خلاص ...!

جهاز تخطيط القلب الكهربائي السطحي يشير إلى أن موجات غير منتظمة متفاوتة الحجم والشكل وسرعة تواتر عالية جدا .ليؤشر إلى أن موجات شائهة تحل محل خط الأساس . انتهى التقرير
أكثر من علامة استفهام راحت تقرأ وأنا أنظر إلى تلك العيون التي راحت تترقبني كفئران تجارب يحيطون بي يحاولون أن يختزلوا آلية الزمان ليصلوا إلى قرار واحد ، لأصعد المركبة وحدي لا أحد غيري فيها ، ليكون شاهدا على إني اخترقت كل حجب نظريات العلم الحديث (الكم ،والنسبية ، والنشوء ) وتوغلت إلى أبعد مما توصل إليه علماء المرآة ’ وما بات مشكوكا به أصبح اليوم في علم اليقين ، في لحظة لم أحسبها لأني كنت جزء منها ، لم أشأ الدخول في عالم القص الغريب هذا ، لكن فضولي قادني لأن أقرأ باقي الفصول
نظرت إلي تلك العيون الكحيلة بفضول وهي تكاد أن تلتهمني ، الكل يحدق بي
و كأني آت من فضاء خارجي ، كغيمة حطت على مدرج الزمن الغابر، تحلقوا حولي يبحثون عن سر يكتنف هذا الكائن الأسطوري الذي نزع ثوب الزمان وجاء إليهم من غياهب العصور السحيقة
،(ارسطفان )الكهل اليوناني حطام الشيخوخة و عجزها ، بدا كجذع نخلة نخرة لم يعد يربطه في هذه الدنيا غير بصيص يتعكز به على بقايا أيامه السالفة ، نظراته المتحفزة وعيناه المرتابة يرقب الجميع في حانته الصغيرة المسماة ب (الملاح التائه) ، والتي بدت كقنديل مضاء في ليلة ظلماء تهدي الساري لما يبتغيه ، نظر الرجل بتوجس عرف إني غريب عن أرضي ، وهو الماكث على خرائب أمسي ويومي وغدي، ورغم ابتسامته الصفراء إلا أن تقاطيع وجهه توحي بأن ألف هاجس داخله ، وهو يبحث عن سر قدومي ، كؤوس الخمر مترعة يحملها بيديه ، يترقب حركاتي من بعيد ، دون أن يدنو مني ..
الخمر يلعب برؤوس شاربيه، (والبانجو ) يثير الانتعاش في النفوس والخدر في أجساد بدت كأنها سيقان بردي تميد بها الريح، زوجته تقترب مني ، جمال يأسر القلوب. تغترب الكلمات في رأسي أحاول أن أقترب من هذا التضاد اللا منطقي الذي ما استساغته نفسي، بدا تناقض مقيت ، الكهولة المركونة والشباب بعنفوانه ، جسدا ينطق بالأنوثة والأغراء ، راح يتثنى عودها الأهيف على أنغام آلات وترية كغصن بان تكتحل بالنظر إليها العيون
ألقت بجيدها على كتفي وثمة ابتسامة ترتسم على وجهها الصبوح
(من أين أنت ، ملامحك توحي بأنك من أهل ميزو بوتاميا ..؟ )
لم أجبها بقيت أنظر إلى وجهها وكأنها تمثال برونزي ، جلست ، قربي تتأملني بدهشة ،
أصوات تتعالى من بعيد تقترب شيئا فشيئا ، أيقظتنا من جنين حلم بدا يتكون .
:- لقد قتل الإله (ست ) قتل إله الخصب والخير، سيحل بنا الجدب والشر ، راحت الأصوات تتعالى وكأنها تخترق جدران المستقبل لتمر بالماضي المنقاد طوعا إليها ، سمعت صوت رجل ضرير يحمل ألة العود يغني ، كأني أعرفه عشنا في مستقبل واحد ، بعد ألفين من السنين كان يحمل ذات العود
ويعزف على أوتار القلوب الباكية المذبوحة على معبد الحرية ، يريد أن يطلق بغنائه حمامات تتأهب للطيران من أقفاصها ، ربما يخرج الموتى بعد أن تمزق أكفانهم ليعلنوا عصيانهم ،من أجل أن تطهر الأرض من أدرانها ، تطهر من الظلم والظالمين
صيحة عظيمة تخترق الآفاق ، وتنفذ لحجب الزمان ، تتزامن مع صوت المغني ، تتمازج الأصوات ، وتتواتر الأخبار ، اشرأبت الأعناق تبحث عن ملاذ آمن، وعلت الوجوه غمة الحيرة لقادم الأحداث . أصوات أحالت السكون إلى دمدمة رعود ،
: (أغلقوا ،الحانات ، فإنها مصدر الشر كله ، مصدر البلاء )
اقتربت الأصوات حل الخوف بأهل الحانة ، بل روادها كلهم ، رجعوا بصف واحد مذعورين، ينظرون إلى المجهول الذي بث هذا الرعب و استشرى فيهم ، أصوات آدمية وقرع طبول ، وسنابك خيول تضرب الأرض
ارتبكت حركاتهم الكل هرب ، إلا أنا (وانتجونا) ، قادتني بهدوء إلى ممر سري ضيق لا يكاد يتسع إلا لي ولها ، وما أن اجتزنا ذلك النفق المظلم حتى بدت روعة البحر تتجلى لنا، البحارة الإغريق شماليون وشرقيون ، تلتصق سفنهم الصغيرة بعضها ببعض يغطون منافذ البحر ، الإسكندرية يهل وجهها كقمر يستقبل القادم بابتسامة ربيع آت من غير معاد ، البحارة يبحثون عن ملاذ يبيتون فيه ،الحانات دمرت ، الدخان يتصاعد منها ، الشاطئ يمتد وامتداد البصر ،يحمل سحر جمال آسر أخاذ،تلك الزهور والنباتات الجميلة ، وهذه الخضرة التي تقتل وحشة الصحراء ،
رمت ( انتجونا) كل شيء ورائها ، ركضت تختبئ خلف أشجار الزيتون ،لتحتوي رغبتي ، اقتربت منها أردت أن أبوح لها بإعجابي ، أشارت إلى عدد من فتيات كأنهن جنيات ، يتمايلن على أنغام قيثارة عراقية من أرض أشور ويرقصن على ألحان أندلسية ،
يتضاحكن بغنج ، خلعن ما عليهن من غلالة فبدين كقطع ثلج تنساب في زرقة البحر ، دعونني إلى المبيت .ولكني لا أملك من وقتي شيئا.
رن جرس الهاتف.. دقات متتالية حاولت إخفاءها أحست (انتجونا) برعب وهي تراني أكلم شيء مجهولا أذهلها أن أحكي مع آلة صماء ، لم تعرف سري أنا الآتي من بعيد، تخيلت إني أكلم نفسي ، تخيلت إني ... فقالتها ...!
_ مجنون ..!
هربت وهي تصرخ بفزع وكأن مس أصابها ، لم أفهم سر تحولها ..! أردت أن أمطرها بوابل من أسباب حيرتي ، كثيرة هي الأسئلة التي لم أجد لها إجابة بعد، لازلت أجهل كنه هذا العالم ، أين أنا ، إلى أي شيء أسعى ...؟ من هؤلاء الذين لا أشبههم ولا يشبهونني ..؟ من الذي أتى بي ، هل زخرفت أحلامي جمال الأمس فامتطيت حصان حاضري وارتقيت إلى الماضي ،
قلبت الورقة ..
برفق ،راح يطالعني وجه( انتجونا )
.التي ظلت تترقبني من بعيد ، أعداد من الجنود أحاطوا بي ، لم تنفع توسلاتي بهم وضعوا الأصفاد بيدي جردوني من كل ما أحمل .حتى سيفي وقرآني ...!
جلس قاضي القضاة يحملق بي أردت أن أثبت في مكاني، لكن رعشة من الخوف أخذتني ، عضضت على نواجذي أردت أن أعود لأهلي ، فلا أطيق الصعود إلى الهاوية ، نظرت إلى صورة ليست من ذاك العصر ، ربما هي من عصري أنا
- أنت من خطف الزمن ...؟ أنت من قتل الإله ست .. استفزني السؤال .. من سرق من .. ومن القاتل ومن المقتول ؟
- أنا من أكد . يا سيدي ..!جئت بكسر طينية لاسترداد مجد فقدناه ، بين سجال الأفكار والأفعال، بين الرغبات والحقائق ، وهل يضيع المجد..؟ ( أطرقت رأسي خجلا واستطردت قائلا بصوت منكسر ).. أبتلينا بنقمة ذهب أسود امتلأت به أرضنا ، فأوقد عبيده نارا لا يفتر أوارها ، زلزلت الأرض بنا ، اقتلعوا إيماننا وأهدروا أرواحنا أهدوها لملائكة الموت ، خافوا نقمتهم من أن يعودوا بلا نفوس زكية فقايضوهم بتلك الأرواح ،
- مقابل اللعنة التي حلت بأرضنا، فأجدبت ربوعنا ، حرق زرعنا ، امتدت القبور كدمامل في (وادي السلام ) بعضها يلغي بعضا .
أدرك القاضي أنني لست من هذا العصر وإني بريء من أكل الذئب ، عرف إني أتيت من عصر الخوف وتجمد العواطف ، وتحجر القلوب ، تفحص رُقمي ، نظر إلي بغرابة وكأنه يريد أن يبث سموم رعبه في داخلي لأنطق خوفي وأنزع رداء أسراري في لحظة ضعف تقدمت بي الأفكار إلى ثلاثين قرنا ، حيث سيحقق معي بتهمة الدخول إلى نخلتي ، والولوج إلى فرات قلبي ،و السكن عند دجلة وجداني ، نعم أنا من عصر الزيتون المر ..أردت أن أبوح بها ، جلست (أنتجونا ) تنظر إلي ، لا تريدني البوح بكل أسراري
لازال ذلك الفنار في بحر عينيها يهدي سفن القلوب الملتاعة إليه ، جمالها يحمل سر استباحة ربوعنا
كنت أبحث بين الأوراق عن لحظة الخلاص فقلبت الأوراق تباعا
ندت صرخة من بين السطور مزقت صمت القبور التي أحاطت بعالمي النائم على زبد الأماني ،
يمتد في الأرض ظلي ليحدد اتجاهاتي الأربع وكأني وتد مثبت في صحراء، تدور الأفلاك وأنا باق في مكاني ، أنا المنتمي أو اللا منتمي إلا لذاتي وكينونتي
قلبت الورقة
وكأني إن أغمضت عيني تلاشى الوجود فلا أملك منه غير مشاعر و أحاسيس تربطني به حبال وصل واهنة
، حاولت أن أترك كل شيء وأعود ,
أصدر القرار، كتب القاضي بلغة أكاد أجهلها رغم إني أنا الذي فككت طلاسمها ، وحللت رموزها ، . لم يستجد شيئا على حالي ، والقاضي يتلو منطوق حكمه
: أسجنوه لأنه جاء يشكو ظلمه إلينا..عاش خوفه، ولم يحرك ساكنا للخلاص

لم يكن سجني جدرانا تحيط بي ولا سيافا يقف على رأسي ، ولا قضبانا تمنع خروجي ، كنت مسجونا بالخوف ،واليأس ، وعدم الثقة بالنفس أضافوا إليها ّ حقنا من البلادة والخنوع والذل ،
ها أنا الهارب من طاعون أصفر استشرى في سوادنا . جئت أشكو للنيل عطش فراتي ، آه أين أجد من يحمل همي فوق رأسه ويخترق هواجس الخوف بمعاول الشجاعة والأيمان ،
نظرت إلى تلك الصورة المعلقة لهذا الرجل المهيب ، جاثم فوق رأس القاضي وكأني اشكوه حالي، أعرفه جيدا قرأت الكلمات ، أنه إله الربيع ، أنه المنقذ ، أنه الحلم الموعود ، كل هذه السنون و ننتظر الخلاص ، نبحث عمن سيجمع هذا الشتات .. قال الضرير بيقين أنه آت.. سمعته يتلمس بصوته الحزين أعتاب الزمان ، يمر قرب بوابات الحكمة ويصدح صوته بالغناء يعلن موت البطل ، يفتت حجارة القلوب بنواح شجي ، الأرض تتكلم بذات الكلام ، كصدى يرتد عبر فضاء لا متناه ، تقدمت حشود من البشر بخطى ثابتة يرددون بصوت واحد وكأنهم في قداس جنائزي
( الإلة ست مات ).. والضرير يصرخ ( جيفارا مات)
ربما اخطأ ، أنه لم يمت ، ربما اشترى المجد بعد أن باع أنفاسه الأخيرة للتأريخ ، هذيان .اللون الداكن ، يحيط بي يلفني كشرنقة لا أجد ما يحتو يني غير كهف من الذكريات لمستقبل بدا كمرآة قاتمة لم ينقشع ضبابها ، السحب الرمادية تملأ فضاء عالمي الموتور تنفث اللهب كمرجل ، خضاب الدم يمتزج ولهيب.النيران ، منذ بدء التأريخ وحتى هذه الساعة ، يدفئون الأسرى ، بفتاوى الحزن الأسود ، الموت يداهم أوكار الطيور فيسقط منها أغصان الزيتون ويحل الظلام ،وينعق البوم بين نهرك ونهري يريد أن يئد الحياة ليمنع الصهيل والأصالة ، صروح أحلامه تعدت كل الشواطئ الغارقة باليأس ، لحقت الضرير مشيت وراءه ، وضعت يدي مع الجموع ، هتفت معهم ، ربما علت الأصوات ، (أرسطفان )
حاول أن يمنع الغضب القادم بنا سدودا من النيران ، الغربان تنعق ( ليس لكم خلاص ، على العالم خلاص)
ولكنه قال (نحن جيش الخلاص ها نحن قادمون )
(انتجونا ) لم تستطع أن تمارس الغواية مع الجميع لتحيلهم عبيد ا لها ، و تسحب شهادات الميلاد منهم، لتبيعهم خبزا من تنورهم الذي بدا يفور كبركان يرمي بحممه إلى الساحات ، الحشود تندفع كتيار دافق تحاول محو أثار أقدام الطاعون .. الضرير أبصر النور ، و غنى (لبهية ) اليوم أوغد ا (ستلبسين طرحتك وجلبابك ) ،أغمضت عيني وأنا أرى سمرة الأرض بوجه بهية التي كانت معنا تسير ..
انتزعوا الأسلاك من رأسي ، تركوني على السرير ، تحسسوا نبضي ،ظنوا إني مت دقات قلبي بدت كأنها تقترب من النهاية ، جرع الأحلام ما عادت تجدي نفعا ، تورمت أوردتي ، الوقت يداهمهم وعروقي تغلي تريد الخلاص ، أحضروا جهاز الصدمات الكهربائي ، لا ..لا تتركوه يموت ، أو يصمت صمتا أبديا ، أنعشوه .. أعيدوا الحياة إليه ...
واحد ..ردت أنفاسي إلي
اثنان الحياة بدت تدب في جسدي ..
ثلاثة قفزت من السرير ..
ركضت إلى هناك .. إلى ساحة التحرير أنتظر بداية النهاية ..


• أنتجونا وأسطفان .. شخوص من أسطورة مصرية قديمة
• ميزو بوتاميا العراق القديم
• وادي السلام أكبر مقبرة في العالم في النجف الأشرف
• علماء المرآة علماء يمتلكون أدلة ومفاجآت جديدة سيغيرون من شكل العالم لأنها تتناول العلم من أساسه
*الإله ست يمثل إله الشر وقد عكست الحقائق لكون الكثير يفهم الأمور عكس ماهي عليه