أوراق ذابلة من حضارتنا




كتبها ( دكتور ) عبد الحليم عويس


علق عليها:فيصل الملوحي

الحلقة الثامنة




سقوط الأخشيديين

من قوانين الحضارة‏:‏

أن المادة والروح لاتفنيان فناء مطلقا.. وأن بذور الخيروالشرلاتموت موتا أبديا.. وأن الخيروالشر يتحولان إلى مادة أولى تُولّد كائناً جديداً ينزع إلى الخيرأوالشر، أو يتعاوران حياته.‏

ويستطيع علماء الحضارة أن يقدموا أمثلةكثيرة تبين تبياناً لالبس فيه أن‏"‏ الخميرة العتيقة ‏"لا يمكن أن تذوب دون أن تدخل في صنع مآدب حضارية جديدة..مثَلها مثَل الجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع، أو كالإنسان يأكل لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى والأسماك..ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى‏.‏‏.‏أو في منح الأرض بعض المواد الكيماوية.
تمرالحضارات الإنسانيةبالدورة الخالدة نفسها..فأثينة برقيّها الفلسفي الأدبي..تتحول إلى خميرة حضارة
لرومية
( rome)،والحضارة الأوربية تقوم على خميرة الحضارة الإسلامية وبقايا الحضارة الرومانية.‏

وعندما زرع أحمد بن طولون أولى بذور الحركات الانفصالية في مصر عن الدولةالجامعةالأم، بدأت بزرعه لهذه البذرة الخبيثة بذورالتفتيت تدب في نفوس قوى كثيرة جياشة بالفوضى‏،‏ زاخرة بالطموح الشخصي، ناقمة على القيادة الجامعة،‏ متأثرة بعوامل تدمرروح الحضارة وتبشر بمستقبل ضائع ميت.. لقد كانت دويلة ابن طولون مثالا لكثيرمن الدويلات التي شذت، وشيدت أبنيتها المتداعية على أنقاض الدولة، ولم يعد لكثير منها علاقة بالعاصمة سوى الإقرار الاسميّ بسلطتها.‏

وبعد السقوط المتوقع لهذه الدويلة عادت مصر والشام إلى الحكم المركزيّ، بيد أن بذرة التفتيت- كما ذكرنا-كانت قد زرعت في نفوس قوى كثيرة، جائشة بنوازع الفوضى..فما كادت دويلة ابن طولون تموت حتى حلت محلها بعد برهة قصيرة- في مصر -دويلة الأخشيديين التي أسسها"‏ محمد بن طغج‏"‏ وعاشت آيلة للسقوط بين سنوات - ۳٢۳ / ۳۵٨هـ - ۹۳۵ / ۹٦۹م ‏.‏

وكانت بدايةهذه الدويلة نظيرة لبداية الدويلة الطولونية، فمحمدبن طغج وكلت إليه الدولة أمرمصر لتنظيم أحوالها..فنظم أحوالها لنفسه واستأثر بالأمر، واستولى على الشام وضم الحجاز إلى دويلته ‏.‏

وبموت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغيران لم يكن لهما من الحكم إلا اسمه..وكانت مقاليد الأمر في الحقيقة بيدعبدخصي حبشي يدعى‏"‏ كافوراً‏"‏أبا المسك"‏-كان ابن طغج الأخشيد-قد اشتراه من تاجر زيت بثمانية دنانير‏.‏
وقد استأثرهذا العبد بإدارة مصر..-‏ وكانت له مع شاعرالعصر أبي الطيب المتنبي قصص ذائعة‏-‏ ونافس دويلة الحمدانيين التي ظهرت في شمال الشام ‏.‏

وعبرخمسة حكام ضعاف باستثناءأولهم محمد بن طغج-تهاوت الدويلة وأسرعت في طريق الموت الحقّ..فلم يكن الحاكمان التاليان لمؤسس الدويلةإلا تابعَيْن لكافور-كما ذكرنا - وبموت كافور وتولي‏"أبي الفوارس أحمد‏" سقطت الدويلة سقوطا مريعا على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله سنة ۳۵٨هـ ‏.‏

ولم يقدر لهذه الدويلة أن تخلف شيئا يذكر من المآثر العامة، ولم تكن فيها الحياة الأدبيةالفنية ذات بال، ولم يظهر كلمعة الشمس المتوهجة إلا ذلك الضيف الباحث عن فَضلة من كأس الحكم..يدعم بها اعتزازه بشعره وكلمته القديرة المسيطرة الآمرة !‏‏!‏ وعندما ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون ‏"‏ تأشيرة خروج "‏ ثمّ لقي حتفه جزاء له..بعد أن حفر حقده على كافورفي لوحة شعرية ذائعة‏:‏

لا تشتر العبد إلا والعصا معه............إن العبيد لأنجاس مناكيد

مريدا بذلك أبرز حكام الدويلة الأخشيدية ‏"‏ كافورا ‏"‏‏.‏

ولولم يُسقط جوهرالصقلي الدويلة الأخشيدية لأسقطها عامل آخر.
إن لم يكن للدولةمسوّغللوجود..فلن يكون لهامسوّغللبقاء..ولن يكون أمام القوى الخارجية التي تهوى التسلّط سوى أن تتقدم في فراغ..فلن تجد أمامها جدراناً حضارية ولا صخوراًفكريّة قوية راسخة‏"‏!‏

لقد زال مسوّغ الوجود ومؤهل البقاء!!






ملحوظة:
نعم! قامت في تاريخنا حركات انفصالية كثيرة، وسادنا التأخر زماناً طويلاً، ولكن الإحساس العام أن كل ذلك عرض زائل، وأن الأصل هذه الوحدة التي لاتقبل التفتيت الشاذّ.