الفوضى البناءة

[أحمد أبورتيمة]

الفوضى البناءة

"لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"

حديث نبوي

أحمد أبورتيمةا

abu-rtema@hotmail.com

أسمع من يقول نرحب بالمبادرات الشعبية لكن يجب ألا تكون مبادرات عشوائية وأن يكون هناك إطار جامع مانع لتوحيد الجهود..

الحديث عن تنظيم الجهود في ظاهره الرحمة لكن في باطنه العذاب لأن الطبيعة البشرية تستعصي على التحديد والتقييد في قالب واحد صارم، ولا يوجد إطار مهما كان مرناً ومهما كان القائمون عليه مبدعين قادر على استيعاب كافة العقول والاجتهادات والاتجاهات والميول..

البشر متعددون بطبيعتهم ولا بد للفردية التي يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات أن تعبر عن نفسها..

العشوائية ليست شراً دائماً بل إنها كثيراً ما تكون مفيدةً، فتعدد المبادرات في المجتمع يوجد حالةً من الزخم الإيجابي.

التنسيق بين المبادرات المتعددة والالتقاء في مساحة موحدة لتحقيق الأهداف المشتركة هو عمل إيجابي، لكن هذا التنسيق لا يعني إلغاء هوية أي فرد أو جماعة وتذويبها في الآخرين.

ليس من حق أحد أن يسعى لإلغاء التعدد الطبيعي بحجة أنه يريد توحيد الجهود في إطار جامع فالتعدد هو سنة الحياة وفيه إثراء للحضارة البشرية..

مفردات مثل التقييد والتحديد والضبط والانضباط والتنظيم كثيراً ما تستعملها الأنظمة الطاغوتية وتكون مدخلاً لقمع الرأي الحر وتكميم الأفواه..

يجد الطغاة مدخلاً لإدانة المبادرين من هذا الباب، باب ادعاء الحرص على التنظيم والتوحيد إذ يقولون للمبادرين نحن لسنا ضد الإصلاح ولكن هناك كيانات قائمة يمكنكم الانضمام إليها ولا مبرر لمبادرتكم..

ليس من حق أحد أن يفرض قالباً صارماً يلغي التنوع الطبيعي ويجبر الناس على الالتزام به.

إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم رفض أن يوصي بخليفة له ساعة موته حتى لا يقيد حركة المجتمع الطبيعية بعده، بل ترك الأمر للتشاور والاختيار بين الناس ليظل الحراك الاجتماعي قائماً..

بل ذهب النبي صلى الله عليه وسلم أبعد من ذلك وهو المعنى الذي لم ينتبه إليه أكثر المسلمين إذ نهى النبي محمد عن تدوين أحاديثه مع أنه وحي يوحى إليه وهو لا ينطق عن الهوى فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه".

لقد كره نبي الرحمة أن يفرض على الأجيال التي ستأتي من بعده قيوداً تكبل انطلاقتها فأحب ألا يبقى من الدين سوى نواته الصلبة ومبادئه العامة الأكثر مرونةً التي لا تخضع لتغير الزمان والمكان، ولم يرد أن يشق على أمته فيفرض عليها صيغاً محددةً رآها هو صالحةً لزمانه وبيئته، وربما لا تظل صالحةً حين تتغير الظروف والبيئة ..

المجتمع الراشد هو المجتمع الذي يشهد حالةً من الصخب والتعدد الفكري والسياسي تنتج تقدماً وازدهاراً، أما المجتمعات الأحادية الشمولية فهي مجتمعات ميتة لا حراك فيها..

والله أعلم..

[أحمد أبورتيمة]

تحياتي لك اخ احمد

استمتع جدا بقراءة مقالاتك الجميله المفيده و المشوقه .. فقط ملاحظه صغيره حول الحديث النبوي "لا تكتبوا عني شيئا .... " الا يتوافق ذلك مع ما ذهب اليه ما يسموا انفسهم بالقرأنيين وتشكيكهم بما جاء في السنه المكتوبه !!!... و اقبل تحياتي





اخوكم



علي النخاله

الأخوان الفاضلان علي ومحب

وردني منكما نفس الاستفسار إن كان يفهم من كلامي في المقال أدناه أنه توافق مع أطروحات من يسمون القرآنيين الذين يدعون إلى ترك السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن

أولاً فإن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين أحاديثه ثابت ومتواتر فهناك الكثير من الأحاديث الصحيحة التي تفيد هذا المعنى منها قوله صلى الله عليه وسلم "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه" وهو حديث متفق عليه تسنده أحاديث أخرى غيره..

هناك الكثير من محاولات التفسير لفهم سر هذا التشديد النبوي في النهي عن تدوين أحاديثه لكن ما يطمئن إليه قلبي -والله أعلم- أن هذا النهي النبوي يأتي من باب الورع وخشية النبي أن يصيب قومه من بعده ما أصاب الأقوام السابقة من اتخاذ أنبيائهم آلهة من دون الله، وما يعزز هذا التفسير هو ما ورد في حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين خرج على نفر من الصحابة يكتبون أحاديثه فقال ما هذا الذي تكتبون..يقول أبوهريرة صاحب هذه الرواية: قلنا أحاديث نسمعها منك يارسول الله..قال:أكتاب غير كتاب الله..يقول أبوهريرة:فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار..وفي رواية أخرى: بلغ رسول الله أن أناسا قد كتبوا



أحاديثه فصعد المنبر وقال‏ «ما هذه الكتب التى بلغنى أنكم قد كتبتم‏..‏ إنما أنا بشر فمن كان عنده شىء منها



فليأت بها‏..‏ يقول أبوهريرة‏..‏ فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار‏».‏

يتضح في هذه الروايات أن تعليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين أحاديثه هو خشيته وحذره الشديد من أي بذرة قد تقود في المستقبل إلى اتخاذه نداً وشريكاً مع الله..فهو لا يريد أي خلط بين مقامه كبشر وبين مقام الألوهية وهو المرض الذي أصاب أتباع عيسى عليه السلام حين أطروا على عيسى وغالوا في دينهم حتى أخرجوا عيسى من دائرة البشرية..

بالتأكيد لم يكن غائباً عن قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقول لأصحابه في سياق نهيه عن التدوين"إنما أنا بشر" أنه يوحى إليه لكن شدة حساسيته من أي بادرة تقديس لشخصه وإطراء له كانت تدفعه للتشديد في النهي..والنبي محمد ذاته هو الذي صرح محذراً من علل الأقوام من قبله "لا تطروني كما اطرت النصارى عيسى بن مريم"

يتحدث القرآن عن ضرورة الفصل بين مقام النبي البشر ومقام الإله فيقول "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ

كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ "..والنبي محمد صلى الله عليه وسلم نظراً لفرط

حساسيته من بذر أي بذرة قد تقود في المستقبل إلى مرض الصنمية والشرك بالله فإنه كان حريصاً على إغلاق أي باب قد يؤدي للخلط وهذا

التبرير ليس متكلفاً إنما واضح من حديثه "أكتاب غير كتاب الله"..

لكن هذا الورع النبوي-إن صح التعبير-ليس مبرراً لنا لأن نترك سنته، فالقرآن ذاته يحثنا على اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم "وما

آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" والصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم استشعروا الخطر على أحاديث النبي صلى الله

عليه وسلم التي تمثل منهجاً متكاملاً وشارحاً ومفصلاً للقرآن الكريم، وليس منهجاً مستقلاً، فحرصوا على تدوينه..ونحن حين نتبع السنة اليوم

فإننا نتبع ما يؤكد القرآن وليس منهجاً آخر مضافاً للقرآن، فإذا تناقض حديث مع توجه عام في القرآن، تركنا هذا الحديث لأنه سيكون حينها موضوعاً ومختلقاً..

والله أعلم