الحوار - الاختلاف - تعدد الأراء : ضوابط وآداب (3)
--------------------------------------------------------------------------------
الضوابط الشرعية للاختلاف
فيصل العوامي
السؤال:
ما هي الضوابط الشرعية التي حددها الدين لتنظيم حالة الاختلاف في وسط المجتمع الإسلامي .. ؟.. وإنما يسأل عن الضوابط الشرعية ، لأن طريقة الاختلاف الشائعة بين المسلمين أنفسهم الذين يحتكمون إلى شرع مقدس يشوبها الكثير من الأخطاء ، حيث تظهر السلوكيات التكفيرية والتهجمات والاتهامات وما إلى ذلك فيما بينهم ، بمجرد أن تظهر على السطح ثمة قضية اختلافية اجتماعية كانت أو ثقافية..
فمن يتأمل في الحالة الاجتماعية في الوسط الإسلامي هذه الأيام ، يتعجب من طريقة التعاطي الاجتماعي بين التيارات والاتجاهات، فهناك الحروب الكلامية التي تمتلئ بها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة ، وهناك الجفاء الشديد والخصام الحاد ، هذا غير التحريضات التي يقوم بها كل تيار ضد الآخر .. الخ .. ولا شك أن كل ذلك عمل غير صحي ، لعدم احتكامه إلى قوانين الدين وضوابطه التي شرعت لمثل هذه الحالة من الاختلاف .. فما هي تلك الضوابط التي ينبغي أن يلتزم بها كل تيار أو طرف عندما يختلف مع آخر .. ؟.
الجواب:
إن الدين الإسلامي عندما جاء لينادي ببناء مجتمع له مميزاته وأسسه ، لا بد أن يكون قد وضع في اعتباره بروز حالات من التعدد والاختلاف ، إذ لا يعقل أن يكون هناك مجتمع واسع كالذي يدعو إليه الدين، يتواجد فيه الأسود والأبيض والعربي والعجمي وامثالهم، ثم لا تبرز في وسطه رغبات مختلفة وتصورات متباينة .. خاصة أن الدين لم يمنع من الاختلاف ولذا أقر الاجتهاد ودعا إليه ، بل ونبذ التقليد الأعمى للغير ..
لكن الدين الذي أقر حالة الاختلاف ، لم يرد لتلك الحالة أن تستفحل وتمتلئ بالعصبيات لدرجة قد تضر بأساس المشروع الاجتماعي له المتمثل في بناء المجتمع الإسلامي ، ولذلك سن عدة من الضوابط التي تتكفل عند الالتزام بها بتحويل الاختلاف إلى حالة إيجابية ، تساهم في دعم ذلك المشروع الاجتماعي وتطويره .. من بين تلك الضوابط :
1ـ المحافظة على حالة الوئام النفسي بين الأطراف، وذلك عبر نبذ البغض والأحقاد.. فلقد حرم الدين البغض الذي ينبعث في النفس تجاه المؤمن واعتبره من ممحقات الإيمان ، حيث جاء في رواية صحيحة عن الإمام الصادق "ع" انه قال : قال رسول الله "ص" : " ألا إن في التباغض الحالقة ، لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين " .
ففيما إذا حدث ثمة اختلاف بين مؤمن وآخر على الصعيد الاجتماعي أو الفكري ، ينبغي أن لا يصاحب ذلك الاختلاف أي شئ من البغض والتشاحن النفسي ، خاصة انه يقود ـ كما تبين الرواية ـ إلى الإضرار بدين الإنسان.
2ـ الحذر من الانتقال إلى منطق الاتهام والتشكيك في النيات .. فالاختلاف لا يعطي للإنسان الحق بأن يسئ الظن في أقوال وأفعال من يختلف معه ويحللها كما يشاء ، ثم يوجه تلك التحاليل على هيئة تهم وافتراءات بهدف التعريض والاستنقاص .. فقد نطق الدين بحرمة إساءة الظن وحرمة الاتهام..
فقد قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).الحجرات / 12.
وقال رسول الله "ص": " من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه ".
وقال الإمام علي "ع": " لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا وأنت تجد لها في الخير محتملا ".
ففي بداية الأمر لا يصح من المؤمن أن يشكك في نيات الآخرين ، ثم لا يحل له أيضاً أن يحول نتائج تلك التشكيكات إلى تهم ، لأن الاتهام أمر محرم شرعا، فقد ورد في الصحيح عن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمار اليماني عن أبي عبد الله الصادق "ع": " إذا اتهم المؤمن أخاه المؤمن إنماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء ".
3ـ تجنب التشهير والكشف المتعمد لمخفيات الآخر .. حيث نرى في بعض الأحيان إن بعض التيارات أو الأفراد يعمدون إلى جمع أسرار من يختلفون معه ليستخدموها يوما أوراقا ضده ، بهدف الحط من مكانته الاجتماعية .. وهذا عمل غير مشروع دينيا ، فقد ورد في موثقة ابن بكير عن الصادق "ع" قال : " أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يواخي الرجل وهو يحفظ زلاته فيعيره بها يوما ما ".
هذه جملة من الأنظمة الشرعية التي تنظّم حالة الاختلاف الناشئة في وسط المجتمع ، وليست كل الأنظمة ، وسوف نتعرض إلى قسم منها ضمن تساؤلات أخرى لاحقة .
أخيراً لو أن المجتمع يحتكم إلى هذه القوانين والأنظمة عندما تنشأ في وسطه حالة الاختلاف ، فلا شك أن اختلافه سيكون مؤدبا واكثر إيجابية .