1:56 ( المرجع الأكبر في ترجمة شيخ قرّاء مدينة حمص: الشيخ عبدالعزيز عيون السود ).*
سعيتُ في هذه الترجمة إلى تجميع كل ما وقعت عليه عيناي من تراجم للشيخ ، وجلّه ممّا حكاه الشيخ د. ايمن سويد ( وقد اطّلع الشيخ د. أيمن سويد تكرّماً على هذه الترجمة التي كتبتها ، فراجعها وارتضاها وأثنى عليها خيراً )
فقررتُ نشرها ..


الإمام العلّامة ، مقرئ مدينة حمص ، الشيخ عبدالعزيز عيون السود ..
ولد عام 1917 م في مدينة حمص من والدة من بيت الدروبي ..
تلقّى الفقه الحنفي وأصوله عن عمه الشيخ عبدالغفار عيون السود ( صاحب كتاب الرياض النضرة في تفسير سورتي الفاتحة والبقرة في مجلدين ) ،
وعن الشيخ عبدالقادر الخجا .. فكان إذا تعسّرت عليه مسألة من حاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي، يراجع الشيخ الخجا ، فما إن يقرأ المسألة أمامه من الكتاب حتى يفتح الله عليه فتوح العارفين ..
فكان يتعجّب الشيخ عبدالعزيز من هذا الفتح بحضور الشيخ عبدالقادر الخجا ،
وما يحسب ذلك إلا من بركة ذلك الشيخ الجليل ..
فكان إماماً فقيهاً متمكنًا ، غدا المرجع الأعلى في حمص بالإفتاء ..
يأخذ بالعزائم في المذاهب ويقول :
[ من تتبّع الرخص رقّ دينه ] . أ.هـ


سمع أبوه صوتاً في منامه يخبره عن مستقبل أولاده ، ولكنه سكت عن الشيخ عبدالعزيز .. فسأل الوالد ذلك الصوت: وعبدالعزيز ؟ أجابه: ( عبدالعزيز حصّتنا ) ..
حفظ القرآن كاملاً في شهر واحد فقط ، في كل يومٍ جزءاً ..
وكان يراجع يومياً 5 أجزاء من حفظه في نوافله
يختم في 6 أيام ..
وكان يختم صحيح البخاري مرّة كل سنة ، وما وضع كتاب فقه فوقه ابدا ..

شديد البرّ بوالده ، فعند بلوغه زاد في طوله ..
فقال والده ممازحاً : شو يا عبدالعزيز عم تقلل أدب صاير أطول من أبوك ؟
فما عاد الشيخ يمشي بجانبه إلا ويجعل أباه على الرصيف حتى يرتفع عنه ،
وحين توفّي والده ، كان يزوره كل يوم في قبره ( بمقبرة باب هود ) ،
فتراءى له والده في المنام وقال له : [ يا ابني تعب عليك كل يوم ، بكفّي يوم واحد بالاسبوع ] . أ.هـ
كان قليل المزاح ، كثير الذكر والوِرد ، فرآى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه يقول له :
( أنتم في زمان ، العلم فيه خير من العمل ) ،
فغيّرت مجرى الشيخ ، فصرف وقته لطلب العلم وتلقين الطلبة مع إبقاء ورده وذكره ..


كان كثير الرؤيا للمصطفى ، قدم للمدينة يوماً ، فرأى النبي يقول له : ( أنت ضيفنا ، لا تنفق من مالك شيئاً ) .. فمكث الشيخ 3 أشهر في المدينة المال الذي جاء به كان الذي خرج به لم ينقص منه شيئاً ..
وختم في تلك الثلاثة أشهر 21 ختمة في القراءات العشر في الروضة الشريفة ..
( مع انها 20 رواية ، ولكنه اعتبر طريق الأصبهاني من رواية ورش رواية منفصلة )


وكان شديد الهاجس بالصلاة ( في قصص كثيرة ) ، إن صلّى الظهر يحمل همّ العصر وهكذا .. ولم يصلّ يوماً في حياته منفرداً حتى وإن كان وحده ، وكان يقول :
[ يا عمّي .. ما بتذكر أني صلّيت منفرداً منذ أن كان عمري 12 سنة ، لا في حضر ولا في سفر ] ..
فكان الله يُرسل له عباداً له من غامض علمه يعينوه على صلاة الجماعة ..
حتى حين كان بالمدينة المنورة ، كان إذا دخل وقت الصلاة في الطريق ،
لم ينتظر أن يصل إلى المسجد النبوي وصلى في طريقه ، وكان يقول :
[ الصلاة في وقتها خيرٌ من الصلاة في المسجد النبوي ] وبعدها يقيم الصلاة ..


أصيب بالسل الرئوي ، فأشار عليه أحد الاطباء إلى ترك حمص واللجوء إلى مدينة بيروت للاستجمام واستنشاق الهواء النقي .. فاستجاب الشيخ ونزل في فندق ، وشاء الله أن يجمعه بالشيخ سليمان الفارس كوري المصري في نفس الفندق ..
وتلقّى عنه القراءات العشر الصغرى من طريق الشاطبيّة والدرّة ..


ثم نزل دمشق ، وقرأ على شيخ قرائها محمد سليم الحلواني بالقراءات العشر الصغرى ، بنفس الوقت الذي كان يتردد إلى قريبة عربين قرب دمشق ، ليأخذ عن الشيخ المقرئ عبدالقادر قويدر العربيلي القراءات العشر الكبرى من طريق طيّبة النشر ، والتي أتمها في أربعة اشهر فقط ، دون علم أحدهما بالآخر ..
وحين ختم على الحلواني ، بكى الشيخ وقال : اللهم ارزقه تلامذةً بررة ..


ثم قدم مكة للحج ، والتقى بشيخ قراء الحجاز أحمد بن حامد التيجي ،
فقرأ عليه بالقراءات الأربعة عشر جمعاً ( الصغرى والكبرى والأربع الشواذ ) .. ثم استأذن والدة بالارتحال إلى مصر ،
وتلقّى القراءات الاربعة عشر عن الشيخ العلامة علي محمد الضبّاع ( شيخ عموم المقارئ المصرية في زمنه ) ..
فاحتضنه الشيخ علي الضباع ، وعرض عليه أن يجيزه بالقراءات الأربعة عشر ..
فتعجّب من عرضه عليه ولم يكن أخبره بأنه سيقرأ .. فقال له الضباع :
[ ليلة جئتني ، رأيتُك في الروضة الشريفة في المدينة مع ابيك ، وابوك يشير إليك ويقول لي : ( عبدالعزيز جاي لعندك دير بالك عليه ) ، ياابني الله أعطاني نور بعرف أهل القرآن ] أ.هـ


من جملته الأخيرة ، حكى الشيخ عبدالفتاح مدكور قصّة مع الشيخ الضّباع ،
أنه كان يقرأ عليه ، فرآى نوراً مفاجئاً يهبط من السماء بينه وبين الضباع ،
فأشار إليه الضباع بالصمت وبإكمال القراءة دون السؤال عن مصدر هذا النور ..


لم يترك قيام الليل ليلة في حياته، فقبضه الله وهو في قيام الليل يصلي ..
ومن ورعه أنه كان يكتب في أجايزه للطلبة : [ المُبتلى بأمانة الإفتاء ومشيخة القراء عبدالعزيز عيون السود ] ..
وكان إذا لُقّب بـ " شيخ القراء " يقول خشية وورعاً : [ شو من وراها .. شو من وراها ] . أ.هـ


شديد الكرم ، كثير الحبّ والعطف على تلاميذه ..
أراد إكرام تلميذه د.ايمن سويد ، فأتاه وهو قائم يصلي ، ووضع في جيبه ما يقارب نصف دخله الشهري .. ولا يجرؤ الشيخ ايمن الحركة في الصلاة ، حتى إذا فرغ الشيخ أيمن ، سأله واعتذر منه حياءً عن كرم الشيخ فيقول:
[ ألستُ كوالدك ؟ ]


كان يعظّم العلماء والقرّاء ويوقرهم ..
دخل عليه الشيخ سعيد عبدالله المحمد " شيخ قراء حماة " وهو كفيف ..
وكان قد تلقّى عن الشيخ عيون السود القراءات الثلاث المتتمة للعشر ..
فكان إذا دخل عليه ، قام له الشيخ عبدالعزيز إجلالاً وتقديراً مع كففه ..


حتى حين أصيب بالشلل النصفي قبل وفاته بسنة ونصف ،
دخل عليه الشيخ ملّا رمضان البوطي ، فقام له مع عجزه ومرضه احتراماً .. فكان الشيخ ملّا رمضان يقول :
[ أمثلك يقوم لـ " شقفة " كردي ؟ ] وأشار إلى نفسه ..


شديد الخشية ، شكى إليه أحدهم : يا سيدي شغلني الخلق عن الخالق ..
فقال له الشيخ عيون السود : [ اجعل مجالستك للخلق ، مجالسةً للخالق ] أ.هـ
لا يسخط على تعسير أمر أو اصرافه عن تخطيطه وتجهيزه ، وكان يقول :
[ حيثما يسيّرني ربي أسير ] أ.هـ ..


كان يندر عليه استخدام ضمائر المتكلم
[ أنا ، تُ ، نا ] ولا يحلف في كلامه أبدا ..
يصدّر قول الله في جميع قوله ، فلا يقول: [ قال الله تعالى ] وإنما :
[ الله تعالى يقول ] ،
قاله عنه الشيخ يحيى الصبّاغ :
[ من أراد أن يرى لحية سيدنا رسول الله ، فلينظر إلى لحية الشيخ عبدالعزيز عيون السود ] ..
وقال الشيخ عبدالله نجيب سراج : [ إذا يوجد في سورية وليّ ، فهو الشيخ عبدالعزيز عيون السود ] ..


خرج مرّة أخر إلى الحج بالقطار ، في السنة التي التقى بها بالشيخ علوي المالكي .. وكان الشيخ أبيض البشرة، فاصابه حرقٌ من الشمس بالطريق ..
فحين رآه الشيخ علوي قال :
[ جاء الحبيب الذي اهواه من سفرٍ ، وماس تيهاً على الغزلان مذ خطرا .. أسرّ عيني مذ أبصرت طلعته ، والشمس قد أثرت في وجهه أثراً ، فقلت من عجب : شمسُ على قمر !؟! ] ..
وكان يقول من حفظه: [ ليلَى وليلِي نفى نومي اختلافهما بالطُولِ والطَوْلِ، يا طوبَى لو اعتدلا ، يجودُ بالطُولِ لَيلِي كلما بخلتْ بالطَوْلِ لَيلَى ، وإن جَادت به بخلَ ]


ومرّة قال للشيخ أيمن :
يا عمّي خذ من الدنيا ما شئت ، وخذ مثليْهِ همّا ..
فقال الشيخ أيمن مداعباً : يا سيدي إي ليش مثليْهِ ؟ يكفِ مثله ..
فقال :
[ يا عمّي المثل الأول في تحصيلها .. والمثل الثاني في المحافظة عليها وتنميتها ] .أ.هـ
وكان يقول :
[ القرض الحسنُ خيرٌ من الصدقة ، لأن فيه حفظُ ماء الوجه ] .
وكان يقول :
[ الهواء حكيم : إذا ما وجد مخرجاً لا يدخل ] ..
ورآى يوماً طالباً ذا ظفر طويل فقال :
[ يا عمّي ، من طال ظفره طار رزقه ] ..


في آخر يوم في حياته، بتاريخ 13/1/1979 م وكان قد بلغ 63 من عمره ..
استيقظ رحمه الله لصلاة قيام الليل .. لبس جبّته وعمامته ..
ودخل على ابنائه وهم نيام ، فغطّاهم وقال : [ الله خليفتي عليكم ] . أ.هـ ..
ثم جلس يصلّي قاعداً بسبب شلله النصفي ، وما أن استوى للركعة الثانية وقبض اليمنى على اليسرى، حتى هوى إلى الخلف ، وأمسك الله بها روحه الطاهرة ..


دخل عليه الشيخ ايمن سويد في غسل جثمانه الطاهر وكشف عن وجهه .. يقول :
[ والله يا إخواني كان على وجهه ابتسامة ما تحتاج إلى تفسير ، بس ما كان كاميرات تصوير معنا ولا جوالات ، يا ريت صوّروه للشيخ ، ابتسامة كأنها تقول لصاحبها : رضيت .. منظر لا أنساه ما حييت ، فنزلتُ إلى صدره لأقبله ، فشممت من صدره رائحة والله ما شممت مثلها لا من قبل ولا من بعد ولا إلى هذه اللحظة .. وليست من عطور الشيخ التي يتعطّر بها .. أزكى ما شممتُ بأنفي ] ...


رآه الشيخ ايمن سويد في منامه بعد سنوات من وفاته ، وقال :
[ بعد ما نزل جبريل وأتباعه وصار القبض ، قلتُ في نفسي : يا ترى كيف حيكون البسط بعد القبض ؟ يا ترى حيكون متل بسط الكمّل من الرجال ؟ ] ..


رحم الله الإمام المقرئ رحمه الله وجمعنا به. آمين ..




جمع وترتيب :
د. مـاجـد بن حسّان شمسي باشا .. 20/8/2015 م


والله وحده أجلّ وأعلم