بين نحلة و ذبابة !
بقلم حسين ليشوري
أحيانا يجد الإنسان "العاقل" الحكمة و فصل الخطاب عند كائنات يظنها حقيرة قذرة، و ربما كانت تلك الكائنات حشرات ضعيفة تافهة، إن رآها استبشعها و طردها و إن وقعت على طعامه ألقاه و شتمها، و هذه هي طبيعة هذا الإنسان "العاقل" لكنه المتغطرس، فهو يأنف عن كل ما يراه دونه في العقل و يتأفف من كل ما يتصوره تافها في القدر، و قد يكون فيما يأنف عنه خير جم و قد يكون فيما يتأفف منه فضل تم، و هذا توضيح ما قصر عنه التلميح.
التقت ذبابة صغيرة و نظيفة، على غير ما يظنه الناس في الذباب عادة، على زجاج حجرة مكتبي مع نحلة عصبية لكنها ظريفة. كانتا تحاولان الدخول فضلتا السبيل و ظلتا تنطحان الزجاج بإصرار و عناد و....طنين !
كنت جالسا إلى مكتبي أحاول كتابة مقالة و أنظر إليهما دون أن أراهما ثم اهتممت بهما لإصرارهما و طول عنادهما و أخذت أتمعن فيهما و أرهف السمع لطنينهما فصار يعلو و يرتفع شيئا فشيئا حتى صار كالكلام و إذا به حوار طريف بين الذبابة النظيفة و النحلة الظريفة.
قالت النحلة بنرفزة: طننننننننننن، ما هذا الشيء الذي يمنعني من مواصلة مشواري و الدخول إلى الغرفة لعلي أصل إلى الطاقة الجميلة من الزهور و الورود فأمتص رحيقها و أحمل طلعها إلى دياري لأغذي صغاري ؟ طنننننننننن !
فردت عليها الذبابة بتعالم ظاهر و هي تلهث: أزززززززززز، يقال لهذا الشيء الذي أزعجك و أعجزك عن الدخول: الزجاج، و هو من صنع ذاك الإنسان، و قد حدثت لي، أزززززززززز، معه حوادث مؤلمة كلما وجدته مغلقا، أززززززززز، وكم أفرح عندما أجده مفتوحا فأدخل أو أتسلل من ثقب أو شق، أززززززززز، فأجول في الغرف و أصول في المطبخ و أغتنم كل فرصة سانحة ما لم يتفطن لي الإنسان، أزززززززز، فيطردني أو يحاول قتلي بسمومه الفتاكة، أززززززززز، و ما أكثرها فأفر بجلدي، أقصد: نفسي إلى الخارج آملة في العودة كاليوم فأعيد الكرة ككل مرة، أززززززززززززززز !
قالت النحلة دون توقف و هي تنسف: طننننننننننن، ما أعظم غطرسة هذا الإنسان و تجبره ! ماذا يضيره لو يدعني أدخل فلربما أفدته بما لا يخطر له على بال؟ قالت هذا بضمير المفرد ناسية رفيقتها الذبابة، أما يدري أنني، أنا النحلة، طننننننننننن، مهندسة بارعة قد أشير عليه برأي مفيد يحل له أزمة السكن التي تخنقه حتى صار في صناديقه هذه، تقصد العمارات و الشقق وقد شبهتها بصناديق النحل التي تعرفها جيدا، طننننننننننننننن، كالذباب، معذرة ما قصدت الإساءة، و هو المكرم المحترم !
فتبسمت أنا ضاحكا من قولها و لاسيما من تلميحاتها الذكية، غير أنني واصلت في صمت الإنصات إلى هذا الحوار الطريف.
قالت الذبابة بامتعاض و قد ساءها تعريض النحلة بها: أززززززززززززز، لا تعتذري يا رفيقة، لقد انحطت قيمتنا حتى عند الحشرات فما بالك بها عند البشر؟ و هذا الآدمي الذي يظن نفسه شريفا و هو، إن أعملت الفكر و أنعمت النظر، أتفه من حشرة و إن كانت مهندسة، أززززززززززززززز !
تفطنت النحلة لتهكم الذبابة فنظرت إليها شزرًا و هزٌت كتفيها استعلاءً و هي المعتزة بنفسها و طنَت طنَة طويـــــــــــــــــــــلة : طننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن نن، و طارت مغيرة المكان بعيدا بينما واصلت الذبابة بإصرار نطح الزجاج و لما استأت أنا منها و قد رحلت النحلة و انتهى الحوار، سحبت الستار و التفت إلى موضوعي الذي كنت بصدد كتابته و هو مشكلة التجمعات السكنية "المراقد" و مخاطرها على الأطفال في تنشئتهم الاجتماعية حتى صاروا كالذباب على حد تعبير النحلة !