الطاغية كلّ طاغية مهما علا جاهه وعظم سلطانه يبقى ضعيفاً في نفسه ، لكنّه يستقوي بمن مالأه وتواطأ معه من أبناء جنسه ؛ من أعوان الظلم والظلام ،الذين خرّبوا آخرتهم خدمة ً لدنيا غيرهم ، وباعوا دينهم نصرة لسلطان غيرهم ، وهجروا طهر الضمائر والذمم ، وداسوا كلّ المبادئ والقيم ، لقاء متاع دنيويّ زائل!
ولمّا كان ذلك كذلك : فمن استعرض الآيات القرآنية الكريمة في قصّة موسى وفرعون وجد أن الظاهر على مسرح الأحداث هم آل فرعون فقد كانت لهم في ميدان الظلم والاضطهاد الصولة والجولة ؛ فبينما فرعون كان طاغية العصر ، و كتلة الشرّ التي تدبّ على الأرض ، غير أن لائحة الاتهام القرآنية ما فتئت تُفصح وتَفضَح وتقول : ( آل فرعون } وما ذاك إلا لأنهم هم آلة البطش الفرعونية ، وهم الأداة الآثمة الطيّعة التي سُلّطت على رؤوس العباد ، وتفانت في أداء هذه المهام ؛ مهام الجرم والإجرام ! وذلك على كافّة الأصعدة ؛
فآل فرعون :
هم اللسان الفرعونيّ المفاوض : { ولمّا وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل } (الأعراف 134)
وهم اللسان الفرعونيّ المعاند الرافض : { وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } (الأعراف 132)
وهم اللسان الفرعونيّ المُدلّس المُغرض : { وقالوا يا أيّه الساحر آدع لنا ربّك بما عهد عندك إننا لمهتدون } (الزخرف 49)
وهم اللسان الفرعونيّ المعترض المحرّض : { قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون } (الأعراف 127)
وهم اللسان الفرعونيّ المكذب : { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم } (الأنفال 54)
وهم اللسان الفرعونيّ الإعلاميّ المستنفر : { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين،إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون ، وإنهم لنا لغائظون }(الشعراء 53-55)
وعلى هذا الصعيد صعيد التنظير الإعلاميّ غدا آل فرعون بوقا إعلاميّاً فرعونياً محضاً تجلّى فيها قول فرعون { ما أريكم إلا ما أرى } (غافر29) فهي تنعق بمقولاته صباح مساء ! ولا أدلّ على ذلك من وقوفك على هاتين الآيتين { قال للملأ حوله إنّ هذا لساحر عليم ، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون } (الشعراء 34،35) ففي هذه الآية القائل هو فرعون ، بينما تأمّل مَن القائل في هذه العبارة { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} (الأعراف 108،109) ففي السياق الثاني لم ينسب القول الى فرعون بل إلى ملئه ، ففرعون قد ألقى بمقولاته هذه مرّة ، فتلقفها هؤلاء وطاروا بها وصاروا ينعقون بها كلّ مرّة !
وآل فرعون هم العقل الفرعونيّ الجحود : { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله } (الأنفال 52)
وهم القلوب الفرعونيّة العمياء : { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } (الزخرف48)
وهم الآذان الفرعونيّة الصمّاء : { فلمّا جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون } (الزخرف47)
وهم العين الفرعونيّة الراصدة : { وإنا لجميع حاذرون } (الشعراء 56)
وهم العين الفرعونيّة المتعـقّبة : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحَزناً } (القصص8)

وهم اليد الفرعونيّة الناكثة: { فمّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون } (الأعراف 135)
وهم كذلك اليد الفرعونيّة الباطشة : { وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } (البقرة 49)
وهم القـدَم الفرعونية العابثة المُطارِدة ،التي تطارد الحق وأنصاره : { فأتبعوهم مشرقين } (الشعراء60)، { فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعَدْوا } (يونس90)
وهم بذا النفوس المستكبرة المجرمة : { فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين } (الأعراف 133)
فاستناداً إلى ما سبق يكون فرعون قد حقّق في هؤلاء الآل منظومته ، وصبغهم بصبغته ، تماماً كما صرّح لهم بالقول : { ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } (غافر29) وبذا غدا مجمل القول في هؤلاء : إنهم فرعون قلباً وقالباً ، كيف لا وقد بات آلُ فرعون يدَ فرعون التي يبطش بها ، ورجله التي يعبث بها ، ولسانه الذي يقذف بالغيب ، وعينه التي يرصد بها للمصلحين كلّ درب ، وأذنه التي صمّت عن سماع الحق، وعقله المفكّر في استعباد الخلق ، وقلبه العُـتُـلّ ، ونفسه التي شُحنت بالفساد والغِـل .. وبذا تحوّل هؤلاء الآل إلى آلة ؛ آلة فرعونيّة مسخّرة للبطش والتنكيل ، تعترض بالذبح والسبي والتقتيل سبيل كلّ جيل إثر جيل ، فاستحقوا بذا من الله تعالى الأخذ الوبيل، { فأخذناه أخذاً وبيلا } (المزمّل 16)
ولمّا كانت محكمة العدل الإلهية لا تطارد الظلمة وتخلي ساحة أعوانهم وبطانتهم وأدواتهم الآثمة فصكّ الإدانة طال الجميع { إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } (القصص 8 ) فلائحة الاتهام لم تبرّئ ساحة أحد منهم ؛ من الظالم وأعوانه ، من المجرم وأشياعه ، من الطاغوت ومن التف حوله فـنصره وآزره ، فالكل مُدان ، والكل – لقاء صنيعه - سيذوق غصّات الذلّة، ويتجرّع مرارة الهوان ؛ لذا دارت على أعوان الظلمة دائرة السّوْء ، وصاروا عرضة للاستهداف الإلهي ّ النفسيّ والجسدي ؛ فكان أن حلّت بآل فرعون في الدنيا سني الجوع والجدب : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسّنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون } (الأعراف 130)
وعُكّر عليهم صفو العيش ورغده : {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصّلات} (الأعراف 133)
وأصبحوا عرضة للغيظ والكمد ممّن استضعــفوهم : { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ،ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } (القصص 5،6)
وحلّت بساحتهم الفواجع {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} (غافر45) وقوله تعالى : { فغشيهم من اليمّ ما غشيهم } (طه78) وقوله : { ولقد جاء آل فرعون النّذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناههم أخذ عزيز مقتدر } (القمر 41)
وتبعتهم النقمة الإلهية إلى قبورهم ليمسهم من عذاب القبر ما يمسّهم ، مع ما يرتقبهم من هولٍ يوم القيامة ! {النار يعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً } (غافر46) هذا في قبورهم ، ثمّ { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب } (غافر46)
وهكذا فقد واكبت الظلمة وأعوانَهم لعنة في الحياة الدنيا ، مع ما يرتقبهم من فضيحة وخزي وعار يوم يقوم الأشهاد : { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين } (القصص 42)
وبعد : فمن تأمّل النصوص القرآنية يجد أن كتاب الله تعالى فصّل في عاقبة أدوات الظلمة ؛ آل فرعون ، وأجمل في عاقبة فرعون ، فمشهد عاقبة فرعون أجمله الباري بقوله : { حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} (يونس 90) في حين جاء التفصيل في عاقبة آل فرعون على نحو ما أسلفنا ! ووراء ذلك التفصيل حِكَم جمّة ، من أهمّها : لقطع توهّمات المتوهّمين ، وتخرّصات المتخرّصين ، وتأويلات الجاهلين ، وانتحال المبطلين من أنّ آل فرعون ليس لهم من الأمر شيء ، إنما هم مسيّرون من قبل فرعون ، وليسوا بمخيّرين فقد يُلتمس لهم العذر ، ويرفع عنهم الجُناح والتثريب ! فجاءت التفصيلات في هذه الآيات البيّنات لتدحض ذلك كلّه وتصدع بأنه : لا عذر لأحد ولا ذريعة له البتّة في الولوغ بدماء الشعوب ، والتورّط بتكميم أفواههم ، وكبت حريّاتهم ، واستباحة كرامتهم ، والسّطو على أموالهم وأعراضهم ... فلا ترخّص في شيء من هذه الحرمات ، دقّ أو جلّ ، كثر أو قلّ !
وإلا فكان يسع هؤلاء ما وسع سحرة فرعون ؛ ففي سحرة فرعون أسوة حسنة لأعوان الظلمة ؛ فقد أصبح القوم سحرة ، وأمسوا عند ربهم شهداء بررة ، فما أن بان الحق وانقشع عنه الغبار، غبار تدليس المدلّسين حتى خرّوا لله ساجدين ، ورفضوا أن يظلّوا أدواتٍ آثمة في أيدي الظلمة المستبدّين ...
فانظر عزيزي القارئ إلى واقعنا المعاصر ! وألحِق الشبيه بالشبيه ، والمثيل بالمثيل ، وقِس النظير على النظير ، ثمّ ارتقب فيهم بعد ذلك سنّة العزيز القدير ؛ فقد عقّب المولى على عاقبة آل فرعون بقوله { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزّبر } (القمر43) هكذا جاء التعقيب الإعلاميّ القرآنيّ على ما حلّ بآل فرعون، ثمّ اعذرني بعد ذلك للإطالة ! فملابسات الواقع حتّمت عليّ مثل هذه الإطلالة !