد).

    ولجأ الفرنسيون إلى أساليب وطرق منوعة لتفتيت الشعب من الداخل عن طريق أخلاقه ودينه وراح ينتظر ارتكاس الشعب وردود أفعاله.

    يذكر سعد الله في يومياته: "شاهدت البارحة أمراً يدل على ما للفرنسيين من التعصب الديني، ويتظاهرون في بلادهم بإنكاره، وهو أن مطران الكلدان النازل في أوتيل بارون، ذهب إليه الجنرال الفرنسي، فأركبه سيارته وأجلسه إلى يمينه، وأوصله حتى النزل؟ ونزل قبله وودعه بكل احترام وعاد".

    "أمر تافه لأول وهلة... ولكن لو قسنا هذه المعاملة بما يعامل به المفتي والقاضي وبقية علماء الإسلام، وما يصيبهم من الإهانة والاحتقار منه ومن بقية السلطة "لاتضح الفرق في المعاملة وفي التعصب"([6]).

    هذه بعض مظاهر التفرقة وإشعار فريق بتميزه على فريق آخر حتى أصبح هذا التفريق رسمياً؛ في مذكرات سعد الله الجابري قوله: "اليوم 1/1/1924 اليوم عيد رأس السنة عند الغربيين، وأجري لـه احتفال في دوائر الفرنسيين، وعطلت دوائر الحكومة على الإطلاق؛ وصار لـه مظهر كبير في هذا البلد؛ ولم يكن لـه في الأول كذلك؛ لا أقول هذا لسبب يبنى على التعصب الديني مطلقاً، بل مما يدل على تسلط الفرنسيين على البلاد وأزالوا صبغتها؛ كنا نبتهج بأعياد المسيحيين أكثر منهم، ولكن هذا الأمر لم يكن([7])".

    وفي الواقع ليس لدى الجابري أي تعصب ديني؛ والدليل أن رفقاءه في الجهاد وفي المواقف الوطنية، بل حتى في الانتخابات فيما بعد، كانوا من المسيحيين، فهناك أدمون حمصي وميخائيل ليان وسليم جنبرت وكان يعتمد عليهم في مواقف كثيرة.

    وأدرك سعد الله أن فرنسا تسعى بإلحاح إلى التفرقة الدينية في سبيل تفكيك الأسرة السورية وفتح هوة بين الأقليات؛ وتعريض المسافات وإكثار الفروق بين مختلف الطبقات، لأنها تريد أن تجزئ سورية باسم (الأقليات) والطوائف والأديان، على الرغم من أنها لا تطبق سياسة التفريق العنصري على أرضها وفي بلادها. إنها تخلق سوء التفاهم بين الأقليات وتدعو إلى تفريغ البعد التاريخي، بيد أن فلسفة الشارع، التي تنبع من عمق المشاعر والأحاسيس الشعبية المتأصلة، والتي يشعر بها الزعماء المخلصون، هي التي تتجلى بالأغنيات و(الشديات) وتنطلق بها أفواه وحناجر الشعب والمتظاهرين، وهي تنادي بحماسة شديدة: "بدنا الوحدة السورية، إسلام ومسيحية".

    أي أن الشعب في الواقع لم يفرق بين إسلام ومسيحية، وذلك دليل على روح الإخاء المنتشرة بين المواطنين.

    ولكن السلطة لا تزال تتخذ مختلف الأساليب للتفرقة النفسية بأسلوب تعسفي، حتى استطاعت أن تفتح فجوة بين الإسلام والمسيحية عندما علقت ـ رسمياً ـ الأعلام الفرنسية على المؤسسات والمدارس يوم عيد المولد النبوي وكأنه عيـد الميلاد المسيحي: ولما اعترض سعد الله وانتقد مدير إحدى المدارس أجابه: "أنا تحت الحماية الفرنسية والبلاد كذلك".

    كما رغبت السلطة في "مسايرة السياسة المسيحية التي أخذت تسير بكل متانة واطمئنان بحيث لا يعزل مأمور أو يستقيل إلا وينصب مكانه مسيحي، ونحن لا نقول شيئاً"([8]).

    وامتدت هذه السياسة إلى خارج الحدود السورية ووصلت لبنان؛ فبعد أشهر قلائل استطاعت السلطة أن تمزق وحدة الإخاء الدينية وبشكل رسمي، أيضاً؛ بحيث فرقت بين المسلمين والمسيحيين بعيد استقلال لبنان الكبير، "وعلى ما يظهر أن اللبنانيين أنفسهم ليسوا براضين عن ذلك، بعد أن شعروا بضغط الضرائب والإدارة، ولم تكتف السلطة بهذا العمل، بل أعطت لهذه الدولة صبغة مسيحية رسمياً؛ فتغلق الحكومة وتتوقف الأعمال يوم الأحد، وتعيد بالأعياد الرسمية المسيحية... هذا ما وصلنا إليه"([9]).

    وبعد مدة استفاقت بعض الجرائد حتى أن "الرأي العام كتبت مقالاً هاماً طالبت فيه بحقوق المسيحيين بلبنان"([10]).

    وفي الشهر العاشر من عام 1924، فاز الموارنة والفرنسيون، والأصح الإكليروس والمفوضية، بانتخاب المجلس التنفيذي في بيروت، انتخبوا (ادّه) مرشحهم وديست الطائفة الإسلامية، وهذه الطائفة حائرة في أي طريق تسلك؟ الإئتلاف مع السلطة؟ أم التباعد عنه؟([11]).

    والخلاصة، كان سعد الله يسعى إلى إقامة التوازن بين المصالح لدى الإسلام والمسيحية عن طريق (الشمولية الإسلامية) التي تستهدف تحقيق المقصد الأول للشريعة وهو (العدل) وبذلك لا تترك الضعفاء فريسة للأقوياء ولعل هذا يحقق قول أبي بكر الصديق: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له".

    ([1]) نصوح بابيل ـ صحافة وسياسة سورية في القرن العشرين.

    ([2]) إبراهيم هنانو كردي الأصل، سوري الموطن، ولد في كفر تخاريم من قرى محافظة حلب
    (عام 1899 وتوفى عام 1935) ودخل الثانوية في حلب، وذهب إلى استنبول وانتسب إلى كلية الحقوق الإدارية وحصل على شهادتها وتدرج في الوظائف الإدارية من مدير ناحية فقائمقام، ثم عين (مكتوبجي) في مدينة حلب، كان يتعاون مع صبحي بركات إلى أن استسلم بركات للفرنسيين، فعاداه هنانو إلى الأبد، كما عاداه سعد الله الجابري، لأن بركات في نظرهما يعد عميلاً.


    ([3]) اليوميات: سعد الله الجابري.

    ([4]) اليوميات: سعد الله الجابري.

    ([5]) اليوميات: سعد الله الجابري.

    ([6]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.

    ([7]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.

    ([8]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.

    ([9]) اليوميات عام 1924ـ سعد الله الجابري.

    ([10]) اليوميات عام 1924ـ سعد الله الجابري.

    ([11]) اليوميات عام 1924 ـ سعد الله الجابري.


    __________________________________________________ _______________

    - يتبع -
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

المواضيع المتشابهه

  1. عملاق حلب سعد الله بك الجابري
    بواسطة عدنان كنفاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-11-2016, 08:30 AM
  2. نرحب بالأستاذ/نهاد الجابري
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-23-2013, 11:13 PM
  3. محمد عابد الجابري: يرحل الكبار ولا يرحلون
    بواسطة عبدالغفور الخطيب في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-13-2010, 04:14 AM
  4. رحيل الجابري خسارة للعقلانية العربية الإسلامية
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 05-16-2010, 07:35 AM
  5. بلدي جنه الله في ارضه المحافظه الحضراء ادلب
    بواسطة الأدلبي في المنتدى فرسان السياحة.
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 11-04-2006, 07:18 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •