السيدة مليكة أوفقير : كادت أن تصل!!

مرات ومرات أرى كتاب "السجينة" لمليكة أوفقير ... في المكتبة ولكنني لم أحصل عليه .. وفجأة رمى بنسه أمامي نهاية الأسبوع الماضي .. أهدته لابنتي إحدى زميلاتها .. اشتبكت مع الكتاب .. ولم أتركه حتى أجهزت عليه ...كانت مأساة آل بوفقير مشهورة ومعروفة . سبق لي مشاهدة مقابلة مع "مليكة"عبر قناة"الجزيرة"لكن الذي وقع بين يديّ كان عبارة عن سرد ملكية للمأساة على ميشيل فيتوس ،ليخرج الكتاب موقعا باسميهما.
أنبه هنا إلى أن هذه مجرد "خواطر"حول الكتاب،أنا لم أعد قراءته لأسبر حقيقة ملاحظاتي ...على السرد والذي أرى – كانطباع – أن به بعض الفجوات. ولعل مرد ذلك إلى أن السرد أحيانا يتحدث عن أو يجمل مرحلة كاملة مثل المرحلة الأخيرة من الاعتقال – في بير جديد – والتي استمرت إحدى عشرة سنة .. ومع ذلك ..فالحديث مرة عن شح الطعام،والبيض الفاسد ،والخضار المتعفنة .. ووصول المعتقلين إلى مرحلة متقدمة من الجوع،جعلتهم يأكلون الخبر ببول الفئران .. ونفض إحدى أخواتها بعر الفئران عن قطعة خبز ثم التهامها،في المقابل نجد حديثا عن احتفاظهم بالأوراق التي تأتي فيها اللحوم!!وأيضا حصولهم على كمية محدودة جدا من "التايد"لاستعمالها في جميع أنواع التنظيف .. ثم تتحول تلك الكمية إلى كمية كافية – في مرحلة حفر النفق – لتخلط مع الرماد،كمادة بديلة عن الإسمنت .. إلخ.
على كل حال لا أهمية لهذه الفجوات .. فهي صياغة "درامية"لمأساة في واقعها أكبر من كل "دراما".
بدأت قصة "مليكة"من تبني الملك محمد الخامس لها لتعيش أختا لابنته لالة أمينا .. وبعد ذلك تولى الملك الحسن الثاني رعايتهما،بعد توليه الحكم،وبعد أحد عشر عاما .. عادت "مليكة"لأسرتها .. سنة 1969،وفي عام 1972 حصلت محاولة الانقلاب – واغتيال – على الملك الحسن الثاني،واتهم بها والد "مليكة"محمد أوفقير،رجل المراحل المختلفة والمقرب جدا من الأسرة المالكة .. والذي عينه الملك الحسن الثاني،وزيرا للدفاع بعد المحاولة الانقلابية الأولى والتي حصلت سنة 1971. بعد المحاولة الثانية أعدم "أوفقير". وبدأت مأساة الأسرة .. أخذت زوجته فاطمة الشنّا – 36 سنة – وابنته "مليكة"- 18 سنة ونصف- ومريم وماريا وسكينة ورؤوف والصغير عبد اللطيف – عمره سنتان ونصف – ورافقتهما اختيارا سيدتان من أقاربهما،تخدمانهم.
عجيبة من عجائب الشرطة .. الكذب .. قريبا كنت أقرأ كتاب "حكايتي مع السجن"لحنفي المحلاوي ..وتكرر قول الضباط للمثقفين ،وهم في طريقهم للاعتقال .. ساعات أو ايام .. بعضها تحول إلى عقود!! هنا أيضا قيل لأسرة أوفقير .. (وصل قائد الشرطة بعد الظهر،وأعطانا أمرا بتحضير أمتعة تكفي لمدة خمسة عشر يوما){ص 133 – 134 ( السجينة ) / مليكة أوفقير و ميشيل فيتوس / ترجمة :غادة الحسيني / بيروت / دار الجديد الطبعة السادسة 2006}. تلك 15 يوما،تمددت لتصل إلى 15سنة !! أضيف لها خمسة أخرى في "قصر"!!
ملاحظة أخرى في الهامش .. توجد تواريخ محددة في "السرد"رغم عدم وجود "مذكرات"ولكن المرحلة الأخيرة – في القصر – حصلت "مليكة"على آلة كاتبة ..وبدأت في كتابة "ملاحظات" ولكن السرد ظل على نفس الوتيرة!! يما أحسب.
توزعت مراحل حياة "مليكة"على النحو التالي :
قصر سيدي 1958 – 1969
منزل عائلة أوفقير 1969 – 1972
آكدز المحطة المؤقتة 28 نيسان أبريل – أيار مايو 1973
أسوار تامتّاغت 8 تشرين الثاني 1973 – 26 شباط فبراير 1977
سجن الأشغال الشاقة في بير جديد 26 شباط فبراير 1977 – 19 نيسان أبريل 1987
مراكش أو السجن الذهبي1 تموز يوليو 1987 – 19 شباط فبراير 1991

تجدر الإشارة هنا ألى أن عبارة"الأشغال الشاقة" ليست بالمعنى المتعارف عليه .. عمل محدد .. تكسير صخور .. وحملها مثلا .. وإنما هو حبس في زنزانات منفردة .. مرة يلتقون ويمنعون من ذلك في معظم الأحيان.
عندما أقول – في العنوان – كادت "مليكة"أن تصل .. أقصد حديثها عن تخيل حياتها لو لم يحصل ما حصل .. تقول .. ربما كنت سأتزوج .. وأتعرض للكثير من الخيانة – لعلها تقصد كما حصل لوالدتها – وربما انغمست في الخمور والمخدرات ..شأت كثيرات من المغربيات سليلات الثراء و الترف.
هنا لابد من وقفة .. للتذكير بهذه اللقطات :
تحدثت "مليكة"عن الأميرة لالة أمينا بنت محمد الخامس ..( ومربيتها جان ريفل){ص39} .. وأيضا (خلف المنزل أيضا بستان كبير (..) ومدرسة ابتدائية خاصة بالأميرة ومن معها تديرها مدام هيغون،وتدرّس يها الآنسة كابل ){ص 40}.
ولقطة أخيرة ..تربت السيدة فاطمة الشتّا في "مدرسة للراهبات"!!
هل يمكن لمن عشن في مثل هذه الأجواء أن يعرفن حديثا مثل .. (إذا أحب الله عبدا ابتلاه)؟ أو كما قال عليه الصلاة والسلام .. أو حديث ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الامثل فالأمثل)؟ أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
نعم. أجزم لو أن مثل هذه الثقافة كانت لدى "مليكة"ربما .. اقول ربما نظرت للموضوع من زاوية مختلفة.
على مدار السرد .. لم نقرا مرة واحدة أداء "مليكة"لفرض من فروض الإسلام ..بل قالت أنها مسلمة لا تؤدي الفروض .. شيء بهذا المعنى.
ثم حديث – كما نقرا في روايات العلمانيين – حديث وتساؤلات عن الله – سبحانه وتعالى – وعتب .. وغضب .. ثم تعود لتعتذر .. إلخ
هناك استثناء لا يخص "مليكة"بل أمها .. حين أخذت تتلو القرآن بسبب "الأشباح"التي تراءت لهم في أحد معتقلاتهم.
وفجأة .. ودون "حوار"بين العائلة .. وهم يحفرون نفق الهروب .. نجد الآتي :
(وقد أطلقنا على النفق اسم"نفق مريم"كان إيماننا بعجائبية هذا الصليب عظيما،وكنا كل ليلة نصلي مرتين ،مرة ونحن نفتح النفق،ومرة ونحن نغلقه. وبما أننا رفضنا الإسلام لأنه لم يقدم لنا أي شيء جيد اخترنا العقيدة الكاثوليكية.لقد أمضت أمي طفولتها في مدرسة للراهبات وكانت بالتالي تعرف جميع الصلوات عن ظهر قلب و كانت رغم تمسكها بعقيدتها الإسلامية ،وبعد تردد ،قد لقنتنا هذه الصلوات){ص 240 - 241}.
وتقول أيضا بعد اعتقالهم بعد الهروب الكبير ..( ذهب أحدهم كي يحضر كوبا من عصير الليمون. فتحوا النافذة ونصحوني أن آخذ نفسا عميقا.كانت المفرزة تطل على إحدى الكنائس. جلست أنظر بشرود إلى الخارج وإذا بي أرى طيفا يتراءى أمامي.إنها السيدة مريم العذراء وهي تحمل بين ذراعيها طفلها السيد المسيح،وترمقني بنظرات تنضح بالرقة والحنان. كدت أقع أرضا من شدة تأثري.هكذا،إنها كانت هنا عندما كنا بحاجة إليها،ترعانا،وتحمينا.){301}.
في الهامش .. جاء في مقدمة الكتاب التي كتبتها السيدة ميشيل،وهي تقارن بينها وبين"مليكة" :
( ..والمهنة والطباع والدين،فهي مسلمة،أما أنا فيهودية،لكننا من جهة أخرى ننتمي إلى الجيل نفسه){ ص 16 - 17}.
هل يعني هذا أن"مليكة"عادت إلى الإسلام .. أن "ميشيل" لا تأخذها على محمل الجد؟!!
غني عن القول أن للسيد المسيح وأمه – عليهما وعلى نبينا السلام – مكانة عالية في الإسلام .. بل إن إسلام المسلم لا يكمل إلا إذا آمن بنوبة المسيح .. وقد ذكر الداعية"ديدات"أن اسم العذراء – عليها السلام – ورد في الكتاب المقدس 18 مرة .. بينما ورد في القرآن الكريم 32 مرة .. ولا يوجد "إصحاح"باسمها بينما توجد لدينا سورة "مريم".
بقي سؤال لماذا انتقلت "مليكة"إلى الكاثوليكية تقول .. لأن الإسلام لم يقدم لهم شيئا جيدا.
واضح أنه غاب عنها أن الدين من حيث هو – يهودية ونصرانية وإسلاما : وكلها إسلام في الأصل وفي الختام – بني على "الابتلاء" و"الصبر" ..فكيف لم تلاحظ .. حسب زعم النصارى .. أن السيد المسيح – عليه وعلى نبينا السلام – تم صلبه – في معتقدهم الباطل : "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" – ثبت على الصليب .. وسمر بالمسامير .. وصلب .. لماذا لم تتدخل "العذراء"لتنقذه كما أنقذت "مليكة"وأسرتها .. وتحميه؟!! كما أن تاريخ المسيحية مشحون بقصص تعذيب القديسين .. وقتلهم .. وحرقهم .. وسجنهم .. ولم تدخل العذراء لإنقاذهم .. كما فعلت مع "مليكة"!!
قبل الدعاء .. أشارت "مليكة"اثناء سردها إلى تفاهة الحياة .. وفنائها .. وقارنت بين ملابسهم وحقائبهم المستوردة من أرقى المحلات في باريس وسويسرا .. و المكان القذر الذي سجنوا فيه أول مرة ..وهم في أبهتهم .. نعم كادت "مليكة"أن تصل.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه،وأرنا الباطل باطلا،وارزقنا اجتنابه.. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
مقتطفات من الكتاب
هذه اللقطة تابعة للقطات السابقة .. لقطات "التكوين"إن صح التعبير :
تقول "مليكة":
(ما أجمل سهرات السبت التي كنا نقضيها برفقة الملك الحسن الثاني وجواريه خلال شهر رمضان المبارك في القصر الملكي. كنا نشاهد الأفلام السنمائية طوال الليل ونحن نتذوق أشهى الأطباق (..) ولا يأوي الجميع إلى أسرتهم إلا بعد أذان اتلجر){ص 51}.
أما اللقطة الثانية فهي معلومة أعطتها لنا "مليكة"عن وجوب أن تكون أم الملك بربرية .. تقول :
(خلال السنوات التي تلت وفاة الملك محمد الخامس كان يجب السعي لتزويج الملك الذي كان له من العمر ثلاثة وثلاثون عاما. أكبر عائلتين بربريتين في البلد أرسلتا إلى القصر فتاتين جميلتين،وهما ابنتا عم : لطيفة،خمسة عشر عاما،وفاطمة ،ثلاثة عشر عاما (..) فالزوجة الشرعية ستكون أم أولاد الملك،وبالتحديد ام ولي العهد.ولأساب سياسية ،وللحفاظ على توازن وتماسك الشعب المغربي،كان يجب أن تكون بربرية كل الزوجات الملكيات ،كالملكة الأم وللا عبلة ،وللالة بهية. (..) وقعت فاطمة صريعة في حب الملك. أما لطيفة التي كانت أكثر كبرياء قد فضلت أن تنتظر اختيار الملك. (..) حاولت الجواري القديمات أن يوجهن اختيار الملك نحو فاطمة،التي كانت مطواعة أكثر،وقابلة للقياد ،ويستطعن بسهولة إدارة رأسها. حاولن،رغما عن الطبيعة،أن تحمل فورا. فولادة ولي العهد تشرع الزواج،ولكنهن لم ينجحن،لأنها كانت بعيدة عن هذا.
في أحد الأيام خاطبة لطيفة الملك قائلة :
سيدي،لن أقبل أبدا أن أكون مجرد جارية بين نسائك.
ثم طلبت منه أن إذا لم يعطها فرصة كي تصبح أما لأولاده،أن تعود إلى أهلها. لقد رفضت وضعية الجارية.
أعجب عزمها وتصميمها الملك ..){ص 61 -62}.وحصل.
اللقطة الأخيرة :
تقول "مليكة"وهي على باب السفارة الأمريكية .. بعد الهروب الكبير .. محاولة الحصول على اللجوء السياسي:
( لو أن المغرب كان أمريكا لما ترددت أبدا في القفز فوق السلسلة لأنه كان سيجد لي الخلاص ،وأمريكا ،حقوق الإنسان){ص268}.
وتقول أيضا :
(أوقفنا الناطور،كان حذرا،متشككا،ومخبرا سريا ككل النواطير ){ص 271}.
كان لقولها أمريكا حقوق الإنسان أن تطير بي إلى "مالكوم إكس" ..ماذا كان سيقول تعليقا على هذه المقولة؟!! وماذا سيقول عن المقولة الثانية ؟
أما الأولى فلا أدري .. وأما الثانية .. فيقول :
(ثم ننزل ونأخذ سيارة أجرة أخرى فأعطي سائقها الأسود العنوان الصحيح. ذلك أن عددا لا يستهان به من تاكسيات نيويورك كان يسوقها البوليس){ ص 93 (ملكوم إكس : سيرة ذاتية ) / اليكس هاليي / ترجمة : ليلى أبو زيد / بيروت / بيسان للنشر /الطبعة الثانية 2000م}.
النواطير في المغرب .. وسائقوا التاكسيات في أمريكا .. مخبرون !!

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني