البعد الحركي بين الحكمة والحنكة
بقلم أ . تحسين يحيى أبو عاصي – كاتب فلسطيني – 19/8/2011م-
كثيرون هم الذين لا يفهمون معاني وأهداف البعد الحركي ، ومن أجل ذلك تقع النتيجة التي طالما كانت في غير مصلحة هذه الفكرة ، أو ذلك الإطار ، أو تلك الحركة ، وبتقديري لو فهموا البعد الحركي ؛ لما وصلوا إلى أفق مسدود ، مهما كانوا على درجة عالية من التحليل والتعليل والتبرير ، وتعليق الفشل على شماعات الغير ، يهربون من كل قراءة صحيحة ، ويستغرقون في كل قراءة مبنية على الأوهام ، بعيدة عن التفكير العلمي والتحليل العميق ، ولما تحول بعضهم إلى مسميات أو أجسام ضعيفة وعاجزة ، تتمجد في ماضيها الذي بنته على الدماء الزكية ، وهي فقيرة القدرة عن تقديم كل جديد ينسجم مع معطيات المرحلة ، وعوامل الصراع بدهاء وحنكة .
فهم البعد الحركي هو سر نجاح التنظيم في شدة الأزمات ، وهو روح العمل التنظيمي ، وسر مقومات وجوده واستمرارية بقائه ، وهو يعني الجمع بالضرورة ما بين حكمة التمويه وحنكة التنويه ، في خضم الأحداث الجسام ، ولعل التمويه أبلغ من التنويه وأشد دقة ودهاء ؛ لأنه يأخذ سمات متعددة ومتغيرة أحيانا ، متنافرة تارة ومتناسقة تارة أخرى ، ولكنها تصب في ذات الهدف.
ويكون التنويه في المرحلة المناسبة ؛ معززا مصداقية القائد بين أنصاره ومحبيه من جهة ، وبين عدوه من جهة أخرى .
حديث قد يبدو في قراءته من العموميات ، لكنه لا يخفى على من يجيد القراءة السياسية ، إنه يُخفي في طياته الكثير من المعاني ، والتي أرفض ذكر أمثلة حولها لكي لا يعتبره احد مسَّاً به.
وبسبب غياب البعد الحركي ؛ غابت الحكمة والحنكة معاً ، ووصلت قضيتنا إلى ما وصلت إليه وعاشت كثير من التنظيمات حالة من الانكماش ، وتعرضت إلى التمزق والتراجع ، وانتشرت فيها عوامل اليأس والإحباط ، وكثرت فيها الاتهامات والخلافات التي انتشرت في جسدها انتشار النار في الهشيم ، من رأس الهرم إلى أدناه .
فكانت النتيجة تراجع الانتماءات ، وتغيير الولاءات ، واستبدال الثقافات ، أو تقديس هذا القائد أو ذاك على حساب الوطن المحتل .


ليس من البعد الحركي ما يطفو على السطح بين الفينة والأخرى من مواقف وتصريحات هي أشبه بفقاعات الصابون ، يختزلها وعي الجماهير ، وتؤثر سلبا على العمل الحركي الآني والمستقبلي ، لأن البعد الحركي يقتضي دراسة دقيقة ، وعمقا في الرؤية ، وامتلاكا لمقومات النجاح التي انطلق العمل الحركي من أجلها ، كما يقتضي هدوءا في سلوك القائد ، وفي تصريحاته ومواقفه ، وأضرب هنا أمثلة على حزب الله في لبنان ، وحزب العدالة والتنمية في تركيا ، وتمكُّن بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة من التأثير على الحكم في بعض دول العالم ،
ففي فرنسا حزب الجبهة الوطنية أصبح له حضورا قويا داخل البرلمان سنة 2002 ، ووصل أعضاؤه إلى البرلمان الأوروبي في ستراسبورج ، وفي النمسا حزب الحرية المتطرف ، وفي السويد حزب ناي دي داخل البرلمان الوطني ، وفي النرويج حزب التقدم الوطني اليميني الذي لعب دورا هاما في البرلمان .




صحيح أن البعد الحركي له علاقة في الزمان والمكان ، لكنه لكي يبقى بعدا حركيا فلا بد له من أن يمتلك الحكمة والحنكة في آن واحد ، وإلا فقد مضمونه وانتهى به إلى الفشل .
لقد نجحت بعض القوى الفلسطينية في بعدها الحركي في مجالات ، وأخفقت في مجالات أخرى إلى حد الاقتراب من الفشل الذي أدى إلى تراجع في شعبيتها ؛ بسبب ضبابية رؤيتها ، وسوء قراءتها الناتج عن غياب الحكمة والحنكة في بعدها الحركي ، وهي لا زالت تعيش على الأوهام التي ستتبدد في أول محطة قادمة .




ليس البعد الحركي سياسي فقط ، بل هو عسكري أيضا ، كما فعل المرحوم أنور السادات في حرب السادس من أكتوبر عام 1973 ، عندما أجاد فن التمويه والتنويه في حكمة وحكنة ، بغض النظر عن التأويلات من هنا وهناك فيما يتعلق بطبيعة تلك المعركة ، وكما فعلت حكومة الاحتلال قبل حربها على غزة سنة 2009 م ، والتي نجح قادة الاحتلال في الخداع والتضليل قبل وقوع الحرب بأيام قليلة ، من خلال تصريحاتهم في مصر ودولة الكيان وفي أمريكا ، خاصة ما جاء على لسان تسيفي لفني ، واولمرت ، وباراك ، تلك التصريحات التي نصبت شركا صعبا للفلسطينيين أدى إلى وقوع العدد الكبير من الشهداء والجرحى من العسكريين والمدنيين .

إن إدارة الصراع لا بد لها من بعد حركي ، سواء كان هذا الصراع مع عدو أو خصم سياسي ، وإن قادته لا بد لهم من أن يتميزوا بالحكمة والحنكة ، وإلا كانت الخسارة حليفة لهم .
يجب أن يعرف القادة إذا امتلكوا رؤية عميقة في البعد الحركي ، متى وأين وكيف يفجرون موقفا ، أو يصدرون تصريحا ، أو يقومون بزيارة ، أو يعقدون لقاءا ، أو يقابلون مسئولا ، وأن يعوا مدلولات وأبعاد كل سلوك لهم ، وليس من البعد الحركي التشبث بأفكار ورؤى أرهقت شعبنا ، وليس من البعد الحركي الهروب من الحدث بتصريحات يصدرها القادة على استحياء لحفظ ماء الوجه ، وليس من البعد الحركي استجداء الحقوق فالحقوق لا تستجدى إنما تنتزع انتزاعا ، وليس من البعد الحركي أن يتخذ قادتنا خطوات تزيد شعبنا معاناة تحت مسمى القانون ، وكأننا نعيش في دولة مستقلة كاملة السيادة ، أو دولة القانون والمؤسسات في ظل غياب مفهوم المواطنة وحقوقها .