من كتابي "الغالية"
(1)
تأتين في زمن الخوف
أسمّيك ليلى.. أخاف منك ذلك المستحيل.
أسمّيك ولاّدة.. أخاف أن يجرّني اسمك إلى بلاط الفلاسفة.
أسمّيك.. ماذا أسمّيك.؟!
أسمّيك شهرزاد.. فينساب صوتك مع أول الصباحات مثل هطل الندى، يغسل عن همهمات قلبي ذلك الحزن الراسي في أعماقه، تُبعدني هواجسي عن حروف الحكايات الصاخبة.
تقتربين بي من شفق الحب، فأقترب.
تتوارين كقمر يغوص وراء كثبان الغيوم، ولا أستطيع أن أغيب.
كأنني تلك الغيوم التي تبقيني قبالة زيت عينيك، حتى في دقائق الذبول.
أي اسم لا يحمل حروف اسمك.. هو لي.
أخلقه قبل لحظة من أي رحيل، أتظلّل تحت سرّه، وأعشق فيه نفسي.
أيتها الآسرة قلبي.. قبل لحظة كنتُ مثل دفق نبع يسيّل ماءه بين صخور عذريّة لم تلمسها إلاّ أصابع مدمّاة لطفل طريّ تلفّح بوشاح حمله إلى عالم بريء.
وبعد تلك اللحظة صرت مكبّلاً بالخوف.. أطوف مع صورةٍ لك، نسجْتها في ميدان خيالاتي خيطاً بعد خيط، وأمنية وراء أمنية، في رحلة عمري الطويلة، وحين اكتملَ خلقها.. حاولت أن أقتلها فأفلتت مني، حاولت ألف مرّة فاستعصت، ثم سكنت في نبض ضلوعي، أستلّها خفية عن عيون الناس، أرشف رحيقها، أضمّها إلى صدري فتكاد وهي تثلج غروري.. تحرقني.
أحاول أن ألقيها بعيداً، فتحملني معها.. تلتصق بي، وتجعلني فيها.
أسمّيك شهرزاد.. فهل تجرئين أن تسمّيني فارسك.؟
أيتها المزروعة في صدري مثل عبق وطني.
أنت قطعة من وطني، تصيرين، وتكبرين، فأحبك أكثر، أمتشق من كحل حاجبيك فيصلاً رهيفاً، لم يعد يرعبني، بل يحمل معي مشاعل الرغبات.
صدأ يعلو شفرة السنوات الثقال التي صبغت حلّتي بالبياض، وأثلجت فوق بيادر عمري شتاءات كثيرة.. ها هي ذي تقرّعني.
تسألني، من أنتِ.. ومن أنا.؟!
من نحن في هذه اللجّة.؟
هل يسرقنا الزمن.. أم أننا نسرق منه لحظات ليست لنا.؟
أيتها الشهرزاد التي يكبّلني ذلك البريق الطالع من زيتون عينيها، كأنها أشجار بلادي، تندف فوقي ريحها الطيّب، فأستريح في زحمة أوراقها وفروعها.!
تطبق كفّي على حفنة تراب، حمراء وسمراء مقدسيّة، يرموكية، ساحليّة.. أتحسس فيها بياض روحك، فأغيب حتى آخر عرق في جسدي، أشّم في غبارها عبق الغار الطافح من فحم شعرك.
لا تسأليني كيف حدث ما حدث، هكذا مثل إطلالة الشمس، مثل سقطة عصفور ضعيف بين مخالب الجوارح..
هي حالة لا أملك منها فكاكاً، تمتلكني، تقتحمني، تحتلّني.
ومثل طفل يبعدونه عن ثدي أمّه يقاوم، فأقاوم.. يبكي، ولا أبكي.
ألم أقل لك إنني أضعت دموعي فوق أسلاك سرقت في ظلام ليل طفولتي وبذور عشقي.! واستهلكت قراري.! أكاد أن أفرّ منها كلما غاص بي شوط العمر، لكنها تتمكّن مني في كل حين.
أتدرين..
أحسّك مثل الجرح الذي يغري بلمسه كلما اقترب من الشفاء، أراك قدري.
تأخرتِ يا حبيبتي، تأخرتِ.. ثم في لحظة سحريّةً تدفّقتِ مثل مواكب النصر.
رأيتك.. لم أستطع إلا أن أغوص في زيتون عينيك، كانتا تلتمعان وتشدّان روحي إليك.. لا تسأليني كيف التقطت رموشي همسات دمعاتك الماسيّة.؟ كل ما أذكره أنها أرسلت شهاباً ألهب سكوني وسكون المكان، وسقط بعد هنيهة في قرارة صدري.
أيتها المزروعة فيه منذ تشكّلت حروف الأبجدية.
هل كنتِ طيفاً في حلمي ذات ليلة.؟ أم أنك عششّت وأنت لا تدرين، وأنا لا أدري، في ساحة خيالاتي رسماً لخربشة على صفحة جدول، تحت قارب من ورق يجرّه طفل لم تدركه الحياة بعد ولم يدركها.
أيتها السابحة في قاني عروقي.
ربما لست أنتِ.. ربما أنتِ.؟
صدّقيني، أنا لا أملك جواباً لسؤال تملكين له كل الأجوبة.
تنساب الكلمات من كوخ صمتي، فلا أصدّق أنني من يقيم عرس الكتابة..
كأن فتىً يحتلّني.. يحسّ العشق لأول مرة في حياته، يحلم كما يحلم الفتيان بربيع وفضاء وهديل حمام.
اليوم أحسست بصوتكِ بين راحتيّ.. وعينيك العسجديتان تتكئان على أهدابي.. فغرقت.
حاولت أن أنجو من بريق شفتيك، فلم أقدر!
حملتني ألف يمامة، وألقتني فوق وجنتيك..
هل تجرؤين على كسر حلقة الخوف يا شهرزاد.؟
وهل أستطيع الخروج منها..؟
ترى، متى نستطيع الجواب.. متى.؟!
ـ ـ ـ