هذا المحور الإيمانى هو الذى بدونه تنشب الحرائق وتقطع الوشائج، إنه نبذ العصبية والإقرار العملي بحقوق الأخوة الإيمانية، لقد بُعث صلى الله عليه وسلم والعرب أمة همجية يأكل القوي منهم الضعيف، ويحيف الغني منهم على الفقير، وينصر الأخ أخاه ولو كان ظالماً على الآخر ولو كان مظلوماً، ولا يُقام بينهم لمظلوم قضية، ولا يُحكم بينهم في القضايا بالعدل والسوية، وفي لحظة بُعث خير الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام


اسمع إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الحوار وهو يحاور رجلاً حديث عهدٍ بالإيمان وقد كان ملكاً من الملوك لطئ وإسمه عُدّى بن حاتم الطائي، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كاشفاً الحجب عن بعض الغيوب: {يا عَدِيُّ، هل رأيتَ الحِيرةَ ؟ قلت: لم أرَها، وقد أُنبِئتُ عنها. قال: فإِن طالتْ بكَ حَياةٌ لتَرَيَنَّ الظَّعينةَ تَرتحِلُ منَ الحِيرةِ حتى تَطوفَ بالكعبةِ لا تخافُ أحداً إِلا اللهَ ـ قلتُ فيما بيني وبينَ نفْسي فأُين دُعّارُ طَيىء الذينَ قد سَعَّروا البلادَ؟ ـ ولئنْ طالَتْ بكَ حياةٌ لتُفتَحنَّ كُنوزُ كِسرَى،. قلتُ: كِسرَى بن هُرمُزَ؟ قال: كِسرَى بنِ هُرمُزَ، ولئنْ طالت بكَ حياةٌ لَتَرَينَّ الرجلَ يُخرجُ مِلْءَ كفِّهِ من ذهبٍ أو فضةٍ يَطلُبُ مَن يَقبلهُ منهُ فلا يَجِدُ أحداً يَقبلهُ منه، ولَيلقيَنَّ اللهَ أحدُكم يومَ يَلقاهُ وليسَ بينَهُ وبينهُ ترجمانٌ يُترجمُ لهُ، فيقولَنَّ: ألم أبعَثْ إِليكَ رسولاً فيُبلِّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أُعطِكَ مالاً وأُفْضِلْ عليك؟ فيقول: بلى، فيَنظرُ عن يَمينه فلا يَرى إِلا جهنَّم، وينظرُ عن يَسارهِ فلا يَرى إِلا جهنَم، قال عَدِيٌّ: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: اتَّقُوا النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ، فمن لم يَجِدْ شقَّ تمرةٍ فبكلمةٍ طيِّبةٍ، قال عديٌّ: فرأيتُ الظعينة ترتحلُ منَ الحِيرةِ حتى تطوفَ بالكعبةِ لا تخافُ إِلا اللهَ، وكنتُ فيمن افتتحَ كنوزَ كسرَى بنِ هُرمُزَ، ولئنْ طالت بكم حياةٌ لَتَرَوُنَّ ما قال النبيُّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يُخرجُ مِلءَ كفه}{1}


وقد قال الشاعر:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحى دينا


كيف وصل النبى صلى الله عليه وسلم بصحبه الكرام ومجتمع المسلمين إلى هذه الحالة؟ حالة الإيمان والإطمئنان التام على النفس وعلى العرض وعلى المال وعلى الزوجة وعلى الولد وعلى كل أحد، لا يُروِّع الإنسان أحدٌ ولا يروِّعه أحدٌ والكل في رحاب الإسلام في أمان يحرسهم الله ويحكم بينهم القاضي بشرع الله، والحوافظ هي جوارحهم وأعضاؤهم التي امتثلت لطاعة الله وامتنعت عن عصيان الله.


وصل إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بأسباب كثيرة نكتفي هنا منها بسبب واحد حتى لا نطيل عليكم وقد أتخذناه موضوعاً لهذا المحور من محاور التربية الإيمانية: وجد النبي صلى الله عليه وسلم العرب يفترقون إلى قبائل شتى، وبينهم عصبيات قبلية، وكل قبيلة تتعصب لمن تنتسب إليها وتفاخر غيرها بما لديها، وكانت هذه العصبية شديدة جداً لأنهم كانوا في جاهلية قبل أن تشرق عليهم أنوار آيات الله جليّة، فأول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم قال: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ}{2}


أبطل العصبيات القبلية وأعلن على الملأ أن كل الخلق في جميع البقاع والأسقاع كما قال في حديثه المبارك: {كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ}{3}
كل الذين على هذه البسيطة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً تناسلوا من إثنين آدم وحواء، فالكل في نهاية النسب وفي أعلى ذُرَى شجرة الحسب ينتسب إلى آدم وينتسب إلى حواء، فنحن إذاً جميعاً أخوة في الآدمية، بيننا أخوة إنسانية لجميع البرية كما بيّن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبطل بين أصحابه العصبيات القبلية وأعلن عن تكوين قبيلة واحدة، عائلة جامعة واحدة، أسرة واحدة هى أسرة المؤمنين وهى أسرة المسلمين التي يقول فيها لنا الله أجمعين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات10


كل فرد قال : لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله فهذا أخٌ لى ولك، وله علىّ حقوق ولى عليه واجبات، وأنت كذلك، وكل رجلٍ منا كذلك، فلو أننا قمنا بحقوق هذه الأخوة الإيمانية كنا جميعاً أسرة واحدة وإن وصل تعدادها إلى مليارات، لأننا جميعا مؤمنون، فربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد وعقيدتنا واحدة وعباداتنا واحدة ومعاملاتنا واحدة، كلها من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وأكّد النبى هذا الأمر في حوادث عِدّة لا تُعدّ ولا تُحد فقيل عن بلال الحبشى رضي الله عنه كما ورد فى الأثر المعروف: {أدخل الإسلام بلالاً في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج الكفر أبا لهبٍ من نسبه صلى الله عليه وسلم}، فلا نسب إلا نسب الإيمان، وبلال مع أنَّـه من الحبشة إلا أنّـه أصبح من أمة النبي العدنان من قبيلة التوحيد للحنان المنان عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن سلمان الفارسي: {سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ}{4}


ولذلك حار بعض العرب فسألوا سلمان من أبوك؟ فقال رضي الله عنه: أبى الإسلام
دَعِيُّ القومِ يَنْصُرُ مُدَّعِيهِ لِيُلْحِقَهُ بِذِي الحسَبِ الصَّمِيمِ
أبـي الإسلامُ لا أبَ لِي سِوَاهُ إذا افتخَرُوا بقيسٍ أو تَمِيم





فأبُوّتى هي الإسلام، وجعل الله لنا أمة المسلمين من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين أمهات نشترك فيهن أجمعين: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الأحزاب6
كلنا نشترك في هذه الأمهات وأزواج حضرة النبى صلى الله عليه وسلم أمهات لنا أجمعين والنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الرواية القرآنية التى فوق العشر: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهُوَ أبُوهُم وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}


فالنبي صلى الله عليه وسلم أبٌ لنا أجمعين، ونحن بيننا رابط الأخوة الإيمانية، والعصب الذي بيننا هو عصب الإيمان، وهو العصب الذى يُحبّذه ويدعو إليه الرحمن عز وجل، والفصيلة التي ننتمي إليها هى فصيلة التوحيد لحضرة الرحمن، فكلنا موحدون ونقول في كل وقتٍ وحين {لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله} وأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يلتزم أهل هذه العائلة الإيمانية بقول اللسان، ولا يتحدثون ولا يُنقبون ولا يُفتشون عما في القلب والجنان، فقد قيل فيما ورد من الأثر المشهور: {نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ واللـه يتولَّى السَّرائرَ}{5}



{1} البخاري عن عَدِيِّ بن حاتمٍ {2} سنن أبن داوود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه {3} رواه البزار عن حذيفة رضي الله عنه {4} الطبراني في الكبير و الحاكم في مستدركه عن عمرو بن عوفٍ رضيَ اللَّهُ عنه، جامع المسانيد والمراسيل {5} اشتهر هذا الأثر كحديث وليس بحديث، وإن كانت له شواهد عدة تؤيده من الأحاديث قال صحب الدرر المنتثرة: هذا من كلام الشّافعيّ في (الرِّسالة)، وقال الحافظ عماد الدِّين بن كثير في (تخريج أحاديث المختصر): لم أقف له على سندٍ. انتهى، وأضاف بعضهم أنه قد أورده أكثر المفسرين على أنه حديث شريف ومن هنا كثر اللبس وإن صح الإستدلال.