على المسلمين اليوم أن يستخلصوا الدروس النافعة لمستقبلهم من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته في بداية إنشاء دولة الإسلام النقية الصافية برجالهاالأقوياء العقيدة ، الفاهمين لمعنى الوطن الحق .
قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة : ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
فالوطن ليس هو المولد والمنشأ للإنسان فحسب ؛ بل هو الأرض التي يعيش منها وفوقها ؛ محفوظ الكرامة آمنا على عقيدته وسربه، مركوزا في روحه حبها ورغبته في الخير لها ، ولمن يعيش معه عليها .هذه دعوة رسالات السماء السامية التي فطرت النفوس على التوحيد ، وعمارة الأرض في نفوس الموحدين المسلمين الطائعين لأوامر خالق الأرض والسماء الواقفين عند حدوده ، والتي ختمتها رسالة ( الإسلام ) ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم للناس جميعا في هجرته من مكة إلى المدينة، وكانت هجرته محققة لهذه الأهداف فسمت دعوته ،وسادت أمته، وارتفع شأن أهلها، فلم تكن الهجرة فرارا من الوطن ؛إلا لأنه لم يكن حاميا لتلك الرسالة السماوية ، بل كان معاديا لها ،ومحاربا لمعتنقي عقيدتها الإلهية ،التي جاءت بها الأديان السابقة ،
ثم جاء الإسلام ليصحح الباطل الذي ساد بغياب الحق عن أصحاب هذه الديانات ،وتحريفهم للكتب السماوية التي جاء بها رسلهم عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام .
لم يكونوا كارهين لمكة بلدهم ؛ استمع لما قاله نبي الهجرة عندما كان يرى حنين المهاجرين لها (اللهم حَبِّبْ إلينا المدينة ، كحُبِّنا مكةَ أو أشد).وهذا الدرس نستخلصه من بنود بيعتي العقبة الأولى والثانية ،بين نبي الدعوة وأهل المدينة ،بأن الدين ليس عبادات فقط ، ولا أخلاقا فاضلة فحسب ؛ لأن الدين الإسلامي شاملٌ لكل التكاليف التي تبدأ بتوحيد الله، ثم بعمارة الكون والالتزام بالأوامر واجتناب النواهي التي رسمها منهج الإسلام الحنيف ،خاتم الرسالات السماوية لكل البشر .
فتغيير النفوس والسلوك إلى مفاهيم الهجرة الصحيحة دورُ كل فردٍ في الأمة ؛ لإعادة بناء مجدها السابق.
ومن الهجرة يمكن أن نبدأ كما يبدأ العام الهجري في غرة المحرم 1437 هجرية ويمكن أن يكون الشباب مستلهما العبرةَ من دور أمثاله أيام الهجرة الأولى للاضطلاع بتلك المهمة؛ من تضحيةٍ بالروح والمالِ وقوةِ العقيدة والعملِ المخلصِ لوجه الله كما فعل الصحابةُ رضوانُ الله عليهم ، وقصة علي بن أبي طالب كرم الله وجهَهُ ورضي الله عنه ؛ في النوم مكان النبي ليلة الهجرة معرضا حياته للخطر دليلهم على ذلك ،
وقصة أصغر مهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك الشاب أسعد بن زرارة ، وعبد الله بن أبي بكر وقيامه بدور المخابراتي الذكي في الهجرة ،وضمرة بن جندب ، وعامر بن فهيرة ، ومصعب بن عمير رضي الله عنهم جميعا فهم من الشباب الذين ضربوا المثل الأعلى في الدفاع عن عقيدتهم ،وهجرة نبيهم وأصحابه إلى موطن الأمن والأمان على استمرار الحق ونشأة دولته ؛أما آن لجيل أمتنا الإسلامية أن يسعى لنهضة أوطانهم والدفاع عن عقيدتهم كما أشار النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الشريف :
( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) .
والمرأة المسلمة اليوم عليها نفس الدور أن تعيَ دروس أخواتها من الصحابيات الجليلات أثناء الهجرة فتتخذه نبراسا لحملها أمانة المسئولية في أحداث الوطن الكبرى اليوم ؟!
ألم تنقل إلينا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قصة الهجرة ودروسها وقفة المرأة المسلمة الشامخة بيقين تمسكها بعقيدتها فيها ؛ كقصة أختها أسماء ( ذات النطاقين )بنت الصديق صاحب رسول الله في الهجرة ،وما فعلته ليلة الهجرة من بسالة وتضحية ، أنها بصمات مضيئة للمرأة المسلمة المجاهدة مع الكثيرات من النساء ؛ هذه أم سلمة المهاجرة الصبور التي مُنِعَتْ من الهجرة قُرابة سنةٍ بعد أن خلع الكفار يد ابنها الوليد ليأخذوه منها بعد إسلامها ، وحبسوها حتى لا تلحق بزوجها المهاجر مع رسول الله إلى أن تدخل رجل من أهلها حتى سمحوا لها بالهجرة ، وهذه أم عمارة نسيبة بنت كعب ، وأم منيع أسماء بنت عمرو الأنصارية ، هاتان الأخيرتان اللتان بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة مع السبعين الذين وفدوا يعاهدون النبي على نصرته والوقوف معه لنصرة الحق ودعوة التوحيد
إنَّ دورَ حَمَلَةِ الدين الإسلامي الحنيف المنوطِ بجميع المسلمين اليوم استلهام النافع من دروس الهجرة النبوية الشريفة كمصابيح لتلك الذكرى التي تهل علينا بمولد هلال المحرم 1437 هجرية لبناء مستقبل أفضل لأمتنا وأوطاننا الإسلامية ؛ بالتأليف بين قلوب أهله من الشعوب ، وإزالة ما تفشى من العداوات والضغائن والخلافات بين أهله؛ مسترجعين ما قامت به عقيدة المهاجرين الأوائل في إنهاء المعارك التي دامت سنين طوالا بين الأوس والخزرج أبناء الوطن الواحد ( يثرب ) وإغلاق ذلك الملف الكئيب من الحروب والقتل وسفك الدماء والفساد الأخلاقي ، ووحدت بين القلوب المؤمنة بالتآخي والمحبة والإيثار فيما رأيناه من أفعال الأنصار مع إخوانهم من المهاجرين إليهم، مما صار يُضرب به المثل في التضحية والفداء ،وإقامة العلاقات الطيبة بين أهل الوطن الواحد، التي أصبح يظلهم فيه عقيدة التوحيد والإخوة والتعاون والسلام .
إن تزكية النعرات العصبية وإثارة الفتن والبغضاء بين أبناء الوطن كبديل لارتفاع الحق وشريعته السمحاء لأكبر مِعْوَلٍ هدمٍ وخرابٍ للأمة ، وتأخرِها عن ركب الحضارة والتقدم نحو المجد.
فالهجرة تاريخٌ وعملٌ لا يموتُ ولا ينقطعُ ، فقد أخرج أحمد والنسائي وصححه ابن حبان عن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فقالوا له : احفظ رحالنا ثم تدخل ــ وكان أصغر القوم ــ فقضى لهم حاجتهم ثم قالوا له : ادخل ، فدخل فقال : حاجتك ؟ قال : حاجتي تحدثني أَنَقَصَتْ الهجرةُ ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حاجتك خيرٌ من حوائجِهم ، لا تنقطع الهجرةُ ما قوتل العدو)
ونحن اليوم بنظرتنا لدروس الهجرة وحسن تخطيطنا لاستعادة مجد الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والتصميم على مستقبل آمن وعادل وكريم في أوطاننا ؛ يمكننا أن نحقق أهداف الهجرة الحقيقية التي دعانا إليها بعد فتح مكة رسولنا صلى الله عليه وسلم .