بعد جهود أكثر من قرنين.. علماء الآثار يفكون طلاسم اللغة المروية

فتح جديد يوازي اكتشاف الهيروغليفية
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

الخرطوم: شذى مصطفى

أكثر من ألف نص مكتوب باللغة المرويّة القديمة، تنتظر مجهودات علماء الآثار لفهم معانيها! هذا ما أعلنه مؤخرا عالم الآثار الفرنسي كلود ريللي في عدة محاضرات أقامها في الخرطوم، مؤكداً ان العلماء نجحوا في معرفة بعض مصادر تلك اللغة وعدد من معاني كلماتها والوسائل والمصادر التي اعتمدت عليها، مما يعتبر خطوة كبيرة في بداية الطريق المعقّد كما يصفه.

سادت «مملكة مروي» ما بين 2500 ق. م. الى القرن الخامس الميلادي، معاصرة الحضارة المصرية القديمة، وامتدت من الأقصر، جنوب مصر الى وسط السودان حول حوض النيل. لكن الحضارة المصرية، سبقت الحضارة المروية في تدوين أو كتابة اللغة بفترة طويلة حتى أن ملك مروى الشهير ترهاقا الذي غزا مصر في القرن السابع ق.م. كتب واصفا غزواته وانتصاراته باللغة الهيروغليفية، إلا أنه في القرن الثاني ق.م. بدأت كتابة اللغة المروية. وتعود أول محاولة للعلماء الغربيين لمعرفة اللغة المروية القديمة إلى أكثر من 150 عاما، أي بعد وقت قصير من النجاح في الكشف عن اللغة المصرية القديمة. لكن العلماء فوجئوا بأن اللغة المروية هي لغة معقدة ومختلفة تماما عن اللغة المصرية القديمة التي تلجأ الى التصوير أو الرسم لطائر أو عين إلخ، بينما اللغة المروية صغيرة الحجم وشبيهة بالأرقام وتبدأ من اليمين للشمال، وبها حروف صغيرة وأخرى كبيرة «كالإنجليزية». وفي العام 1911 توصل عالم المصريات البريطاني جريفث الى معرفة نطق أو قراءة اللغة المروية، ولكن دون فهم معانيها. والانجاز الذي أعلن عنه مؤخراً في الخرطوم، هو نجاح العلماء الآن، في ترجمة 100 كلمة تتضمن 40 حرفا أساسيا، وإن لم يتوصلوا بعد الى معرفة كل مفردات المروية أو أفعالها.

وفي لقاء خاص وردا على سؤال لنا نستوضح من خلاله، هل استخدم العلماء اليوم نفس تقنية شامبليون في فك شيفرة اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية»؟ يرد د. كلود بالقول: «استعان شامبليون باللغة القبطية التي تردد حتى الآن في الكنائس الأورثوذكسية بمصر. فاللغة القبطية منطوقة وليست مكتوبة، وفي جزء كبير منها لغة هيروغليفية. وبذا يمكننا القول أن اللغة الهيروغليفية صمدت لثلاث ألفيات! فما أن توصل شامبليون الى المفتاح حتى تيسرت له الترجمة، ولكن الحال يختلف تماما بالنسبة للغة المروية التي اختفت أو اندثرت تماما. وما نقوم به هو وضع النصوص كلها أمامنا ومقارنتها، بما يشبه لعبة «بازل» كبيرة! ثم نقول على سبيل المثال أن هذه الكلمة مشتقة من المصرية، هذه الكلمة صفة، هذه فعل، هذه معناها جيد وشائعة الاستعمال هذه سيئة ولا تستخدم كثيرا إلخ. ثم نقوم بمقارنة الكلمات التي حققناها في اللغة المرويّة باللغات الحالية المستخدمة في كردفان ودارفور بغرب السودان وآريتريا بالشرق، كما هو الحال بالنسبة للغة الرومانية القديمة التي كانت مصدرا للغات الأوروبية الحالية.

وحسب النظرية الحديثة، فإن سكان مملكة مروي جاءوا من كردفان ودارفور بغرب السودان منذ آلاف السنين، واستقروا في منطقة وادي النيل، واختلطوا بأعراق أخرى من شرق وشمال أفريقيا، ولكنهم ظلوا محافظين على لغتهم الأصلية لولا تغييرات طفيفة. فاللغات بطيئة التغيير وليست كالسحنات أو الأعراق. وبعد أن قويت دولتهم قاموا بحملات غزو على غرب السودان لجلب العبيد من هناك ناسين أنها منطقة جذورهم الأولى، وكانوا يسمّونهم «النوبة». وهى آخر كلمة مروية توصل العلماء الى معناها مؤخراً، بعد بحث ومقارنات مضنية، وتعني «العبيد» ـ كما يشرح لنا العالم الفرنسي. ويقول «فى الحضارة النوبية لا أحد يلقب نفسه بأنه نوبي ولا حتى الممالك القديمة أو نوبة شمال السودان الذين يعرفون بالمحس، وسكان دنقلا المعروفون بالدناقلة، ونوبة غرب السودان بجبال النوبة في كردفان فيعرفون بالأناج، ونوبة دارفور معروفون بالمورجي أو التيد، وكلمة نوب تعني «الرجل المزارع ذا الأصل المتدني أو العبيد الجدد! إذا فحديث العلماء سابقا بأن النوبة تعني أرض الذهب ليس صحيحا. فأهل السودان القديم كانوا ذوي بأس وشدة ومشهورين بصناعة الحراب، وأهل مصر القديمة كانوا يطلقون عليها أرض «نبتة».

ويضيف ريللي قائلا: «كما توصلنا لفهم بعض الكلمات كالوظائف أو الرتب الاجتماعية المنقوشة على القبور وكلمات مثل ابن، ابنة، أخت، أخ، وأسماء الحملات التي شنها ملوكهم على جيرانهم من الشعوب، وكم قتلوا فيها وكم أسروا من النساء كما هي المعلومات العسكرية المدوّنة في الآثار المصرية! ثم اننا عرفنا أمنياتهم للموتي مثل عبارة، فلينعم عليك الرب بالطعام والشراب الجيد، أو بوجبة طيبة في الحياة الثانية». كما أن المرأة في الحضارة المروية القديمة اشتهرت بتقلد وظائف رفيعة، فملكات كثيرات حكمن في تلك الفترة وحملن السيوف وقدن الجيوش ومنهن الملكة أماني شيخيتو «الكنداكة» التي قابلت جيوش الرومانيين ببسالة وصدّتهم عن أراضيها. فمملكة مروي من الممالك القديمة القليلة التي اشتهرت بذلك.

جريدة الشرق الاوسط