الارادة والفاعلية لمعرفة العقل
الارادة والفاعلية لمعرفة العقل

ان العقل تختلف معرفته عن أي شيء آخر، وان السبيل الوحيد الى معرفته هي شدة اثارته، حتى يتنبه الى نفسه ويعي مكنونات ذاته بذاته، وقد تبدو هذه الحقيقة مستصعبة لأمرين:

1ـ إن الانسان تعود أن يعرف الاشياء بمُعرّفات خارجة عنها، كمعرفة اللون بالعين ومعرفة العين بالاحساس ومعرفة الاحساس بالعقل، واما معرفة الشيء بذاته فلم يتعودها البشر، فهي مستصعبة عليه لعدم جريان العادة فيها.

2ـ ان جميع توجيهات البشر الفلسفية تقيس معرفة العقل بمعرفة أي شيء آخر وتحاول الحصول عليها بمساعدة امور خارجية، ولذلك فان طريقة القرآن جديدة عليها ومباينة من حيث الاساس مع الرواسب الفكرية لكل من له خبرة بالفلسفة البشرية او نصيب من توجيهها.

من هنا كان علينا توضيح هذه الحقيقة ببضعة نقاط:

أ ـ أنى تصورنا حقيقة العقل، فهي لاتعدو أن تكون واقع الكاشف عن حقائق الكون، ولا ريب في ان حقائق الكون لاتكشف عن ذاتها بصورة آلية، انما يجب الكشف عنها باداة نسميها بالعقل وإذا عدنا الى العقل نواجه حقيقة بديهية هي ان الحقائق التي لم تكن تقدر على كشف ذاتها لاتستطيع ان تكشف لنا عما سواها، وابسط مثل توضيحي لذلك العين التي تكشف لنا عن الاشياء، ورغم ان طبيعة الاشياء موجودة قبل ان تكون هناك أية عين، فان رؤيتها والكشف عنها من عمل العين ـ لامن عملها ـ وحين تريد العين رؤية ذاتها يعرف الانسان ان الاشياء التي عجزت عن ان ترينا ذاتها بدون العين (مثلا في حالة اغماض العين) لن تقدر على جعلنا نرى العين، بل العين هي التي ترى ذاتها عبر مرآة او ما أشبه.
وكمثل مبسط النور يكشف عن المظلمات وفي الوقت ذاته يكشف عن ذاته، حيث لايمكن ان يكشف عنه مظلم آخر وبتعبير ثالث، النور القادر على كشف الاشياء أليس بقادر على كشف ذاته؟، وكذلك العقل لايمكن ان يكشف عن كل شيء ثم يبقى مجهولا.

ب ـ فكيف إذاً تستطيع العين ان تبصر نفسها؟، ببساطة انظر الى الاشياء فإذا رأيتها بوضوح تعرف ان عينك سليمة، أما إذا غشاها الغبار فاعرف ان عينك مصابة، كذلك لو اردت ان تعرف عقلك فأكثر النظر في العلم وفي الحقائق التي بعقلك ومن خلالها حاول تقييم عقلك (او بالاحرى فليحاول عقلك تحليل ذاته).


انهما عمليتان لا بد منهما لكشف العقل: كشف الحقائق والعبور من خلالها الى واقع الكاشف تماما كما تنظر الى الاشياء المضاءة بالنورلا لتكشف عنها، بل لتعبر منها باتجاه النور الذي اضاءها.

وهذه العملية (عملية العبور من المكشوف الى الكاشف) تشبه عملية العبور من الآيات الى معرفة الله سبحانه.

ج ـ بتكرار عملية العبور هذه يزداد وعي العقل لذاته ويقظته تجاه مكنوناته وتشتد ثقته بقدراته، ويقتدر على كشف حقائق جديدة وهذه الظاهرة (زيادة العقل بشدة إثارته) هي الظاهرة التي فشلت في تفسيرها فلسفات البشر، فقال ارسطو: المعلومات تكشف عن مجهولات جديدة، في الوقت الذي لايمكن ـ ان نظرنا بدقة ـ ان تكون المعلومات التي كانت وحتى وقت قريب مجهولات وبحاجة الى الكاشف، تكون كاشفة لغيرها، بل الممكن والواقع هو أن المعلومات تزيد العقل قدرة على كشف حقائق جديدة، فالعقل لا المعلومات يكشف كل شيء، وانما المعلومات تزيده قدرة، ولكن ليس من الصحيح تسمية العقل الذي يكشف الاشياء ب "انا" لما سيأتي (من ان النفس مختلفة مع العقل)، نعم؛ العقل لايكشف الاشياء الا بعد وعي ذاته والثقة بها، ثم حينما يكشف الاشياء يعود ليكشف نفسه من خلالها.

وقال هيجل: تنطلق معرفة الانسان من نقطة الجدل الذي سماه بعض ناقديه بفض الفكر نفسه ـ ولعله عنى بذلك ان الخارج يكون وسيلة ليس إلا ـ نحو المزيد من إثارة العقل.

وهكذا عادت الفلسفات عاجزة عن تفسير ظاهرة التفاعل بين المعرفة وبين العقل في حين ان التفسير الصحيح لذلك: ان العقل يتنبه لذاته كلما تنبه للخارج.

د ـ ومن هنا فطريقة معرفة الاشياء معرفة العقل التي تعني زيادته أيضا، والطريق الى معرفة العقل العبور من خلال المعارف الواضحة إليه، ثم بعد تقويته العودة الى الحقائق الغامضة لكشفها، وهكذا حتى ينكشف العقل بصورة واضحة لنفسه.


وربما يتساءل البعض: كيف تتم النظرة العبورية؟

والجواب: فرق كبير بين أن تنظر الى المرآة كسلعة تقتنى أو كمعبر للصورة المنعكسة من الوجه، العائدة الى الوجه ايضا، ففي الصورة الاولى تكون النظرة ذاتية الى المرآة نفسها وفي الصورة الثانية تكون النظرة " عبرية من اجل الوجه المنعكس عليه.
ولعل الانسان في تلك الحالة ينسى وجود شيء آخر غير العين التي ترى والوجه الذي يرى، أي ينسى مؤقتا وجود المرآة.

كذلك حين يلاحظ الفرد معلوماته على انها اشياء قائمة، يختلف عما اذا لاحظها على انها منكشفات بالعقل بعد ان كانت غامضات ومنورات بالعلم، بعد ان كانت مظلمات ومتمايزات بنعوت واسماء، بعد ان كانت مختلطات في قائمة واحدة، فالخير ـ الذي لايرتاب عاقل في حسنه ـ والشر سواء امام الفرد في لحظة غضبه العارم، إلا انه عاد فميزهما عن احدهما بعدئذ، والنظر العبوري يهدينا الى وجود امر ما في الفرد عندما اكتشف الخير بينما لم يكن من قبل.

إن ذلك الأمر الذي افترقت به حالتا الغضب والصحو هو ما نسميه العقل، وهو الذي يستيقظ كلما عبر الفرد من آياته إليه!، وامتناع النقيض الذي يكتشفه الانسان بعقله بعد سن الرشد او التمييز ولم يكن يعرفه قبل، انه يدل على وجود العقل عند الفرد بعد ان لم يكن، وهو بذلك وسيلة لمعرفة العقل بذاته.
هـ ـ وهذا المنهج الجديد في معرفة العقل لا يختص بثبوت العقل، بل يكشف ايضا لو اتبع مضبوطا عن صفات العقل واسباب زيادته ونقصانه وسبل بلوغه الحقائق.

فأول ما يكشف عن العقل من صفات نفسية ارتباطه الوثيق بالمشيئة البشرية والتي تستنير او لاتستنير بالعقل، اذ إن العقل كأية نعمة موهوبة للإنسان، رغم انه ملك الانسان ومستجيب لحاجاته، لايفرض ذاته عليه، بل يخضع له خضوعا، فأنت قادر على ان تستنير من عقلك فتفكر وتستطيع ان تدع ضوء عقلك ولا تفكر ابدا، وإذا اردت ان تفهم ان الوقت نهار تستطيع ان تفهم ذلك بلفتة، اما إذا لم ترد فيكفيك ان تتوجه الى أشياء أخرى.

وهذه الصفة تهدينا الى اهمية التركيز في المعرفة، إذ ان التركيز لا يعدو التوجه التام الى حقيقة ما، باستعمال العقل كله فيها، كما ان البلبلة التي ليست سوى ضعفا في الارادة وعدم القرار الحازم بها تسبب الضعف العقلي لانها تفقد التركيز.

وحالات الانهيار العصبي الذي يأتي احيانا على الانسان بسبب الغضب الشديد او الشهوة العارمة او الحزن العميق هو الآخر يضعف الارادة فيؤثر على نفاد العقل.

و ـ وإذا كانت الارادة ضرورة عقلية بحيث يستحيل على البشر أن يهتدي دون ان يختار الهداية، ولا ان يعرف دون ان يريد المعرفة، فقد ارتبط حقل التعليم بالتربية والعرفان بالايمان والعلم بالعمل.
إذا، مادامت التربية هي القدرة على ضبط النفس حسب الارادة الحرة ولا يعدو ان يكون الايمان والعمل نوعين من التربية، فان العقل يتاثر بها إذا يتأثر العقل بالارادة.

وانما العقدة التي يعاني منها الضالون عقدة نفسية آتية من فقدهم الارادة التي تحررهم من الرواسب والمخاوف وتجعلهم يفكرون بصورة منطقية، فأول ما ينبغي معالجته فيهم هذه الارادة الكسولة العاجزة، حتى تحررهم من الضغوط الخارجية التي تفرض عليهم نوعا خاصا من الافكار، وهناك فقط يستضيئون بنور العقل الذي سيهديهم الى صراط الحق.
عن المدربين المحتر فين