لمحور الثالث : التلاؤم بين اللفظ والأسلوب وكيف قاسها النقاد ؟
إذا كانت اللفظة الشعرية تضفي أجواء من قلب حروفها تزكي المعنى وترتقي به , بقدر ما يفيض منها من طاقات إيحائية تنطوي عليها , فإنها لا تكون كذلك إلا بنظمها في أسلوب الكاتب المبدع الذي يخلق من أسلوبه شيئا مؤثرا في النفس غير الأثر الذي يحدثه المعنى الذي اختاره لنصه الأدبي .
فلو أن الأديب عرض المعنى الجيد مجردا من أسلوب جيد كان له أثر , ولكنه إذا ما نسقه في لفظ وأسلوب جيد أيضا كان الأثر أقوى وأمتع للقارئ أو السامع .
من هنا تختلف كتابات الأدباء والشعراء في عرض موضوعاتهم فتختلف قيمة أقوالهم تبعا لاختلاف أساليبهم ,
فللأساليب غرضان هما نقل المعاني أو الحقائق إلى ذهن القارئ أو السامع ونقل شعور الكاتب أو المتكلم إلى نفس القارئ أو السامع فالأديب له شخصيته وله شعوره الذي يتحدث عنه
وهو يصبغ الشيء الذي يكتب فيه من روحه فمن قال :
فقلت لها إن البكاء لراحة = بها يشتفي من ظن ألا تلاقيا
غير من نقل نفس المعنى في قوله :
لعل انحدار الدمع يعقب راحة = من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابل
أو قول الثالث حين نقل نفس المعنى في بيته :
نثرت فريد مدامع لم تنظم = والدمع يحمل بعض ثقل المغرم
ولقد تميز كل أديب بأسلوبه واختيار ألفاظه لينقل بها موضوعاته وشعوره .
وحين يجيء دور النقاد فهم يضعون مقاييس جودة اللفظ في الأسلوب ومقاييس الضعف فيه
فيقولون أن على الأديب أن يتحرى ( الدقة ) في ألفاظه فيعيبون على الشاعر قوله :
بالله ربك إن دخلت فقل لها = هذا ابن هرمة( قائما) بالباب
قائلين : إن اللفظة الدقيقة التي كان ينبغي أن تحل مكان (قائما) هي : (واقفا )
وعابوا كذلك :
لما تذكرت بالديرين أرقني = صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فالأرق يكون أول الليل وصوت الدجاج آخر الليل عند الفجر
ومن عدم الدقة في الأسلوب استخدام أبعد الطرق للتعبير عن المعنى مثل قول الشاعر :
وما مثله في الناس إلا مملك = أبو أمه حي أبوه يقاربه
ويقصد : خاله
ومن المقاييس أن تكون الألفاظ موحية بمراده فعابوا قول الشاعر وهو يمدح الحجاج :
إذا ورد الحجاج أرضا مريضة = تتبع أقصى دارها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها = غلام إذا هزّ القناة سقاها
لأن ( الإيحاء ) في لفظة (مريضة , وغلام ) يخالف المقياس الذي وضعوه لجمال الأسلوب .
وأضافوا مقياس ( السهولة ) في ألفاظ الأسلوب وبعده عن المتنافر والغريب من الألفاظ مثل:
غدائر مستشذرات إلى العلا ....
واعتبروا ( الألفة ) في الألفاظ مع تلاؤمها للأسلوب مقياسا للجودة ومخالفة ذلك معيبا مثل :
وما أرضى لمقلته بحلم = إذا انتبهت توهمه ( ابتشاكا )
لأن الأديب استخدم لفظة ( ابتشاكا ) غير المألوفة مع وجود المألوف منها وهو ( كذبا )
وقول الآخر :
يظل بموماة ويمسي بغيرها = جحيشا ويعروري ظهور المسالك
فيقول النقاد لقد أوحش الشاعر أي استخدم اللفظ المستوحش عند كل قوم وفي كل زمن .
وقاس النقاد بمقياس ( الطرافة ) النصوص التي تخرج عن هذا المقياس عندما تأتي بالمبتذل
مما كان دالا على معنى وغيرته العامة لغيره مثل :
صليني وهذا الحسن باقٍ فربما = يعزل بيت الحسن منه و(يكنس )
وقلده ابن المعتز حين قال :
وقوامي مثل القناة من الخط = وخدي من لحيتي (مكنوس )
وجعلوا ( الشاعرية ) في الألفاظ مقياس جودة الأسلوب فعابوا سوء تركيب حروف اللفظ مثل :
تقول (بوزع) قد دببت على العصا = هلاَّ هزئت بغيرنا يا (بوزع)
ومن المقاييس النادرة ( الاستعمال ) فهم ينقدون الأسلوب إذا استخدم فيه الأديب ألفاظا لم يسمع عنها أو كانت تستعمل في استعارات غريبة مثل :
ملاعب ( نينان) البحور وربما = رأيت نفوس القوم من جريها تجري
فلم يسمع بهذه ( النينان ), كما عابوا إضافة الأنف للحية لغرابة ذلك في قول الشاعر:
تخاصم قوما لا تلقى جوابهم = وقد أخذت من أنف لحيتك اليد
كما انتقد النقاد ذكر ( المصطلحات ) الكثيرة في النص الأدبي وجعلوا ذلك مقياسا للضعف في مثل:
ياشتات الأسماء والأفعال = بعد موت ابن مالك المفضال
ومنه إذا كثر استخدام حروف الصلات في البيت أو النص مما يغمض معناه ويبعده عن الوضوح مثل:
ويسعدني في غمرة بعد غمرة = سبوح له منها عليها شواهد
ومن المقاييس النقدية الأخرى ( التكرير) وضرورة ( الإفادة ) عند ذكر المترادفات في البيت والأفضل تركه إن جاء بنفس المعنى كما جاء التكرير في :
ألا ليت لبنى لم تكن لي خلة = ولم تلقنى لبنى ولم أدر هيا
وجاء عدم الإفادة في :
بودي لو يهوى العزول ويعشق = فيعلم أسباب الهوى كيف تعلق
وآخر المقاييس التى أكدوها لعدم نقد النص الأدبي ( وضوح الأسلوب ) فقد عابوا مثل :
أنى أبا البرايا آدم = وأبوك والثقلان أنت : محمد
ومثله :
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه = بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
===================================
ونتابع المحور الأخير في المساهمة القادمة قبل فتح باب الحوار .