الرَنْك
فن عرفته دمشق في العصر المملوكي
محمد عيد الخربوطلي
ظهرت في العهد المملوكي منشآت معمارية كثيرة منها ما كانت معروفة، ومنها ما لم تكن معروفة، مثل القيساريات والخانات والترب التي كان يعتني بها الأمراء والأعيان كثيراً، هذه المنشآت الأثرية وضعوا فيها علامات تدل على مكانة ووظيفة باني هذه المنشأة سميت (الرنوك)، وقد أخذها المماليك عن أساتذتهم الأيوبيين.
الرنك:
وهي كلمة فارسية تعني اللون، وهي عبارة عن قطع حجرية مستديرة ومنقوشة اتخذها السلطان ونائبه والأمراء والمتنفذون للدلالة على الوظيفة الرسمية لكل واحد منهم، كما تبين مرتبته الأسرية.
وغالباً ما يكون الرنك مفرداً أو مزدوجاً، أو ضمت حشوة مزرَّرة أو اعتيادية، وأقدم رنك في دمشق يعود للعهد الأتابكي وهو رنك نور الدين الشهيد في البيمارستان النوري، وقد جاء نقشه على شكل زنبقة وكان نور الدين قد اتخذها رمزاً له.
وفي العهد المملوكي اتخذ الرنك طابعاً أكثر جدية، وهو ملاحظ في أكثر أبنية ذلك العهد.
وقد بين القلقشندي الرنوك في كتابه صبح الأعشى فقال: "عادة كل أمير كبير أو صغير أن يكون له رنك خاص به.. وقد جعلوه على أبواب بيوتهم والأماكن المنسوبة إليهم...".
رنوك دمشق:
معظم رنوك دمشق اتخذت رمز الكأس وقد جاء بعدة أشكال، فهو إما رنك يحمل صورة كأس مفردة أو كأسين أو ثلاث، وقد يكون الكأس مترافق برمز آخر، ويرجع الباحثون رمز الكأس إما للثقة التي يمنحها السلطان لصاحبه أو إشارة للقوة والفتوة، أما تكرار الكأس في الرنك فهو من قبيل التفاخر والتعاظم، وفي دمشق الكثير من الرنوك خاصة في قلعة دمشق، فقد وصفها أحد الرحالة الأجانب الذين زاروها سنة 908هـ/ 1502م، فقال: "إنه في كل زاوية من القلعة المذكورة يوجد رنك – شعار – فلورنسي محفور بالرخام..".
الرنك في العصر المملوكي:
لم يكن تصميم الرنك في العصر المملوكي أمراً اعتباطياً، بل كان يوجد جهاز خاص مكلف بوضع تصاميمه استناداً لأهمية الوظيفة وصاحبها، ويعرف بديوان الإنشاء.
أقسام الرنك:
تقسم الرنوك المملوكية في مصر والشام إلى ثلاثة أقسام، كما أكد الشهابي في كتابه (زخارف العمارة الإسلامية في دمشق) نقلاً عن صبح الأعشى وغيره، وهي:
1- رنوك ترمز للشجاعة والقوة مثل صورة النسر في رنك صلاح الدين الأيوبي في قلعته بالقاهرة، ومثل صورة (البَبَر) وهو نوع من السباع يشبه النمر، وقد اتخذه الظاهر بيبرس رمزاً له.
2- رنوك كتابية وهي من رنوك السلاطين ونوابهم، مثل رنك الملك المؤيد (أبو النصر شيخ المحمودي) على أحد البابين الصغيرين الشرقيين للجامع الأموي، ورنك الملك الأشرف قانصوه الغوري في جوار قلعة دمشق.
3- الرنوك المركبة وهي التي تحتوي على أكثر من شكل واحد، ويتراوح بين رمزين وتسعة رموز، مثل رنك قانصوه الغوري في القاهرة، أما رنوك دمشق فلا تتعدى الأربعة رموز، ثلاثة كؤوس متكررة والرابع إما شكل المعيَّن أو المقلمة، وهي تدل على مختلف الوظائف والمراتب التي تنقل فيها صاحب الرنك، فالدواة والمقلمة خاصة بكتاب السر والدوادارية، ورنك السيف والخنجر مختص للسلاح دار، أما رنك الإبريق والبقجة فهو للطشتدار.
أشكال الرنوك في دمشق:
لقد عرفت دمشق عدة أشكال من الرنوك، وهي:
1- زهرة الزنبق وهي شعار نور الدين الشهيد من العهد الأتابكي.
2- الكأس وهو الأعم والأكثر انتشاراً، ويرمز إلى وظيفة الساقي (الشراباتي)، وهو الذي يقدم الشراب للسلطان، كما يرمز للفتوة.
3- المعيَّن وهو يرمز إلى وظيفة (الجمدار) وهو المسؤول عن ملابس السلطان.
4- الدواة والمقلمة ويرمز إلى وظيفة (الدوادار) وهو الذي يحمل دواة السلطان وما يتبع من آلة الكتابة واتخاذ الفرمانات وعرض البريد، وهو يعرف بكاتب السر.
5- الدائرة التي يتوسطها خط أفقي وهي رمز لصاحب البريد.
6- البَبَر وهو حيوان يشبه النمر، وعرف كشعار للظاهر بيبرس.
7- الرنك الكتابي وهو الذي يحتوي على نصوص قرآنية أو مؤرخة.
كذلك عرفت دمشق بعض الرنوك ذات الأشكال الغامضة والمضمون الغامض، كما عرفت رنكاً كان في غاية الظرف، فقد ورد في تحفة ذوي الألباب فيمن حكم بدمشق من الخلفاء والملوك والنواب لابن أبيك الصفدي في ترجمة الأمير جمال الدين أقوش الأفرم الذي ولي نيابة دمشق وغيرها، ثم فرَّ هارباً إلى خلفاء تيمورلنك، فولوه همذان قبل وفاته سنة 720هـ.. كان رنكه غايةً في الظرف، فهو عبارة عن دائرة بيضاء يشقها شطب أخضر كأنه مِسنٌّ عليه سيف أحمر يمر من البياض الفوقاني إلى البياض التحتاني، وقد قال فيه وفي رنكه شمس الدين بن الصايغ:
مَلِكٌ له في الله وجهٌ أبيضٌ
وبعد له في الناس عيشٌ أخضر
وبرَنْكِه اللونانُ حُدَّ عليهما
لعِداته في الحرب سيفٌ أحمر
وقد اشتهر برنكه الذي اتخذه شعاراً له حتى أن النساء الخواطئ كنّ ينقشنه على معاصمهن وعلى أماكن أخرى من أجسادهن شعاراً لهنّ..!
المصادر:
1- صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي 4/ 61، 5/ 11.
2- موسوعة العمارة الإسلامية د. عبد الرحيم غالب 132.
3- زخارف العمارة الإسلامية في دمشق د. قتيبة الشهابي 151 – 166.
4- الكتابات العربية على الآثار الإسلامية د. مايسة محمود داود 185.
5- مشيدات دمشق ذوات الأضرحة د. قتيبة الشهابي 489.
6- السلوك للمقريزي 1/ 67.
7- النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 7/ 4.
8- تحفة ذوي الألباب فيمن حكم بدمشق من الخلفاء والملوك والنواب لابن أبيك الصفدي 2/ 119 – 213 – 214.
9- دمشق في عصر المماليك – نقولا زيادة ص 98 ط بيروت 1966.
10- دمشق بين عصر المماليك والعثمانيين – أكرم حسن العلبي ص 52 – 53 ط دمشق 1982.