ألبير كامو ... والرحلة الأخيرة!ربما لو لم يتم العثور على بطاقة القطار في جيبه لو أنه لم يسافر في تلك السيارة الرعناء .. ولكن والحال على ما كان عليه فإنّ قدره كان أن يذوي ويموت جسداً ليخسره العالم أديباً عظيماً، كان ألبير كامو ودون أدنى شك من أهم روافد الأدب .. والشهرة التي وقفت له بالمرصاد عام 1960 والتي شهدتْ على آخر شهقة وآخر نفس له لم تكن تدري أيّ ذنبٍ اقترفتْ .. ألبير كامو الحائز على جائزة نوبل في العام 1957 سيبقى عصيّاً على الصفحات أن تستوعب إبداعه في ظلّ الواقع المتردي الذي عاش به .
تقول جرمين بري في كتابها " ألبير كامو " ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا : عندما سأله أحد الصحفيين عمّا يتمناه ، أجاب بما قاله نيتشه ذات يوم " إذا ما اشتد زخم القوى المحيية الشافية ، كان للنكبات نفسها وهج كالشمس فتولّد ما تحتاج إليه من تعزية، كل ما أرجو هو أن تتاح لي هذه القوة وهذا الزخم مرة أخرى بين الحين والحين على الأقل " .
لم يكن كامو يقود سيارته بنفسه بل كان صديقه ميشيل غاليمار هو من يقودها بسرعة مذهلة وربما لولا ذلك لظنّ البعض أنه أقدم على وضع حدّ لحياته طالما أنه يعتبر حياة الإنسان مأساة وعذاباً لا طائل منه ، وطالما أن الشعور بالقلق والضجر لا يفارق ذلك الإنسان. ولكن المتتبّع والقارئ لأعمال هذا المندوي ( نسبة إلى قرية مندوي التي ولد فيها كامو عام 1913 ) يرى عكس ذلك، ففي كتاباته ومقالاته ( صخرة سيزيف ، المتمرّد ) شيئاً من الإيمان، إذ إنه يرى أن الانتحار ليس حلاً لمشاكل الفرد بل العيش والتحدّي للظروف الصعبة التي تعترض طريقه هو ما يجب أن يتّصف به هذا الإنسان المفطوم على العذاب والمآسي ..!
تأثر كامو بسلاسل الجبال وبالهضاب العالية المهجورة ثم بالصحراء الكبرى امتداداً باتجاه الشمال " كما تؤكد جرمين " وصولاً إلى التلال الصخرية الشاهقة والخلجان العميقة وشطآن الساحل الجزائري المشرفة على ألق البحر المتوسط والتطلّع إلى أوروبا حيث طار كامو فيما بعد إلى فرنسا التي كان شديد التعلق بها كما تشهد كتاباته التي لم يكن ليتخلّى فيها عن مواطنيه وأبناء بلده " الجزائر ".
لقد أمضى كامو " كمعظم أدباء اليوم" فترة في العمل الصحفي فكانت مقالاته وآراؤه أجوبة على الأسئلة المربكة والمحيّرة في تلك الفترة لكنها لم تشكل النظرية السياسية الخاصة به، إذ إنه كان يرى أن على الكاتب أن يراقب العالم دون أن يكف عن لعب دوره في مجريات أحداثه ، ولكن الدور المطالب به الكاتب هو كل ما من شأنه أن يرفع من سوية البشر ويؤمن لهم العدالة الإنسانية التي يلقونها في هذه الدنيا، فالأدب في نظر كامو ما هو إلاّ " نشاط جوهري ، بل من أشد نشاطات الإنسان أصالة، فهو يعبّر ويدافع عن تطلّع الإنسان للحريّة والانسجام، والجمال، وهي تؤلف سعادة البشر النسبيّة ". لقد أتت الكاتبة في الصفحة 255 من كتابها على الاستشهاد بما كتبه كامو عن دور الفنان في الدفاع عن تلك السعادة: "كلنا نحمل في دخيلتنا سجوننا، جرائمنا، نزعتنا إلى الهدم، إطلاقها على العالم ليس من واجبنا، إنما من واجبنا أن نكافحها" هذه النزعة الإنسانية وهذا الشعور العميق بالمسؤولية الذي كان كامو يتحلّى بهما ويطالب بهما كي نوحّد بين أنفسنا وبين عالمٍ ينكر علينا هذه الأرض التي من حقنا أن نحيا عليها ..!
كان أول ما نشره كامو كتاب " الوجه والقفا " عام 1937 وكتاب " أعراس " عام 1938 وكلاهما مدين بأصالته الظاهرة لرغبته الجامحة في تصوير الصفات الفذّة التي رآها في وطنه وبين أهله، إذ إن فرنسا واللغة الفرنسية قد أضافتْ لما أعطته الجزائر له النفس الجديد والألق والوضوح، لذلك فقد بقي كامو بفكره وتعبيره مغروس الجذور في تربة الجزائر إذ أهداها الكثير من صفحاته الرائعة في الكتاب الذي نشره عام 1954 بعنوان الصيف .. ذلك الكتاب الذي يلتزم فيه الكاتب شيئاً من الصوفيّة والتأملات الفلسفيّة والصور الأدبيّة وأحياناً الشاعريّة .. يقول في رحلته إلى أمريكا الجنوبيّة: " في منتصف الليل، وحدي على الشاطئ . بالانتظار مرّة أخرى ، وبعدها سأذهب . أما البحر فساكنٌ ، نجومه كأضواء البواخر الكثيرة التي في هذه الساعة، في الدنيا قاطبة ، تنير مياه الموانئ المظلمة .. الفضاء والصمت جاثمان كوقر واحد على قلبي. حب فجائي، أو فعل حاسم ، أو خاطر يشع في النفس يُحِلّ بالمرء في لحظات معيّنة، هذا القلق الذي لا يطاق تصحبه فتنة لا تقاوم .. ذلك هو أن نحيا ثم نركض إلى حتفنا ".
لقد عاش كامو حياة الفقر والمعاناة ، فوالده الذي قُتل في معركة " المارن " خلّف أرملة وولدين صغيرين . كان عمر ألبير عندها سنة واحدة .. كانت تلك الأم التي تعاني من البكم وعدم النطق بسبب إهمال لها أثناء مرضها هي كل حاجة ألبير للحب أضف إلى ذلك وجود جدّته المريضة بسرطان الكبد وعمّه المشلول، كل هذه البيئة البائسة والسوداء كانت تفرض على عالم الكاتب سواداً استطاع ببصيرته الناصعة والمتّقدة أن يحوله إلى إبداعٍ حقيقي خلّد اسمه فيما بعد على صفحات التاريخ بحروفٍ من نور. تقول جرمين بري في كتابها عن كامو :
"لم ينس كامو الفقر الذي عرفه في طفولته ، ذلك العالم المغلق، الصامت الذي لم يطلب شيئاً ، ولم يتوقع شيئاً ، فكانت له عزّته الخاصة، أناسه يتحمّلون وإن لم يستسلموا وهم بصمتهم وربما دون وعي منهم يحتقرون التعميمات الثرثارة والتعزيات السهلة التي يلذّ للطبقة الوسطى الأسعد حظّاً أن تستغرق فيها " . ومما جاء على غلاف الكتاب أقتطف مايلي :
( إنّ مدى كتابات كامو أعظم مما قد يدركه البعض ، فثمّة كتب أربعة على الأقل مما كتب وهي ، الغريب ، الطاعون ، المتمرّد ، السقوط، وصف كل منها بأنه أهم كتابات جيل بكامله ..! )
رمضان إبراهيمhttp://www.albaath.news.sy/user/?id=1037&a=91889