التقابلات الضديّة
في قصيدة (على عتبة الحنين) للشاعر أحمد طناش شطناوي
بقلم/ محمد فتحي المقداد
جاءت على شكل رسالة لشاعر الأردن (مصطفى وهبي التل) الذي اختار لقب (عرار) من قول الشاعر عمرو بن شأس الأسدي في ابنه عرار، وكان قد لقي الأذى من زوجة أبيه (ضرة أمّه):
" أرادت عرارًا بالهوان، ومن يُرد **عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم).
وصار هذا اللقب ملازما للشاعر معروفًا به، وتوقيعًا يُذيّل به كتاباته وأشعاره، وطغى على اسمه الحقيقيّ.
وجاءت القصيدة ( على عتبة الحنين) على شكل رسالة، وهو يعيدنا إلى موضوع أدب الرسائل، الذي اتّخذ له جزءًا في كتب التراث الأدبي العربي و العالمي، هذا المسار من الأدب الذي كاد يتوقّف أو ينقرض، وكأنّي (بالرافعي) رحمه الله، عندما اصدر كتابه (رسائل الأحزان)، ورسائله الأدبية المتبادلة مع (مي زيادة) في كتابه(أوراق الورد)، و في (رسائل إخوان الصّفا) التي ظهرت أيّام العباسيين الكثير من الأفكار الفلسفية والوجودية المختلف عليها أو بعضها فيما بين المفكرين والعلماء.
عتبة الحنين القصيدة تقول:
"عينـــــاكِ من سهـــــلِ الربيعِ ومائهِ ** ورسالتانِ مـــــن اخضــرارِ إبائــــهِ".
"ويـــــداكِ مع خصرِ الصبَّا ريحانــةٌ ** يلــــويهما تحــــتَ اشتعالَ غنــــائـهِ"
مطلع غزليّ بامتياز على نمط القصيدة العربية في مطلعها، استلزم استحضار العينين واليدين والخصر النحيل، لتقود المتلقي في سياقها بانسجام عجيب، للتماهي مع قصيدة (البُردة) ل(كعب بن زهير):
"بانت سُعاد فقلبي اليوم متبول** مُتيّمٌ إثرها لم يُفد مكبول".
بعد هذه التهيئة التي قادتنا إليها القصيدة بمطلعها الغزليّ، تأتي الصدمة من تغيّر الموضوع إلى تغزّل بالديار (إربد) موطن الشّاعريْن، بدلالة ألفاظ مثل( يا جنّة الحُسن، المنازل، الطّلول، سفوح، فناء، رُبوع)، تقودنا من عالم الخيال الماديّ إلى وصف الجغرافيا (الغزل الجغرافيّ) بتقنيّة فنيّة عالية دالّة على قدرة الشّاعر على نقل المُتلقٍي عبر المشاهد بسلاسة عبر شاهد القصيدة المقصود، لنكتشف أن ما قصده الشاعر في البيت الأول أن العينين ما كانتا إلا سهول إربد ونهر اليرموك الذيْن تمّ استدعاؤهما في الأبيات التي لحقت، ثم لنكتشف أن لون العينين كانتا من خضرة الربيع، فكانتا تشعان بالخصوبة والجمال، وقد قدم الشاعر رسالتين واضحتين في أسلوب مقارن جميل بين الماضي والحاضر فكان المطلع مذهلاً في معناه الغزلي ومدهشا في تداعياته التفسيرية مع جسم القصيدة، كما أنّ دلالة العنوان(على عتبة الحنين) عادة ما يكون الحنين للماضي، والزمن الجميل، أيام الخير، وجاءت بعبارات رصينة عميقة بمؤشّراتها، ويكون الوقوف على الأطلال والبكاء عليها وحده، ولم يفعل كما فعل امرؤ القيس حينما وقف واستوقف، وبكا واستبكى، وإنما اكتفى بنفسه:
"يبكي المنــــازلَ والطلــــــولَ ودمعُه**أسفاً يسيـــلُ على سفـــــوحِ بكائـــــهِ"
كل هذا البكاء والحنين كان:
"لعــــروسةٍ حضنتْ شمالَ ربـــــوعهِ** عــــــزف الهــــوى متوضئاً بضيائه"
وعروس الشّمال صار لقبًا خاصًّا بمدينة إربد التي تتربّع في شمال المملكة، وفي الجزء الجنوبي من سهل حوران الممتدّ على جانبي الحدود ما بين الأردن وسورية. وعلى تُخوم الذاكرة تأخذنا القصيدة، والجة بنا عتبة الحنين إلى (عِفّة الدّحنون، وقصّة التّين، وحُمرة الرّمان، وسنابل الأحلام)ّ وهكذا تسبر المعاني بنا للوصول إلى عتبة (صبر الأماني)، للتوقّف وتأمّل عفّة الدّحنون المقتبسة من عفّة تراب إربد المخضّب بحُمرة الحبّ والعطاء متساوق مع حمرة دماء فدتها على مرّ التاريخ، ليأتي التين المتجذّر ويحكي القصة كلها منذ البداية.
ومن المفارقات التقاء حمرة الدحنون العفيف مع حمرة جلنار الرمّان إلا تأكيد لحكاية السنابل والشاعر توقّف عند عتبة (صبر الأماني)، ليستدير عكس (عتبة الحنين) عندما اصطدم بجدار الواقع الصلب، ليخبرنا: (أسف السنابل، وجفوة الدُّحنون، ورغبة التين، ومخاوف الرٍمان)، ويطلق صرخته من خلال مخاطبه للشاعر(عرار)،مُستطمرًا قلقه ومخاوفه:
"أطلقتُهـا والليلُ كحَّــــلَ نجمَــْهُ// والفجــرُ أقبــلَ مــن أنينِ رثائـهِ
مستمطـراً قلقي وحبـــرَ مخاوفي// وأبـوحُ للحمـلِ الثقيــلِ بدائـــهِ"ّ.
عتبات الألفاظ (التين، الزيتون، الرمان، السنابل) هذه انحدرت من عتبة واحدة جامعة شاملة مكينة، هي عتبة القرآن الكريم التي نهل منها الشاعر في رائعته (على عتبة الحنين).
عمّان – الأردن
29/ 3/ 2018