التمثال ..

قصة قصيرة
بقلم-(محمد فتحي المقداد)*

الأماكن مرتحلة فينا ما حيينا، شئنا أم أبيْنا، نشتاقها رغماً عنّا، إن ابتعدنا عنها تعتمل في دواخلنا ضرامات الأشواق، تتوهج.. لا بل تشتعل .. لا بل تحرق المسافات، فيقتتل الحنين فينا تدافعاُ للعودة إلى رحابها، مصفدين بأغلال الرضا و القبول منا.
ذات سفر حلمتُ به طويلاً إلى المدينة، استيقظتُ باكراً الجميع نيام، جهزتُ نفسي وتهيأت لمغادرة البيت، ما زالت العتمة تسحب أذيالها، و النور يمحو آثارها، ضدان لا يلتقيان، إن جاء أحدهما اختفى الآخر.
السادسة صباحاُ، انطلقتْ الرحلة الأولى، على متن حافلة (البولمان)، بكامل طاقة استيعابها، المقاعد كلها مليئة، حتى أن مقعد المعاون المنفرد عند الباب، بجوار السائق جلس فيه أحدهم، يتناوب عليه مع صاحبه، غالبية المسافرين أغمضوا أعينهم، بينما انطلق صوت القرآن من راديو الباص، جاء صوت المذيع بعد ربع ساعة، ليعلن بدء البرامج الصباحية، افتتاحيتها بالفيروزيات على اختلافها، كلها ناعمة كالندى، استغرقت معظم الطريق إلى دمشق، حتى شارفنا جسر الكِسْوة، تشتتَ انتباهي على مشارف المدينة، بعدما رفعتُ الستارة عن النافذة، والازدحام كبير حيث انطلاقة الموظفين إلى دوامهم.

***

ما إن وصل الباص إلى محطة انطلاق البرامكة وسط العاصمة، كانت الساعة تشير للسابعة و الربع، الوقت ما زال مبكراً، ومعي من الوقت ما يكفي، لتناول صحن فول في أحد المطاعم، خارج سور المحطة، في جادة تؤدي إلى منطقة الحلبوني، وهي طريق مختصرة، للوصول إلى ساحة محطة الحجاز، في نهاية شارع النصر غرباً.
مكاتب معظم شركات الطيران تتركز في هذه الزاوية، وهي مقصدي وبُغْيتي، ولمّا كنتُ قد حصلت على تأشيرة سفر، طال انتظاري لها، والسفر هو قدرٌ محتومٌ مرغوبٌ، من معظم فئات الشعب لتحسين وضعها المعاشي المُتَردّي على كل المستويات.
روائح الفول زاكية، دغدغت شهيتي، فوراً شعرتُ بفراغ بطني، وددتُ لو أن (الجرسون) يأتيني من فوره، متجاوزاً الزبائن المنتظرين لوجبتهم. لا أسمعُ إلا أصوات طحن الطعام في الأفواه، تتناغم مع صوت الشيخ عبد الباسط، وهو يرتل قصار السور، يأتي صوته من آلة تسجيل على رفٍّ فوق رأس المعلم، قريباً من مدخل المطعم.
زبونٌ يؤشرُ (للجرسون) الآخر بيده رافعاً كأس ماء، وآخر يرفع قطعة خبز، وآخر يطلب رأس بصل مع مخلل الفليفلة الحادّة، جميع الزبائن على عجلة من أمرهم، وفي لحظة رأيت أن نصفهم، قد رفعوا يُسراهم لمعرفة الوقت. و الجرسون كعقرب الساعة لا يتوقف أبداً، بابتسامةٍ بشوشةٍ، يلبي كل الطلبات بكامل الرضا بلا تذمر، جو المطعم مضغوط بالحرارة، رغم أن الجو في الخارج برودته ربيعية مقبولة محببة للنفس.
خرجتُ من المطعم، قاصداً مقهى الحجاز، بجانب محطة القطار، وهو من أعرق المقاهي في العاصمة، متميز بموقعه، تلتقي فيه معظم الفعاليات المقيمة من أهل المدينة، و القادمين من خارجها، اتخذتُ طاولة قريبة من بوابته الشمالية، من خلالها أنظرُ إلى مكاتب شركة الطيران السورية، حتى تفتح أبوابها، تناولتُ فنجان قهوة رائع بنكهة دمشقية أصيلة، لم أنتبه لما يجري من حولي من الطاولات المجاورة، وأصوات السيارات العابرة، وهي تتوقف أمام إشارة المرور التي تفتح لأربع جهات.

***

الساعة التاسعة تماماً، ابتداء الدوام في شركات الطيران، أبرزتُ لهم جواز سفري، وصورة عن (الفيزا) تأشيرة الدخول إلى الخليج، ما هي إلا ربع ساعة؛ إلا وكنت على علم بموعد سفري، ومن توّي توجهت شمالاً، نازلاً في الطريق عبر جسر فكتوريا، مروراُ (بالطاغوسية) ذلك البناء التراثي المُرَمَّم حديثاً، و المميز بحجارته البيضاء و السوداء، لأمرٍ ما توقفت، لأنظر غرباً على طرف الشارع الغربي، تأملتُ واجهة مقهى (الهافانا)، وكأن خيال نظفر النوّاب من خلفها، هممتُ بالتوجه إلى هناك، واجهتُ صعوبات الحواجز الحديدة على طرف الأرصفة، وكان عليّ الرجوع للخلف وصولا للجسر من جديد، والصعود على جسر المشاة، لأصل المقهى، صرفت النظر عن ذلك، بدأ الطريق يأخذ الصعود قليلاً حتى وصلت ساحة (الصالحية) أمام بناء المحافظة، هناك توقفت أمام هذا التقاطع، عيناي تسمرتا على نصب في وسط هذا الميدان، يمثل امرأة بلباسها الشعبي وبيدها ضمة من سنابل الخير.
شيء ما يدفعني للمتابعة غرباً باتجاه البرلمان، و قبل وصولي إليه، كان عليّ أولاً زيارة محل الكنافة النابلسية بمذاقها المتميز في هذا الزاوية، لترطيب الجوف لابد من الوصول إلى محل (أبو شاكر للعصائر) الطازجة، وبجانبه بائع الهريسة اللذيذة. هذه المحطة ضرورية؛ لا بد لي من زيارتها في كل مرة أقصد فيها دمشق، جاذبية عجيبة تجذبني من بعيد، أينما أكون أترك كل شيء، بعد انتهائي من عملي الأساسي الذي جئت من أجله، خرجت من الزقاق الضيق راجعاً عكس الاتجاه، لمعاينة معروضات كشك بيع الجرائد و المجلات، في مواجهة بوابة البرلمان مباشرة، لأخذ فسحة معرفية وقراءة العناوين، بعد امتلاء البطن بأصناف الأطعمة المختلفة.

***

استدرتُ خلفاً تاركاً مكاني هذا، لأتابع باتجاه شارع الحمرا غرباً، على بعد مئتي متر ليس أبعد من ذلك، لأجد صديقاً انقطعت أخباره عني لسنوات، كان عناقاً حاراً، وربّ صدفة خير من ميعاد، لقاء غير متوقع أبداً، بعدما هدأت مفاجأة اللقاء، شدد دعوته لي على مقهى في بداية شارع العابد، عند التقائه بشارع الحمرا المغلق في وجه السيارات فقط مسموحٌ للمشاة، بالطبع اعتذرتُ منه بلباقة، مفضلاُ المشي على الجلوس، دخلنا الحمرا، فيها متعة التسوق، لكثرة المحلات و التي بمعظمها تعرض الألبسة و العطورات والإكسسوارات، ازدحام يزيد متعة التجوال هنا.
واجهات العرض أنيقة بأضوائها و ألوانها، و طريقة عرضها للأشياء، لتحريك شهوة الشراء بأي وسيلة، انتهينا إلى نهاية الطريق، خفق قلبي بشدة، كاد ينخلع من صدري، عندما صرتُ وجهاً لوجه أمام تمثال الرئيس، لم أكن أتوقع أبداً الوقوف أمامه بهذه البساطة، إذن أنا الآن في حضرته، بشكل مباشر، تلعثم لساني، أفركُ عينيّ، الدهشة تعلو وجهي، لم أصدق ما أرى: يا إلهي أنا في حلم أم علم ؟.
قدماي ترتجفان؛ جعلتْ صديقي يلحظُ حركاتي اللاإرادية، مغص معوي حادٌّ مفاجئ، يداي تتحسسان بطني، تمزّقٌ في أحشائي، ارتفاعٌ في ضغط الدم، خفقانٌ قلبيٌّ حاد، حاولتُ استجماع قواي من جديد، بعد غيابي عن المحيط، لأجِدَنِي ما زلتُ واقفاُ على بلاط رخام الساحة الواسعة.
- تساءلتُ: منذ متى جيء بهذا النصب إلى هنا؟.
- صديقي: منذ متى لم تأتِ أنتَ إلى هذه المنطقة؟.
- والله لا أخفي عليك، أنني على الأقل منذ خمس سنوات، لا أدري ما الذي أصابني، وأنا ملتصق بالقرية، أرفضُ بعناد مغادرتها ولو ليوم واحد.
- صديقي: أوه .. أوه ..!!، تغيرت الأمور كثيراً، وهناك من المستجدات الكثيرة على مختلف الأصعدة، ستدهشك المفاجأة.
كشك من الألمونيوم بواجهاته البلورية، على يمين التمثال، الشرطي يتمشى ذهاباً و إياباً، يده على بندقيته المعلقة على كتفه الأيمن، هناك شخص يجلس في الداخل خلف طاولة، وأمامه جهاز هاتف. دخان سيجارته يخرج كالسُّحُب من البوابة المفتوحة. الساحة واسعة، مقاعد رخامية موزعة على أرجائها، بأشكالها التراثية الأنيقة المتناسقة.
- مِلتُ برأسي على أذن صديقي، هامساً: ما هو موجب تلك الحراسة؟.
- صديقي: أحدهم علق برقبته كرتونة مكتوب (آلهة الجوع)، و في صباح يوم آخر وضع أحدهم بيده الممدود، علبة سمنة فارغة، وفي الحادثتين، جَرَتْ اعتقالات لكثير من الشباب المشتبه بهم، أعرفُ بعضهم، وقد انقطعت أخبارهم، فلا خبر ولا أحد يدري في أي أرض هم.
عاودتني آلام المغص من جديد، شعرت برغبة مغادرة المكان بشكل عاجل، استأذنتُ صديقي، استعجلتُ خطواتي للوصول إلى مكان الحمامات العامة على طرف الساحة في زاوية ميتة، هناك على واجهة باب إحداها الداخلية، شتائم و مسبّات يعجز اللسان عن وصفها للتمثال وصاحبه، ومن النّكات الوضيعة، أيقنتُ أن هذه الأماكن هي المنابر الحرة الوحيد في البلد. نسيتُ كل متعتي في هذا اليوم، شعرتُ ببرودة تسري في أوصالي، كأنما انخفاض مفاجئ في الضغط داهمني، ولازمتني حالة صمت مطبق ترافقتْ مع صداع نصفي، قفلتُ من فوري راجعاً إلى البرامكة، اكتئابٌ أصابني بالانقباض الشديد، جعلني أودّع صديقي، ليتابع منا كل طريقه.

من مجموعتي ( زوايا دائرية )