في طفولتي كنتُ أسمعُ أبي يقول لأمي : أمورة ... تعالي نأخذ الأولاد في الصيف إلى قبرص سياحة ...
فتجيبه أمي : بعدين ... عنا قروض وبدنا ننتقل لبيت جديد ...
في السنة التالية أعودُ وأسمعُ أبي يقول لأمي : يا أميرة ... لمَ لا نذهب هذه الصيفية إلى قبرص ؟؟!
تجيبه أمي : بعدين ... بدنا نشتري فرش جديد للبيت الجديد ...
بعد سنتين : يا أم صديق ... خلينا نروح لمصر نفرجيها لهالولاد ...
ـ معلش بعدين ... لازم نغير السيارة ...
ـ طيب على الأردن , على لبنان ...
ـ بعدين ... مو دخلنا بجمعية سكنية وعلينا أقساط ؟؟!!
ـ معناها السنة الجاية منطلع شي أسبوع على أوتيل بكسب ...
ـ بعدين ... السنة الجاية تخرج بنتك ...
ـ الصيفية اللي بعدا على الشاطئ الأزرق ...
ـ بعدين ... الصيفية اللي بعدا خطبة بنتك التانية ...
ـ طيب إيمتااااا لكن ؟؟؟
ـ بعدين ... شو صاير علينا ؟؟؟ عنا العمر كله ... بكرا منتقاعد من الوظيفة ومنروح وين ما بدنا .........
هذا الحوار كنت أسمعه وأبي في أربعينياته ,
وفي منتصف خمسينياته أصيب أبي بجلطة دماغية وشلل رباعي , ولست سنوات ظلّ طريح الفراش شبه غائب عن الوعي وتوفي رحمه الله عام 2001 ...
عندما أصيب بالجلطة كان لا يزال على رأس عمله وفي وظيفته ولم يصل بعد لسن التقاعد , يعني مرض أبي وتوفي قبل أن يحقق أي حلم له بالسفر معنا ورؤية العالم , وال " بعدين " تبع أمي لم تأتِ قط بالنسبة إليه ...
توفي قبل أن تأتي البعدين التي سيرتاح ويفرح بها ويفعل ما يحب ويرغب ...
توفي أبي ولديه بيت جديد في دمشق وسيارة جديدة ومشترك في جمعية سكنية , لكن هذه الأمور لم تشكّل جزءاً من ذاكرتنا معه , ما شكّل ذاكرتنا معه هي الرحلات الصيفية السنوية إلى ضيعتنا وجوارها ...
ودارت الأيام وصرتُ كبيرة مثل أبي وأمي , وفي ثلاثينياتي فكرتُ بإنجاب طفل ثالث , لكني قلت لنفسي : " بعدين بعدين ... هلئ بدي أشتري بيت جديد "... وانتهت ثلاثينياتي وانتهت معها فرصي بالإنجاب ولم يأتِ الطفل الثالث , رغم شوقي له وندمي على إضاعة الوقت الثمين للحمل ...
في أربعينياتي حلمتُ مثل أبي أن أجول العالم , ولكني فكرتُ مثل أمي : " بعدين بعدين ... هلئ بدي أعمل مركز طبي ..... "
وجاءت الحرب وابتلعت بيتي الجديد ومركزي الطبي وسيارتي وكل ما ادخرته ل " بعدين " , وها أنا ذي في بداية خمسينياتي وأتساءل :
ـ يا أيتها البعدين البعيدة ... متى ستأتين ؟؟؟ وهل أنتِ حقاً موجودة أم أنكِ أضغاث أحلام ومجرد وهم وخيال ؟؟!! إلى متى نعلّق بكِ فرحنا وهنانا ورضانا ؟؟؟
إلى متى نؤجل أمتع لحظات الحياة بانتظار قدومكِ المشكوك به ؟؟؟ ولماذا لا ننساكِ قليلاً وبدل أن نقول : بعدين بعيش الحلم , بعدين بفرح ... نقول الآن سأعيش الحلم , الآن سأفرح ؟؟؟
عزيزتي البعدين ... بعدين سأفكر بكِ , بعدين سأمنحكِ أحلامي وفرح حياتي , وسأعيش للآن , سأستبدلكِ ب " الآن " ... لا " بعدين " بعد اليوم ..... ولن أؤجل فرح اليوم إلى الغد .........
كانت هذه قصة ونصيحة الدكتوره "" ريم عرنوق "" لنا جميعا
#لا_تؤجلوا_فرح_اليوم_إلى_الغد .......
أذا هممت بفرحه لا تؤجلها إفرح الآن واستفرح تفرح ..