اكتشاف الطاقات وتوظيفها
علي القحطاني
العنصر البشري هو الأساس لكل نهضة، وهو العماد لكل حركة، وبدونه تموت في مهدها أي فكرة، وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على العطاء فإنما هم بذلك يُصدرون حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم، شاؤوا أم أبوا. وذلك أنهم بتقريرهم هذا الشعور يعلنون العزم المبَيّت على تجميد الحركة والعمل ليصبح ذلك المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة. إن هذه الظواهر الاجتماعية التي يعرفها الخاص والعام قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنهـا؛ فهـي ثابتـة لا تتغيـر، وكـونيــة لا تتبدل. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم»(1).
لقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية؛ فجعلتهم مشاعل هداية، ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية؛ فكان الواحد منهم بأمة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ****إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
إن مما يجدر بنـا أن نستحضـره فـي كـل حـين أنه لا أحد في المجتمع المسلم يمكن أن يوضع في قائمة من هو: (غير قادر على العطاء)، بل الجميع يملكون شيئاً ما ـ إن لم يكن أشياء ـ يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم، وهذا النسق الاجتماعي، قد قرره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله، والتزمته الأمة الإسلامية منذ فجرها الأول.
فلو نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً لتجلّى لنا ذلك في أروع صورة؛ فالصدِّيق أمين السر ورفيق السفر، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد، والصبي ينقل الأخبار ويعفو الآثار، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل وتكامله بحسب القدرة.
وفي المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً: «تصدقَ رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة»(2).
بل في قمة أعمال البذل والعطاء ـ في الجهاد في سبيل الله ـ يبرز هذا المَعْلَم الإسلامي في أجلى صوره؛ فالكل يبذل، والجميع يُضحي، حتى إذا بقي الضعفة والمساكين الذين لا مال لهم ولا قوة يجاهدون بها يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم»(3).
إن خطر وأد الذات وتحييدها عن العطاء لا يمكن تجاهله أو تناسيه، خاصة في هذه الحقبة التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب، وإن هذا الخطر مما ينبغي تداركه وعلاجه حسماً لداء المواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي المنهك.
ومن صور وأد الذات الذي يمارسه أحياناً بعض من يتولى الريادة والقيادة ما يلي:
1 ـ ألاَّ تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل واحد منهم بحسبه، فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع، وقد خلق الله الناس مختلفين: منهم (القادة) ومنهم (الساقة) { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
2 ـ ألاَّ يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال، بل تتكرر الوجوه نفسها دائماً لكل الأعمال، وهذا يقتل الفئتين؛ فالعاملة تُنهك بالأعمال، حتى تصبح غير قادرة على العطاء المثمر، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه إلا هم، وأما الكثرة الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة.
3 ـ الحكم بالإخفاق المؤبد علـى من يُسـند له عمل مـا، ثم لا يتقنه، في الوقت الذي قد يحسن غيره، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا يحسنه(1).
+ لماذا نحرص على اكتشاف الطاقات؟
إن القدرة على الاستفادة من مكامن التفوق، والتميز لدى المرؤوسين بأفضل ما يمكن يعتبر من مسلّمات الإدارة الناجحة. ولكي يتحقق هذا كان لزاماً على الدعاة والمربين معرفة وتمييز هذه المكامن لدى المدعوين والمتربين وهو ما نعنيه باكتشاف الطاقات.
إن توفر الرجال (أولاً)، والقدرة على توظيفهم لخدمة أهداف رسمها لهم القادة (ثانياً) هما طرفا المعادلة الإدارية التي ينتج عنها نجاح القادة.
كتبت إحدى أكبر المنظمات العالمية هذه الكلمات لتعبر عن سر نجاحها وتفوقها: «لقد حققنا هذا النجاح من خلال تنظيم إداري وجو عمل يساعدان على اجتذاب أفضل الطاقات البشرية، وتطوير وشحذ المواهب الفردية».
يقول أحد المفكرين: «إن معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس وأكثرها تأثيراً، إنها ينبوع القوة التي يملكها، إنها سر الرؤساء العظام»(2).
ويمكنا هنا أن نقرر ما يلي:
أولاً: أن توظيف الأفراد في المجالات التي يبدعون فيها يمكنهم من أن يقدموا أفضل ما لديهم لخدمة الأهداف المرسومة.
ثانياً: أن ذلك يعتبر حافزاً لاستمرارية العطاء لدى الأفراد؛ حيث يحققون ذواتهم بتميّزهم وتفوقهم من خلال إمكاناتهم الحقيقية.
ثالثاً: أن في توظيف أصحاب الطاقات في المجالات التي تميزوا فيها تحقيقاً للمزيد من التألق والإبداع في مجالات عملهم.
رابعاً: أن عدم معرفة الطاقات واكتشافها يفضي إلى وضع الأفراد في أعمال لا تتناسب مع قدراتهم، مما يضعف الأعمال ويتسبب في إخفاقها.
خامساً: أن سد الثغرات بالمرؤوسين الأكفاء الذين أحسن القائد انتقاءهم يمكنه من التفرغ والمراقبة عن كثب لمن هم بحاجة إلى توجيه، وبهذا يستطيع من خلال معرفته للرجال سد الثغرات، والارتقاء بالآخرين دون عناء.
سادساً: أن عدم المعرفة المسبقة بالطاقات الموجودة وتوظيفها في وقت السعة والرخاء يجعل العثور عليها في وقت الضرورة شاقاً وعسيراً، كما أنه حتى وإن ـ تم اكتشافهـا ـ آنـذاك ـ قـد لا يكون هناك وقت لتطويرها وصقلها بالشكل المناسب.
المواد الأساسية لصناع الإبداع:
وفيما يلي أهم المواد التي تسهم في صناعة سفينة الإبداع بشرط الالتزام بمصدر التلقي كتابـاً وسنـة وبعـد توفـيق الله ـ تعالى ـ وعونه:
1 ـ الإيمان بأهمية صنع البيئة الإبداعية وبإمكانياته، وبضرورة انبثاقه من قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد: 11]، الأمر الذي يحتم إحداث (انقلاب فكري) في العقل المسلم الجمعي والفردي على حد سواء، ينشأ معه انجذاب صادق للمعرفة لا للمـعرفة ذاتهــا، ولا لتحصيل لذة عقلية، ولا للظفر بشهرة علمية، ولا لتحقيق رغبة دنيوية وإنما هو انجذاب للمعرفة بقصد تطوير الذات وبنائها، لا للتطوير ولا للبناء ذاتهما أيضاً، وإنما للإبداع وللنهوض وللنماء وللعطاء المراد به وجه الله تعالى.
2 ـ الإشاعة في العقل المسلم، والإيحاء في ذاته أن (الإبداع عادة) تُكتسب بشيء من البذل في تعلم وسائلها، والتلبس في خصائصها، والتدرب على تطبيقاتها.
3 ـ تكييف العملية التعليمية والتربوية بما يجعلها دافعاً للإبداع ومحضناً للمبدعين، ومثل هذا التكييف يستلزم بالضرورة إعادة النظر في الأهداف التربوية، ومن ثم في وسائلها وبرامجها؛ بمعنى: أنه يجب أن يكون إكساب المتربين طرائق التفكير العلمي والإبداعي من الأهداف الأساسية.
4 ـ صياغة شعارات جذابة ترسخ أهمية الإبداع، وتبشر بنتائجه وتحتفي بكل ملتبِّس به، والاجتهاد في بثها وإذابتها في النفوس وتفعيلها في العقول.
5 ـ تنظيم دورات ودروس في التفكير العلمي والإبداعي لمختلف شرائح العمل الإسلامي.
6 ـ ضرورة تلبُّس المربين والمعلمين بخصائص الإبداع ـ ولو تكلفاً ـ تجسيداً للقدوة الصالحة.
7 ـ الاحتفاء بالمبدعين، وخاصة الأحداث منهم والاعتناء بهم وتقديرهم معنوياً ومادياً.
المصدر:قضايا دعوية
اكتشاف الطاقات وتوظيفها
تتمة الموضوع:
خصائص المبدعين
كيف يتم اكتشاف الموهوبين والمبدعين؟
صناعة الابداع
العوامل التي تؤثر في نشاط الإبداع
مشكلات في التعامل مع الموهوبين
من منتدى المدربون المحترفون