أنا وستي والكبة المشوية

لكل ظاهرة سبب ولكل سبب نتيجة ولكل سؤال جواب، هكذا كانت جدتي تفكّر، وتعتقد بأن نظام الكون كله والذي يسيّره الله عزّ وجل بقدرته وحكمته قد بُني على هذا الأساس: فالفصول الأربعة بشمسها ورياحها وأمطارها وثلوجها لم تكن إلا لتفي الأرض حقها فتنبت زرعها لكي تقدم محصولها للإنسان من خضار وفواكه تكفي غذاءة ودواءه .
في يوم دعتني لأتناول الغذاء معها فقبلت على الفور فطبخها لذيذ وتجيد صناعة الكبة المشوية. أقول صناعة لأنها هي كذلك فعلا. على أي حال لا أريد أن أطيل الحديث وخاصة أنني لا أفقه بالطبخ ولكنني قادرة على التذوق.
ذهبت إليها من فوري واستقبلتني استقبالا حارا بالعناق والقبلات تعبيرا عن اشتياقها لرؤيتي. دخلت صحن الدار وجعلت أتأمله، أتأمل هندسة البيت العربي العريق، الجميل، المحتشم. نعم المحتشم فدارك تؤويك وتستر عيوبك وتتنزه فيها على راحتك مع عائلتك وأصحابك و جيرانك ففيها البحرات والنوافير الجميلة والخضرة والزهور والوجه الحسن والنقول والحلويات والقصص الجميلة والفكاهات والألعاب والأغاني والعزف على العود، وكل هذا يبعث السرور في النفس ويزيد من متانة الرابطة الروحية بين أفراد الأسرة. لقد فقدناها وفقدنا السعادة ونحن نسعى لاهثين خلف الحضارة المادية المستوردة.
لنعد إلى الوليمة التي هيأتها لي جدتي، تصدّر المائدة صحنُ الكبة المشوية برائحته الشهية. تناولت قرصا بيدي وكادت أصابعي أن تحترق، فمن المنقل إلى الطاولة والدهن يسيل ويسيل اللعاب، قطعته إلى نصفين وجعلت أتأمله، لقد صنع من قطعتين: القاعدة وقد احتوت الحشوة (من الدهن والجوز ودبس وحب الرمان و الفليفلة الحارّة) والغطاء وهو على شكل قبة تعطيه شكلا مميزا .
قلت لها: إن هذا الطعام وهذه الدهون تؤذي صحتك كثيرا وترفع نسبة الكوليسترول في الدم، أرجوك أن تتوقفي عن تناوله، فأجابتني قائلة:
إن الطعام العربي مدروس ومكوناته لم تكن عبثا فلكل عنصر وظيفة، فاسمعي: إن الجوز الذي ينتمي إلى الكولسترول الحسن ينقّي الدم من الكولسترول الضار. طبعا هذا وحده لا يكفي فهناك صحن المتبل وهو عبارة عن مزيج من الباذنجان المشوي المطحون مع الجوز والثوم ودبس الرمان ومع ما يضاف من زيت الزيتون والبقدونس المفروم قبل التقديم . فمن المعروف أن الثوم يعمل على تخفيض الضغط ودبس الرمان نافع لمرض السكري وزيت الزيتون يساعد أيضا على تخفيض الكولسترول السيئ والفلفل الأحمر الحار يساعد على الهضم. إنما الضرر يأتي بسبب الإكثار من كمية الطعام التي يتناولها الإنسان، فالاعتدال دستور الحياة ونظامها في كل شيء .
قلت في نفسي لا عجب أن الكثير من العائلات السورية يجعلون من المكدوس مؤونة لفطورهم وعشائهم في الشتاء فهو غني بالجوز والثوم وزيت الزيتون، أضف إلى النقول التي يتناولونها وعلى رأسها أيضا الجوز مع اللوز والبندق والتين اليابس والزبيب، فهي كلها مفيدة للصحة.
اعتذرت منها وعاهدتها ألاّ أطرح عليها مثل هذا الموضوع أبدا. وفجأة أحسست بمغص شديد في بطني وقلت لها: "رجاء أحضري الطبيب، تكاد أمعائي أن تتمزق"، لقد شعرت بالخوف ولم أعد أقوى على الوقوف، وهمست لنفسي : "أكيد من الكبة المشوية"
ابتسمتْ وقالت اتبعيني إلى المطبخ حيث أحضرتْ زجاجة فتحتها وقالت: إنه زيت النارنج ويستخدم للأطفال حيث تقوم الأم عند الحاجة بدهن وتدليك مكان المغص نتيجة الإصابة بالبرد وأرشدتني إلى كيفية الاستعمال. وبالفعل فقد شفاني وشعرت بتحسن كبير. عندها خرجت إلى صحن الدار واستلقيت على صوفا كبيرة تحت شجرة الياسمين و جعلت أفكر:
معظم الدمشقيين كانوا يزرعون في البيوت العربية أشجار الياسمين من كل صنف، من الأبيض إلى الأصفر إلى الأزرق ( وهو نادر) والعراتلي، إلى شجر النارنج والليمون والكبّاد. في الحقيقة لم تكن تُزرع فقط لعطرها الفوّاح بفصل الربيع وإنما تزرع لقشورها وثمارها وعصيرها، فمن زهر النارنج يستخرج ماء الزهر الذي يضاف إلى ماء الشرب ويعطيه نكهة محببة كما يضاف إلى الحلويات، وينشط القلب في حالة الحزن والاكتئاب، والمربى منه لذيذ الطعم و ينظم ضربات القلب أيضا، و عصير الليمون مع السكر والماء (الليمونادة) للرشح والزكام .
و بينما كنت أستعرض ما يضم البيت العربي بين جنباته من أشياء مفيدة ومتكاملة من الغذاء إلى الدواء، هبت نسمة ناعمة داعبت وجهي وحملتْ إلي عطر الياسمين فانتشيت وشعرت بسرور يغمرني ودون أن أشعر سحبت لفافة تبغ من علبة كانت في جيبي وأشعلتها، وقبل أن تلامس شفتي هتفتْ جدتي و كانت تتأملني دون أن أدري وعلى وجهها ابتسامة جذابة وفيها الكثير من العتب، وبلهجة ملؤها الحب والحنان قالت:
أبطلي الدخان يا سيدتي العزيزة فإنه مؤذ لرئتيك، كيف تعطين الدروس لغيرك وتنسين نفسك، أليس هذا غريبا؟
شعرت بالخجل وأخذت عهدا على نفسي ألا تمس لفافة شفتي.

كتبتها سناء الخاني