د. وليد قصاب
المصدر: العدد 67 من مجلة الأدب الإسلامي


رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Web/alkassab/0/33833/#ixzz1qDYumnlz

إن المناهج النقديَّة - شأنها في ذلك شأْن المذاهب الأدبيَّة - ترتبط بفلسفات وعقائد وأيديولوجيَّات، وتمثِّل وجهات نظرٍ عن الكون والإنسان والحياة والإله، وهي وجهات تصدرُ عن حضارة الآخر، وتعبِّر عنه بطبيعة الحال.

وقد بدأ ارتباط المنهج النقدي بالفلسفة والعقيدة منذ نشْأَته المبكِّرة؛ إذ لم تكنْ آراء أفلاطون النقدية - صاحب أوَّل نقْدٍ حقيقي في الغرب القديم[1] - إلا انعكاسًا لفِكرته الفلسفية المثاليَّة، وتصوره لعالم الْمُثُل، وعالم الأشياء، ثم مَضَتِ المناهج النقدية والمذاهب الأدبيَّة جميعُها على هذه الشاكِلة من الارتباط الوثيق بينها وبين الفلسفات والعقائد.

يقول "تيري إيغلتون" مُوضِّحًا هذا الارتباط الحميم: "إنَّ تاريخ النظرية الأدبيَّة الحديثة جزءٌ من التاريخ السياسي والأيديولوجي لحقبتنا، والنظرية الأدبية مرتبطة بالقناعات السياسيَّة، والقِيَم الأيديولوجيَّة على نحو لا يقبل الانفصال، وإن وجودَ نظريَّة أدبيَّة خالصة - أي خلو من هذه القضايا الأيديولوجيَّة - هي أسطورة أكاديمية"[2].

ويرى الناقد الفرنسي "دانييل برجينر": "أن تبنِّي الناقد منهجًا معيَّنًا يَعني تبنِّي مفهوم للإنسان ذاته..."[3].

إن هذه البدهية تجعلنا نقفُ موقفَ الحَذَر من هذه المناهج الغربية، وأن نفكِّرَ في آليَّة للتعامُل معها.

آلية قديمة:
وهي آلية غير جديدة علينا، إنها آليَّة معروفة طبَّقها نقَّادُنا القُدماء.

كان النقد العربي دائمًا مُنْفتحًا على الثقافات الأخرى، لم يغلقْ نوافذَه أبدًا دونها، انفتحَ منذ أواخر العصر الأموي وبداية العصر العباسي على الثقافة الفارسية والهندية واليونانيَّة، وأخَذَ منها وترَك، عرَف كتابَي "الشعر والخطابة"؛ لأرسطو اليوناني، واستفادَ مما عند هذا الفيلسوف الناقد، ولكنَّها كانت استفادة الهضْم والفَهم والمحاكمة، استفادة الأخْذِ والترْك، وبذلك وحدَه ظلَّ النقْدُ العربي على مدى تاريخه مصْنوعًا في المطبخ العربي، مصبوغًا بصبغته وذوقه؛ لأن هذا النقد كان يَعرِف أن نقْدَ الآخر مستمد من إبداعه، وهو إبداع يختلف عن الإبداع العربي في الفكر واللغة، والأسلوب والذوق.

كانتْ هذه الحقيقة دائمًا واضحة في ذِهن الناقد العربي القديم، ولكنَّها - للأسف - مُغيَّبة عن الناقد العربي المعاصر إلا القليل النادر منهم، ومِن ثَمَّ يقع دائمًا في إشكالية خطيرة جدًّا، وهي تطبيق منهج نقدي على إبداع لا يتناسب معه على تجربة ليستْ تجربته التي اقتبسَ منها.

إن أيَّ منهجٍ ينبغي أن ينبعَ مِن واقع التجربة ذاتها، وأن يخرجَ من معطفها المعرفي، وإلاَّ كان فضْفاضًا عليه.

نخطئ كلَّ الخطأ، ونعيش خارج العصر وعلى هامش الحياة، إذا لم نطلعْ على ما يكتبه الآخرون، ولا سيَّما الغربيون؛ لأنَّهم اليوم - ولنقلْ ذلك بصراحة تامَّة - متفوقون علينا، ولكنَّنا - في المقابل - نخطِئ خطأً أفدحَ من سابقه، ونعيش بلا هُويَّة ولا شخصيَّة، إذا أخذنا من الآخرين كلَّ شيء، إذا لم نغربِلْ ما أخذْنا في مصفاة عقيدتنا وثقافتنا، إذا لم نضعْ عليه بصمتنا، ونمهره بتوقيعنا، ليس هناك مذهبٌ أو منهج فكري غربي يصلح لنا بحذافيره، بل لا بد من أن نُجْرِي فيه مشرطَ الجرَّاح لنقُصَّ الزوائد، أو نضيف النواقص بما يتفقُ مع رؤيتنا، ولا يغرنَّك ما بين ثقافات الأُمم جميعِها من نقاط الْتِقاء، فهي - مَهْما كثُرتْ - لا تَعني التطابق أو التوحُّد، أو أنَّ ثقافة ما قد صارتْ هي الأخرى عينها.

بَقِي التحديثُ العربيُّ رشيدًا إلى عهْدٍ طويل؛ لا تختلط فيه الأوراق، ولا تغيب فيه السمات المميزة، كان - إلى عهد طويل - تحديثًا رشيدًا؛ يطوِّر ولا يغيِّر، يجدِّد ولا يُبدِّد، يحتكُّ ولكنَّه لا يتلاشى ولا ينصهر ولا يذوب، حدَثَ هذا في أثناء عصور قوة الحضارة العربية الإسلامية، وفي مطالع العصر الحديث على أيدي المجدِّدين الكبار؛ كمحمد عبده، والرافعي، والكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، والعقَّاد، والمازني، وشكيب أرسلان، ومحمد مندور، وعبدالقادر القط، وشوقي ضيف، وكثيرين كثيرين غيرهم.

لَم يكنْ يغيب أبدًا في العصر الحديث الرشيد وجهُنا أو هُويَّتنا، كانا حاضرين، وكان التعامُل مع تراث الآخر تعامُل استلهام واستيحاء، ولكنَّ النقدَ العربي الحديث اليوم ينفتحُ على النقد الغربي انفتاحَ انبهارٍ، بل انفتاح خضوع واستكانة، انفتاح استهلاك لا انفتاح استيعاب، وهو يتعامل مع مناهج ذات خلفيَّات فكريَّة معرفيَّة صادرة عن فلسفات وعقائد مخالفة لفلسفتنا وعقيدتنا كلَّ المخالفة، وبدا كثيرًا - ورُبَّما جميع ما توصَّل إليه الفكر النقدي الغربي - على عواره وتضاربه وتناقضه أحيانًا، وعلى نسخ كلِّ جديد منه لِما سبقه - من الحقائق المسلمة، التي لا ينبغي أن يشتغلَ أحدٌ بنقْدِها أو بيان فسادها، إنَّه الانبهار والاستخذاء.

أزمة النقد العربي الحديث:
فشل النقاد العرب المعاصرون " الحداثيون" - إلا النادر منهم - في تأصيل مدرسة أو مدارس نقديَّة عربية تنبعُ من طبيعة الأدب العربي، من هُويَّة هذه الأُمَّة وثقافتها وذوقها، كاد عملهم يقتصر على تطبيق نظريَّات النقد الغربي على الأدب العربي، بل إخضاع هذا الأدب لهذا التنظير النقدي الغربي، ومَضَى بعضُهم أبعد من ذلك، فراح يَسخَرُ من أيِّ فكرٍ نقدي خلَّفه الآباء، ثم عدا أكثر فراح يستبدل بمصطلحاته مصطلحات حَدَاثيَّة مرادفة لها، قلَّ أن وجدنا ناقدًا عربيًّا يدخل في حوار مع آراء هذا النقد الغربي التي يتسمُ كثيرٌ منها بتفاهة وشذوذ، وتحيُّز وتخمين، واعتماد على الهوى والظن، ناهِيك عمَّا فيها من مخالفة فاقعة لأبسط تصوُّراتنا؛ الفكريَّة والعَقَدية اللغويَّة.

لقد أصبح هذا النقد الغربي عند قومٍ منَّا هو الشاهد المهيمن على ذَوقنا، وهو الحَكم على أدبنا العربي والإسلامي؛ قديمه وحديثه.

إنَّ معاييرَ الجمال والقُبح والمستحَسن والمستهْجَن: هي اليوم معايير مستوردة من هذا الفكر الغربي، وهي التي توجِّه بعض أو أغلب نقَّادنا العرب المعاصرين إلى ما يقبلون وما يرفضون.

إن النقد الحَدَاثي يقوم بمؤامرة واضحة على الذوق العربي والإسلامي، إنه دائمُ الثورة على هذا الذوق، دائمُ الانتقاص منه، ومحاولة نفْيه أو إقصائه أو تغريبه، صارتْ هنالك أحكامٌ ومقاييسُ فُرضتْ - بوحْي من الآخر - على أدبنا فرْضًا، فصار محظورًا - مثلاً على الأدب - أن يعِظَ أو يرشدَ، أو يعلِّم أو يثقِّف، وصار ممنوعًا عليه أن يوضِّح أو يبيِّن، وصار الخروج على "التابو" وتدنيس المقدَّس، وكسر حاجز الحلال والحرام، والمسكوت عنه والمستحيا من ذِكْره، وما شاكَلَ ذلك من علامات قَبول هذا الأدب، وتصفيق النقد الحارِّ له، بل منحه أرقى أوسمة التفوق وجوائزه الماديَّة والمعنويَّة، وصار محظورًا على النقد أن يفسِّر أو يشرح، أو يقوِّمَ أو يحكم، صار يطلب منه أن يكون متلقِّيًا يقبل كل ما يُلقى إليه، وأن يحاول تسويغه بكلِّ الطرُق، بل أن يشتركَ في الترويج له وتسويقه بحجة أنَّه شريكٌ في إنتاجه، صار ممنوعًا على هذا النقد - مثلما هو ممنوع على الأدب - أن يستأنس أو يفيء إلى أيِّ ثابتٍ من الثوابت، أو قاعدة من القواعد، ذلك لأنه - على زعم أحدهم - "لا بد من الإقرار بأن زمن الثبات والطمأنينة ارتحلَ في غَفلة عنَّا، ليحلَّ محلَّه زمن غُربة وجوديَّة جديدة"[4].

إن ما يُسَمَّى: "النقد العربي الحديث" المحاكي للنقد الغربي مأزومٌ في غالبيَّته، بل مريض مرضًا وبيلا ًيشلُّه عن الفاعلية والتأثير، وذلك للأسباب التالية:
1- غربته عن رُوح الأدب العربي الأصيل.

2- غموضه وصعوبته، ووعورة مصطلحاته ولُغته، حتى كاد لا يصل إلا إلى فئة محدودة من ذَوي الاختصاص، وهو غُموض متعمَّد مقصود.

3- عدم استحضاره القارئ الذي ينبغي أن يكونَ غايةً كبرى مِن غاياته، يُعينه على فَهم العمل الأدبي وتذوقه، وإدراك أسراره وجماليَّته، بدلاً مِن أن يحولَ له هذا العمل إلى لغزٍ لا يُمكن فكُّ طلاسمه، من خلال جداول وأرقام وإحداثيَّات رياضية لا طائل من ورائها.

4- عدم قيامه بِدَوْر رعاية الحركة الأدبيَّة، والسكوت على ما قد يصيبها من انحراف فكري أو فنيٍّ، والانسياق وراء الأدباء في كلِّ ما يقولون؛ لتسويغ جميع ما يصدر عنهم أو توصيفه فحسب، يقول أحدُهم: "النقد الحديث يقفُ في نهاية الأمر أمام الرؤيا المعاصرة مُحَلِّلاً، لا مُعرضًا ولا متنكرًا"[5].

5- أحادية النظرة في هذا النقد، التي تجعلُه - بحسب الاتجاه الذي يتبنَّاه هذا الناقد - يركِّز على جانبٍ من جوانب العمل الأدبي، ويُهْمِل جانبًا آخرَ، بل الجوانب الأخرى جميعها.

ثم إنَّ النقد الحديث اليوم لا ضوابطَ له، أو لا معايير، ولا ثوابت؛ إنَّه آراء ينسف بعضها بعضًا، ويلغي بعضُها بعضًا في سلسة من الهدْم لا تنتهي، ومن هذا المنطلق قال أحدهم مُصوِّرًا ذلك: "يُمكن القول أنَّ هناك نقدًا قديمًا، أو معايير نقديَّة كلاسيكيَّة بالمعنى الأدق، ولكن لا يمكن القول أنَّ هناك نقْدًا حديثًا أو معايير نقدية حديثة؛ لأن النقد القديم كان يُعنَى بوضْع المعيار والقاعدة، أما النقد الحديث فيبقَى مفتوحًا قابلاً للنقاش، فالناقد الحديث عندما ينقد، ينقد لنفسه في الدرجة الأولى قبل أن ينقد للقارئ الحديث؛ موجهًا ومُعلِّمًا، إنها رؤياه الخاصة من النص، وإنها قراءته التي لا تلزم سواه.." [6].

تلك بعض من آفات المناهج النقدية الغربية التي فشتْ في نقدنا العربي الحديث، وراحت تنخرُ فيه مثلما نخرتْ قبل ذلك في هذا النقد المنقول المحاكَى.

إن ما يُسمَّى النقد العربي الحديث - في غالبيَّته العظمي - يشعرُك بانطفاء الْهُويَّة الذاتيَّة، بل إمحاؤها أمام هذا الآخر الغربي، يشعرُك - في أحيان كثيرة - كيف يتعطَّل العقل العربي، وتُشَلُّ فاعليَّتُه، ويبدو تابعًا ذليلاً، لا حول له ولا طَول، وهي حالة لا تكاد تجدُ له مثيلاً عند عقلٍ آخرَ مِن عُقُول بني البشَر.

النَّقْد الإسْلامي والمناهِج الغربيَّة:
إن النقدَ الأدبي الإسلامي الذي ندعو إليه لا يعيش في الفراغ، ولا يحيا في عُزلة، إنه مثل مناهج النقد المختلفة، يتناول قضايا الأدبِ التي تتناولها، ولكنْ له تصوُّرُه الخاص عن كل قضيَّة من القضايا، وهو تصوُّر مُنطلِق من العقيدة الإسلامية، وقد يتَّفق أحيانًا مع بعض تصوُّرات المناهِج الأخرى وقد يختلِف.

فهو قد يتَّفقُ مع مناهج النقد التاريخي والاجتماعي والنفسي وغيرها في الاهتمام بوظيفة الأدب، وفي ارتباطه بالخارجِ الذي كونه، ولكنَّه - ضمن هذا الإطار العام - ليس أحدَ هذه المناهج تمامًا، ولا نسخة طِبْق الأصل عن أيٍّ منها، والنقد الإسلامي يتَّفق مع اتجاهات شكليَّة، كالبنيويَّة والأسلوبيَّة والنصيَّة وغيرها، في الاهتمام بلغة الأدب وتميُّزها وخصوصيتها.

وقد يتفق مع التفكيكية ونظرية التلقي وغيرهما؛ في الاهتمام بالمتلقي، وفي تقدير دوره، وفي تعدُّد قراءات النص، ولكنَّه لا يتطابق معها تمامًا، ولا يوافق على كلِّ ما عندها، وهو يعيد إخراج ما يأتيه منها إخراجًا جديدًا يدخلُها في إطار التصوُّر الإسلامي.

إنَّ النقد الإسلامي المنشود ينبغي أن يعيدَ تفكيك عناصر المناهج الغربية التي يتعامل معها، وهذه المناهج - على ارتباطها بالخلفيَّات الأيديولوجيَّة كما ذكَرْنا - يُمكن تفكيكُها، وإعادة إنتاجها أو صياغتها؛ ليستفاد مما هو حيادِي منها، ويُعَاد تركيب بعض العناصر تركيبًا تصوغه الرُّؤية الإسلاميَّة، وعندئذٍ فإنَّ الناقد الإسلامي ليس ناقدًا بنيويًّا، ولا ناقدًا تفكيكيًّا، ولا ناقدًا جماليًّا، ولا ناقدًا نفسانيًّا، ولا ناقدًا اجتماعيًّا بالمفاهيم الغربية الحرفية لهذه المصطلحات، إنه ليس مُسَوِّقًا لأفكار جاكبسون، أو بارت، أو دريدا، أو فرويد، أو لوكاتش، أو أيٍّ من هؤلاء وأولئك جميعًا.

إنه يستفيد منهم، ولكنَّه لا يقلِّدهم، إنه يدمغ كلَّ ما يأخذه عنهم بالدمغة الإسلاميَّة، ويضعُ عليه بصمة العقيدة التي ينتمي إليها، وبذلك لا يعود واحدًا من هؤلاء جميعًا.

إنَّ الناقد الإسلامي الذي ينتمي إلى أُمَّة ذات عقيدة مُعَيَّنة، وحضارة مُعينة، لا ينبغي أن يكون مجرَّد ناقلٍ لفِكر الآخرين، أو جِسْر تَعْبُر عن طريقه حضارة أخرى، بل ينبغي أن يضيفَ إلى هذا العابر بصمته الخاصة التي نتحدث عنها، إنه ليس مجرد مستهلك، إنه يُعيد إنتاج ما يعبرُ إليه إعادة جديدة؛ ليخرج من عنده شيئًا مختلفًا عن أصْله، شيئًا عليه - في مختصر من القول - "العلامة الإسلامية"، وهو عندئذٍ لا يهمل في مقاربته النقدية الشكل ولا المضمون، الفن والرؤية المؤلف، والنص والمتلقي، لا يهتم بجانب واحدٍ من جوانب العمل الأدبي، ويلغي - على حسابه - الجوانب الأخرى، إنه عندئذٍ ذو نقدٍ متوازنٍ مُنفتِح يتَّسم بالوَسَطيَّة والاعتِدال، يُعطي كلَّ عنصرٍ حقَّه، ويضعه في موضعه الصحيح، وذلك كلُّه ليس من قبيل التلفيق، ولكنَّه من طبيعته، وهذا ما عبَّر عنه عماد الدين خليل بقوله: "ثَمَّة ما قد يخطر على البال، وهو أنَّ المنهج الإسلامي قد يكون بشكلٍ أو بآخرَ منهجًا شموليًّا، يتضمَّن المكاني والزماني، النفسي والاجتماعي، الفني والعلمي... إلى آخره، ولكن ليس على سبيل التلفيق بين المناهج لتجاوُز إشكاليَّة غياب المنهج الإسلامي، ولا من قبيل الاجتهاد الشخصي الذي مارسَه "ستانلي هايمن" في كتابه "النقد الأدبي ومدارسه الحديثة بصياغة المنهج الشمولي في النقد"، وإنما لأن الرؤية الإسلامية هي - في أساسها - رؤية شموليَّة"[7].

إنَّ منهج النقد الإسلامي ينفرُ من أُحَاديَّة المناهج الغربية، فلقد اغتالتِ الأدب تلك الأحاديَّة الضيِّقة التي صدَّرها إليها النقد الغربي، فاقتتلْنا زمنًا حول الشَّكْل والمضمون، والعقل والعاطفة، والجسد والرُّوح، والداخل والخارج، والنص والمؤلِّف والمتلقِّي، وغير ذلك من الثنائيَّات الكثيرة، وكان مطلوبًا منك دائمًا أن تمجِّدَ أحدها وتلغي الآخر، وكان اجتماع أمرين جُرم كبير.

إن النَّقد الإسلامي يرفض إذًا أُحَادية النقد الغربي وأُفقه الضيِّق في العصبيَّة لعنصر على حساب آخرَ، وهو عندئذٍ نقد شمولي وشموليَّته نابعة من التصوُّر العَقَدي الذي ينطلق منه، وهو الإسلام، فالإسلام دين شمولي يستوعبُ زوايا الحياة كلَّها، ويحيط بجوانب الإنسان جميعها.

يقول عماد الدين خليل : "النقد الإسلامي نقد شمولي مُتوازن، شأْنه في ذلك شأن سائر الفعاليات التي تتحرَّك في إطار الإسلام؛ لأنها تستمدُّ من رؤيته الشاملة المتوازنة مقوِّماتها وملامحها، إنَّ هذه الرؤية ترفض أشدَّ الرفْض تلك الخطيئة المنهجيَّة التي مارسَها الغربيون كثيرًا، واستمرؤوها طويلاً، النظرة الأحادية الجانب، التشبُّث بوِجْهة النظر المحدَّدة، رغم أنَّها تصدر عن زاوية ضيِّقة، بينما هنالك - إذا أردنا الاقتراب من الحقيقة - عشرات الزوايا الأخرى؛ لالتقاط صورة أقرب إلى الواقع.." [8].

إنَّ منهج النقد الإسلامي يصحِّح كثيرًا من المفاهيم المغلوطة، ولأنَّ المنهج النقدي - كالمذهب الأدبي - يصْدرُ كلٌّ منهما عن تصوُّرات فلسفيَّة وفكريَّة يكون أيُّ تصحيح فيها هو تصحيحًا في فلسفة الحياة، وفي نظرة صاحبه إلى هذه الحياة.

على الناقد العربي أن يكون ناقدًا عربيًّا يحمل هُويَّته بكفٍّ، ويحمل ذوقَه ولغتَه بكفٍّ آخرَ، عليه أن يعرف مَن هو؟ إلى أيَّة أُمة ينتمي؟ وهو ليس بالشيء الهيِّن أو اليسير، إنه لم يمتْ، ولا صار مَسخًا، والحضارة العربية الإسلاميَّة ما زالتْ - على كلِّ ما يعتورها من أسقام وعِلل - حيَّة تُرْزَق، لم تنتهِ كما يدَّعي أدونيس وأمثاله، ولم تنطوِ ولن تنطوي صفحتُها من سجل التاريخ.

والتعامل المطلوب عندئذٍ مع الآخر هو التفاعُل والمثاقفة، وليس التقليد والمحاكاة.

إنَّ هذا الآخر مخلوق غير مُبرَّأ، يصدُرُ عن ثقافة أخرى وعقليَّة أخرى، وشخصية أخرى، ليس هو "السوبر مان" ولا نهاية التاريخ، وحضارته ليستْ إنسانيَّة، ولا عالمية، ولا كونيَّة، بل هو أُمَّة من الأُمم نأخذ منها وندعُ، مثلما نأخذ من أيِّ أمةٍ أخرى، وندع في ضوء ثوابت ومُعْطَيات تملِيها علينا عقيدتُنا وشخصيَّتُنا وانتماؤنا.

[1] انظر "موجز تاريخ النقد الأدبي"؛ لفيرنون هول؛ ترجمة محمود مصطفي وعبدالرحيم جبر، دار النجاح بيروت 1971، ص11.

[2] "نظرية الأدب"؛ ترجمة ثائر ديب، وزارة الثقافة، دمشق 1965م، ص 326 - 327.

[3] "مدخل إلى مناهج النقد الأدبي"؛ سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1987م، ص12.

[4] أمينة غصن، مجلة الناقد، العدد الثالث عشر تموز، 1989م ص 40.

[5] المصدر السابق، ص 39.

[6] المصدر السابق، ص 40

[7] "الغايات المستهدفة للأدب الإسلامي"؛ دار الضياء عمان 1421هـ - 2000م.

[8] "مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي"؛ مؤسسة الرسالة، بيروت، 1407هـ - ص 189.






http://www.alukah.net/Web/alkassab/0/33833/
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Web/alkassab/0/33833/#ixzz1qDYkvnpw