الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالله -عز وجل- يمينه ملأى لا تـُنقصها نفقة، وهو الكريم الذي أفاض بجوده وكرمه على عباده، ولم يُنقص ذلك من ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، ولو ذابت الألسنة لاهجةً بحمده وشكره لما أدَّى أربابها شكرَ ربِّ العالمين -عز وجل- حقَّ شكره، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك.
ويأتي موسم الجود الذي أنعم الله فيه على عباده بأن أنزل فيه القرآن، وتفضَّل على عباده المؤمنين بأن فتَّح لهم أبواب الرحمة وغلَّق أبواب النيران، فأصبحوا وأمسوا متعبدين بين يديه وقد هبت عليهم نسائم الجنان التي فتحت أبوابها مع أول ليلة من رمضان.
ومن تأمَّل فيما شرعه الله -عز وجل- من طاعات وقربات في هذا الشهر الكريم، وما يسَّر من أسباب لتحقيقها؛ يذوب قلبه حبًّا وشكرًا وشوقًا إلى ربه -عز وجل- الذي من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة.
ومن هذه العبادات المشروعة في رمضان والتي لا يلتفت إلى فضلها وبركاتها كثير من الصائمين عبادةُ السحور، والتي من تأمَّل في خيراتها وبركاتها لعلم علم اليقين أن الله -عز وجل- يريد أن يتفضل على عباده، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (النساء:27)، وإن صغر العمل من العبد، أو كان حتى مجرد أكلة أو شربة ماء، فإن الله -عز وجل- لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، و(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى) (الحج:37).
فنيَّة التعبد لله -عز وجل- في أكلة السحر ونية الامتثال لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- تعلوان بهذه الأكلة من مجرد لقيمات يدخلن جوف الإنسان إلى عبادة من أجلِّ العبادات يثني الله -عز وجل- على فاعلها في الملإ الأعلى.
فمن فضائل السحور أنه من أسباب حلول البركة:
والبركة كلمة عامة تشمل كل زيادة في كل خير في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً) (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَرَكَةُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي الْجَمَاعَةِ، وَالثَّرِيدِ، وَالسُّحُورِ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السحور في رمضان، فقال: (هَلُمَّ إِلَى الْغَذَاءِ الْمُبَارَكِ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).
وعن عبد الله بن الحارث، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر فقال: (إِنَّهَا بَرَكَةٌ أَعْطَاكُمُ اللهُ إِيَّاهَا، فَلا تَدَعُوهُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (السُّحُورُ كُلُّهُ بَرَكَةٌ، فَلا تَدَعُوهُ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
ففي زمان يشكو فيه الغني والفقير من قلة البركة؛ هاهي أسباب البركة بين أيديكم كل ليلة في أكلة، فلا تدعوها.
ومن بركات السحور أنه من شعار المسلمين:
فأهل الكتاب لا يتسحرون، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ) (رواه مسلم).
ومن بركات السحور أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين:
وصلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملإ الأعلى، وصلاة الملائكة على العبد دعاؤهم له.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ) (رواه الطبراني في الأوسط، وقال الألباني: حسن صحيح).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (السُّحُورُ كُلُّهُ بَرَكَةٌ، فَلا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
هنيئًا لك يا من يثني عليه ربه -تبارك وتعالى- في ملائكته، وتدعو له الملائكة بالقبول والرضا؛ لأنه تعبد لله –عز وجل- بأكلة السحر.
ومن بركات السحور أنه استجابة لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
فقد أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ) (رواه ابن حبان، وقال الألباني: حسن صحيح)، ونهى عن تركه فقال: (لا تَدَعُوهُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
وقد قال الله -تبارك وتعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب:71).
ومن بركات السحور أنه في وقت نزول الرب -جل وعلا- إلى سماء الدنيا:
وهذا لمن اقتدى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأخَّر أكلة السحر، فلعله تصيبه نفحة من نفحات الخيرات، ونسمة من نسائم البركات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ) (رواه مسلم).
طوبى لك يا ابن آدم!
تأكل الأكلة، فتنال كل هذه البركات!
فهنيئًا لك هذا الفضل العظيم!
اللهم لا تحرمنا فضلك، وأعنا -اللهم- على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.