عرصا من يرسل ابنته إلى الجامعة والشيخ يعقد صفقة تعليمية
محمد إقبال بلّو
تعليم البنات ذلك الخط الأحمر الذي لا يجرؤ أحد على تجاوزه في بلدتي عندان حينها، و ال (حينها) هذه لا تعني منذ مائة عام أو مائتين، بل هي الأعوام العشرة الأخيرة من القرن الماضي، كما أن عندان هنا لا تعني عندان فحسب تلك البلدة الصغيرة في ريف حلب الشمالي، بل تعني معظم أرياف حلب.
جرت العادة على أن تتم الفتاة تعليمها الإلزامي حتى الصف السادس الابتدائي، ومن ثم تستقر بها الحال داخل جدران البيت، لتبدأ الأم بإعدادها لتكون ربّة منزل في المستقبل القريب، إذ غالباً ما يمر عامان أو ثلاثة لتتزوج الفتاة ولتنتهي مرحلة الطفولة كما انتهت قبلها مرحلة التعلم.
ورغم هذه القاعدة والخط الأحمر صعب التجاوز، إلا أن الاستثناءات كانت واردة، ومنها والدي الذي استكمل تعليم بناته في المرحلة الإعدادية ومن ثم الثانوية فالجامعية. كثيراً ما تلقى المرحلة الإعدادية بعض التساهل من قبل السلطتين الاجتماعية والدينية، كونها تتم في مدرسة البلدة، لكن الهجوم العنيف بالأعين والألسن يبدأ عندما ترسل بناتك للدراسة في حلب (المدينة)، وتضطر كل واحدة منهن أن تستخدم وسائل المواصلات المزدحمة وغير المتوفرة بالشكل الأمثل آنذاك، بل وبعد ذاك.
كانت تعتقد نسبة كبيرة أو لنقل عظمى من أهالي البلدة آنذاك أن من يرسل بناته إلى الجامعة (عرصا) فلو تواجدت لديه الغيرة على عرضه، شرفه، نسائه، لما وافق على ذهابهن إلى المدينة للدراسة كل يوم، إذا لا بد أنهن خلال تلك الأيام الطويلة التي تمتد أحياناً لسبع أو ثمان سنوات، لا بد أنهن سيقعن في الرذيلة بعد أن يتعلمن الانحلال الأخلاقي من فتيات أخريات يلتقين بهن في المدرسة أو الجامعة، بينما ستسنح لهن الفرص بعقد اللقاءات الغرامية ولن يكون تأخر الوصول إلى البيت في البلدة أمراً صعب التبرير، إذ أن حجة سوء المواصلات وعدم توفر وسائلها عذر مناسب من وجهة نظر المعترضين.
ورغم أن فتيات البلدة اللواتي يذهبن إلى المدينة للدراسة يمكن عدّهن على الأصابع، إلا أن هنالك عدداً كبيراً من اليافعين والشبّان يسمح لهم بالدراسة في المدينة كونهم ذكوراً، هؤلاء الذكور كانوا أنفسهم يعتقدون أن كل فتاة توجهت لمدرستها في أحياء مدينة حلب، سهلة المنال، فيحاولون التقرب منها بأساليب مختلفة منها ما يعبر عن سذاجة وبراءة، ومنها ما هو أوقح من ذلك. أذكر يوم وصلت أختي باكية إلى البيت، بعد أن (لطّشها) – وهي عبارة تستخدم للتعبير عن التحرش اللفظي غالبا، أحد فتيان البلدة بالقرب من مدرستها في حلب، ويبدو أنها اعتبرت كلمة (مرحبا) أو ما شابه تلطيشاً، ويبدو أنني الطفل الذي أصغرها بأربع سنوات اعتبرت هذه ال (مرحبا) أكثر من ذلك، فسارعت إلى منزل الشاب واشتكيته لوالده الذي كان معلمي في أحد الصفوف الابتدائية، والذي غضب ووعدني بأنه سيتصرف، وسيتصرف معناها أن الشاب سيتعرض لعقوبة جسدية عادة ما تكون الضرب، وليس أي ضرب، ذلك الضرب (اللي بخليك ما تعيدها بحياتك)
والمضحك اليوم المبكي حينها أنك قد تشاهد شاباً أميّاً قد لا يذهب إلى المدينة مرتين أو ثلاث مرات خلال السنة، يفاخر أمام أقرانه كيف أنه تمكن من (تطبيق) طالبة جامعية، ويحكي لهم بداية كيف تعرف عليها وكيف دعاها لتناول فنجان من القهوة، وصولاً لتفاصيل مضاجعتها، فكانت الطالبة الجامعية بالنسبة للشاب الجاهل العدو اللدود والمراد والمشتهى في نفس الوقت، وما نسجه للقصص الخيالية حولها سوى انعكاس لما يصوره له المجتمع المحيط حول الفتاة المتعلمة.
تعرض والدي لضغوطات اجتماعية عديدة تخص تعليم بناته، كانت ضغوطات العائلة أكثرها طراوة، لكنه لم يأبه لما يسمعه واستمر فيما بدأ به حتى وفاته، إلا أنه لم يكتف بتعليم بناته، بل حاول نشر الظاهرة في البلدة، إذ اغتنم فرصة لم يتوقع حدوثها، ففي أحد الأيام زاره الشيخ إمام وخطيب الجمعة، وبأسلوب لطيف لا ينفع سواه مع والدي، سأله الشيخ عن سبب عدم ذهابه إلى صلاة الجمعة، فكان رد والدي أنه سيأتي لسماع الخطبة ومن بعدها الصلاة إذا وعده الشيخ أن يحث أهالي البلدة على تعليم بناتهن، وافق الشيخ على حل اعتبره وسطاً، وهو أن يدعو خلال خطبة الجمعة إلى تعليم البنات في المدارس الشرعية، والتي تدرس نفس المواد التي تقدّم للطلاب في المدارس العامة بالإضافة لبعض المواد المتعلقة بالشريعة الإسلامية والقرآن الكريم، فقبل والدي بهذا الحل واعتبره خطوة جيدة إلى الأمام، وبالفعل قام الشيخ بذلك وبدأ والدي يذهب إلى صلاة الجمعة، أما عن نجاح الشيخ في هذه المهمة فقد حقق تقدماً حقيقياً، وبالفعل ازدات عدد بنات القرية اللواتي توجهن للتعلّم في المدارس الشرعية، وبهذا الخرق الصغير نلاحظ كيف انتصرت السلطة الدينية على السلطة المجتمعية، ورغم إيجابية الانتصار في هذه الحالة، إلا أن سلبياته في حالات أخرى سأرويها لكم فاقت كل توقّع.