منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: حنتيته

العرض المتطور

  1. #1

    حنتيته

    حنتيته

    منذ سنوات خلت عندما كنت أؤدي واجب خدمة العلم في مدينة دمشق جاءني هاتف من خالة لي تسكن في إحدى الضواحي القريبة جداً من دمشق تطلب مني أن أوافيها إلى منزلها , لحسن الحظ أن خدمتى كانت ذات دوام أشبه بدوام الدوائر الرسمية أي ما يسمى بالدوام الإداري يمكّنني من مغادرة مكان خدمتي بعد انتهاء الدوام إلا إذا كنت في حالة مناوبة فعليّ البقاء وعدم المغادرة إلى اليوم التالي .

    بعد انتهاء دوامي وبسبب عدم وجود مناوبة غادرت على عجل ويممت صوب بيت خالتي وكلي فضول وتشوّق لأعرف ما الأمر .

    عندما دخلت إلى بيت خالتي وجدت هناك جدتي - رحمها الله - وخالي وخالتي الصغرى قد جاؤوا من مدينتهم بسبب ألم فظيع في الظهر أصاب خالتي الصغرى وقد رأيتها مستلقية على ظهرها تئن أنيناً صامتاً . وهي غير قادرة على الحراك لأن أي حركة تأتي بها تسبب لها ألماً لا يحتمل .
    فهمت منهم أنه عارض مفاجىء ألم بها من غير سابقة , عرضوها على أطباء في مدينتها فأجروا لها الفحوصات اللازمة بعد أن أخذوا الصور الشعاعية التي تعينهم على التشخيص وكان الإجماع بأنها مصابة بمرض الديسك في فقرات الظهر وحينها كان هذا المرض من الأمراض المخيفة لأن علاجه الجذري يتم بعمل جراحي دقيق يتهيبه الناس لخطورة موضعه بين أعصاب العمود الفقري وخوفاً من الأخطاء التي يمكن أن تحدث أثناء إجرائه .

    بما أن خالتي لم تستطع المشي والذهاب إلى الطبيب , قررنا أنا وخالي مبدئياً أن نستشير جراحاً في الأعصاب له شهرة طاغية في دمشق وهو أستاذ مشهور وقديم في جامعتها . ذهبنا إليه وقابلناه بعد انتظار في عيادته شرحنا له الحالة فطلب منا الصور الشعاعية التي نحملها , حدق فيها ملياً فأجاب بأنه مرض الديسك اللعين أصاب فقرات من الظهر , سألناه عن العلاج فأجاب بأنه العمل الجراحي لا غير , أسقط في يدنا فسألناه عن مدى خطورة هذه العملية وعن نسبة النجاح فيها فقال : حوالي 70% , أي أن هناك احتمال نسبته 30% لحدوث خطأ أو فشل في العملية , وكان هذا رقماً مرعباً بالنسبة لنا , أخيراً سألناه عن كلفة العملية فأجاب : سبعون ألف ليرة .
    خرجنا من عيادة الطبيب المشهور نجر أذيال الخيبة لما سمعناه منه , وحقيقة أن أكثر ما أزعجنا هو أن لهذه العملية هامشاً كبيراً للفشل أقلقنا وجعلنا غير مطمئنين لوضع مريضتنا .

    على طريق العودة قلبت الأمر في ذهني فوجدت أن هذا الطبيب أعطى حكمه بدون أن يفحص المريضة ويعاين حالتها ومن خلال صور شعاعية لم يطلب ما هو أحدث وأدق منها وكانت الصور الطبقية المحورية قد بدأت بالانتشار وأصبحت تعتمد في تشخيص مثل هذه الحالات الحرجة والخطيرة زيادة في التأكد وتحرياً لدقة التشخيص وصحته , فجزمت بأنه ليس أكثر من طبيب تاجر على الرغم من الهالة التي تحيط باسمه ومكانته العلمية .

    لجدتي بنت أخت تعيش في دمشق مع زوجها الذي كان يعمل آنذاك أستاذاً جامعياً في إحدى الكليات العلمية في جامعة دمشق , سمعت بمرض بنت خالتها ووجودها في دمشق فأتت لتعودها وتطمن عليها , ونصحتها بشدة أن تأخذ مادة تصنف ضمن مواد الطب الشعبي تسمى ( حنتيته ) تباع عند عطار مشهور له حانوت في سوق العطارين .
    عندما عدت إلى بيت خالتي في اليوم التالي أخبروني بزيارة بنت خالتهم وبوصفتها الذهبية , أعطوني اسم العطار ووصفوا لي مكان وجوده وأخبروني بتندّر وطرافة عن هذه المادة العجيبة واسمها الغريب حتى أن جدتي لم تحفظ الاسم جيداً ولم تستوعبه على ما يبدو فكانت تقول عنها وهي مبتسمة ( حنتيكه ) .

    ذهبت إلى العطار الفذ الضليع الخبير فإذا به رجل تجاوز الستين من العمر يتكلف الجدية والوقار ويتصنع الخبرة والمعرفة سلمت عليه ثم أخبرته بمرادي فسألني لماذا أطلبه فأجبته عن سؤاله , حينها رن جرس الهاتف في المحل , رفع الرجل السماعة فأجاب باهتمام على مكالة لم أفهم شيئاً من مضمونها , أطبق السماعة فقال لي مباشرة وبدون أن أسأله : إنها مكالمة من الوزير الفلاني هو صديق لي يتصل بي دائماً , والوزير هذا هو رجل أشهر من نار على علم خبير باختصاصه ويحمل شهادة عليا مرموقة من بلد متقدم علمياً عمل في وظائف كبيرة في عدة مواضع إقليمية ودولية وشغل منصبه الوزاري لأمد طويل .
    تابع العطار شرحه عن فوائد هذه المادة وطريقة استخدامها وأحاطها بقدرات عجائبية في الشفاء والمداواة قد لا توجد إلا فيها وأكد فعاليتها في مثل الحالة التي أطلبها من أجلها .

    قفلت راجعاً وكلّي حيرة وعجب لأمر هذا العطار ولأمر الوزير المشهور فكيف لوزير بهذا الحجم وبهذا المستوى العلمي أن يلتفت لعطار بسيط يصادقه ويخصص له جزءاً من وقته الثمين - حسب ما نعرف عن أوقات الوزراء - ليحادثه على الهاتف وعن أي شيىء حديثهما وما سر العلاقة والرابط بينهما , أسئلة ملحّة كانت عصيّة على الإجابة حينها .

    عندما وصلت إلى البيت أخبرتهم بأمر العطار وبقصة المكالمة التي جرت بحضوري فأكدوا لي أن بنت خالتهم بعد أن أثنت على العطار ثناءً منقطع النظير أخبرتهم بأن له زبائن من الوزراء والكبراء وعلية القوم . وهنا أدركت أن قصة المكالمة مع الوزير مختلقة يبثها صاحبنا لكل أحد كنوع من الدعاية وليرسم لنفسه أهمية وقيمة مفقودتين .

    أعطيتهم الحنتيته المباركة وهي مادة صمغية لها رائحة منفّرة ومنظر غريب وأخبرتهم بطريقة تناولها بأن تُأخذ قطعة منها وتذاب في كأس من الماء وتُشرب .

    أصابني استغراب كبير لأمر ابنة الخالة التي عاشت خمس سنوات مرافقة لزوجها أثناء بعثة علمية في بلد من أرقى البلدان الأوربية فعادت من هناك بمظهر أوربي خالص وأفكار أشبه وأقرب لأهل الغرب , عجبت منها وهي في هذه الحال كيف تتعاطى في أمور الطب الشعبي والعطارين والحنتيته وأشباهها .

    بدأت خالتي بتجرع محلول الحنتيته على مضض بسبب طعمه ورائحته التي يصعب احتمالهما .
    بعدها أحست بتحسن طفيف جداً فقد بدأت نوبات الألم تخف قليلاً وأصبح بإمكانها أن تقوم بحذر وتمشي على مهل باتكاء على أحدنا .

    ونحن طوال هذه الفترة نسأل عن طبيب ربما نجد شفاءً وعافية لخالتي على يديه , حتى اهتدينا إلى طبيب ضربت شهرته الآفاق في إجراء عمليات الديسك , ذهبنا إليه برفقة خالتي المريضة عاين حالتها واطلع على الصور الشعاعية التي معها فلم يعط جواباً وطلب إجراء صورة من النوع الطبقي المحوري وكانت يومها غير متاحة كما هي اليوم ولا توجد إلا في المستشفيات الخاصة الكبرى فذهبنا إلى إحداها وحصلنا على الصورة المطلوبة , وعدنا إلى طبيبنا البارع فأكد لنا بعد اطلاعه على الصورة الجديدة أن لا حل إلا بالعمل الجراحي .

    وكما أسلفت لكم سابقاً كان العمل الجراحي لمثل هذه العملية يومها مرعباً ومخيفاً وأكد الرعب والخوف منه النسبة المحتملة للفشل التي أعطاها الطبيب الأول , ففضلنا التريث أكثر لنناقش الأمر ونقلبه من كل الجوانب . فالعملية دقيقة والطبيب يحمل اختصاصاً من بلد غربي متقدم ولكنه معروف بأن الاختصاص الطبي المرموق فيه دونه مصاعب كثيرة لا يستطيع غير مواطنيه وقلة قليلة جداً من غير مواطنيه اجتيازها فترى كل من يحمل اختصاصاً منه لا يتصف بالمعرفة العلمية الكافية والسبب أنه في اختصاصه هذا كان كالمتفرج يرى بعينه ولا يعمل بيده إلا فيما ندر لأن المواطنين الأصليين في ذاك البلد مقدمين عليه , فتوجسنا خيفة وحذراً من هذا الطبيب ولم نرتح لكلامه .

    سألت رفاقاً دمشقيين معي في الخدمة عن طبيب يمكن أن نقصده في مثل هذه الحالة فدلني أحدهم على طبيب يحمل شهادة علمية مميزة من بلد أوربي عريق ويعمل كمتعاقد مع جهة حكومية فأخبرني عن براعته ونجاحه في مجال الجراحة العصبية .
    قصدنا عيادة النطاسي البارع فإذا بها تفتح ثلاثة أيام في الأسبوع مساءً فقط , وأقرب معاينة نسجل عليها يأتي دورها بعد شهرين , لا أدري كيف تدبر خالي أمر الدخول فتعين لنا موعد قريب ذهبنا إليه فوجدنا المراجعين يملؤون غرفة الانتظار الصغيرة ويتوزعون في الممر الضيق أمام العيادة وقوفاً وجلوساً بالعشرات .

    دخلنا لمقابلة الطبيب , حكينا له القصة , شاهد الصورة الطبقية المحورية فطلب منا أن نجري صورة ظليلة , شرح لنا عنها بأنها حقنة لمادة ملونة تحقن في الفقرة القطنية خافت خالتي من هذه الحقنة جداً وأحست بخطورتها فهدّأ من روعها وخفف الأمر عليها وأكد لها بأن له زميل بارع يجريها بكل حرفة وخبرة بعيداً عن المخاطر .

    ذهبنا إلى طبيب التصوير الظليل أجرى الحقنة فعلاً بخفة نزعت الرعب من قلب خالتي , أخذنا النتيجة بعد يوم أو يومين فتوجهنا إلى طبيبنا مرة أخرى , شاهد الصورة الظليلة وتمعن فيها ملياً ثم أشار لنا على الصورة إلى عصب معيّن قصير الامتداد قال هل رأيتم هذا العصب هو يسلك اتجاهاً خاطئاً المفروض أنه يتجه باتجاه آخر أشار هو إليه والسبب في ذلك هو خطأ في الخلقة وهذا العصب لسبب ما قد التهب .
    كتب لنا وصفة تتضمن زرقات وحبوب وأكد لنا أنها غير موجودة في دمشق فعلينا الإيتان بها من بيروت .

    في صبيحة اليوم التالي ذهبت إلى كراجات بيروت في البرامكة قابلت أحد السائقين بدون معرفة سابقة لي به , أعطيته الوصفة وطلبت منه إحضارها , في الغد صباحاً , ذهبت لملاقاته حسب الموعد الذي ضربه لي فوجدته ومعه الدواء المطلوب فطلب مني ألف ليرة سورية ثمناً له , أعطيته ما أراد وأنا ممتن له .
    رجعت إلى البيت فأعطيتهم الدواء , وبعد فترة وجيزة من العلاج تماثلت خالتي للشفاء , ولم تعاودها هذه الحالة مرة أخرى .

    إن خالتي كانت مخيّرة بين نارين , نار العملية غير مضمونة النتائج ونار الحنتيته الكاوية .
    فتصوروا يا رعاكم الله لو بقيت بينهما ماذا حلً بها .
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  2. #2

    رد: حنتيته

    السلام عليكم
    المبدأ التجاري طغى على كل شيئ...
    وصحة المرء غدت بين دفع وغرامات غير محسوبة النتائج وبين بحث عمن يحمل ضميرا حيا...
    حقيقة شيئ محزن ان تحمل اكثر المهن انسانية مبدا الجزار!!!
    وسلامة خالتك
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3

    رد: حنتيته

    شكراً جزيلاً لك أختنا الفاضلة أم فراس

    هل تعلمين أنني ما زلت أذكر الطبيب الأخير بكل خير وأنا معجب بعلمه وبراعته

    وهل تعلمين أنني إلى الآن أًُكبر فيه ضميره الحي وأخلاقه العالية مع شيىء من الاستغراب فعلاً لأنه شذّ عن قاعدة إجراء العملية مثل بقية زملائه مع العلم أنه كان بإمكانه ذلك بكل سهولة وسنصدقه حتماً ونسمح له بإجراء العملية لأنها هي الحل الناجع الوحيد كما كنا نظن .

    كم نحن بحاجة لرجال مثل هؤلاء يحترمون مهنتهم وعلمهم ويحترمون عقول الآخرين وثقتهم بهم
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  4. #4

    رد: حنتيته

    السلام عليكم
    عرضت ونشرت موضوع هام بطريقة واقعية ساخرة بعمق الوجع فيها....
    وقانا الله من هؤلاء الجزارين.
    ملدا

  5. #5

    رد: حنتيته

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ملدا شويكاني مشاهدة المشاركة
    السلام عليكم
    عرضت ونشرت موضوع هام بطريقة واقعية ساخرة بعمق الوجع فيها....
    وقانا الله من هؤلاء الجزارين.
    ملدا

    آمين يارب العالمين

    وشكراً لمرورك الطيب أختي الفاضلة ملدا
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  6. #6

    رد: حنتيته

    هذه هي المشكلة
    الخير موجود لكن بشكل قليل ونادر ومستغرب

    ولا شك ان الاخيار يعيشون في غربة في هذا الزمن الذي كثر فيه الشر

    تحيتي لك اخ سامي

  7. #7

    رد: حنتيته

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ظميان غدير مشاهدة المشاركة
    هذه هي المشكلة
    الخير موجود لكن بشكل قليل ونادر ومستغرب

    ولا شك ان الاخيار يعيشون في غربة في هذا الزمن الذي كثر فيه الشر

    تحيتي لك اخ سامي

    للأسف زمن أصبح فيه الخطأ هو الصحيح والصحيح هو الخطأ

    هذا هو واقع الحال بدون تزيين ولا رتوش


    تقبل مني كل الود والاحترام أستاذنا الفاضل
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  8. #8

    رد: حنتيته

    اول مرة اسمع بهذا النبات
    ولك الف تحية استاذ سامي والله يحمينا منهم

    مناف

  9. #9

    رد: حنتيته

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد مناف الخاني مشاهدة المشاركة
    اول مرة اسمع بهذا النبات
    ولك الف تحية استاذ سامي والله يحمينا منهم

    مناف

    أستاذنا العزيز مناف

    النبات المذكور ( هي مادة صمغية يبدو أنها تنتج من إحدى النباتات أو الأشجار غير المعروفة في بلادنا ) موجود ومعروف في سوق العطارين في مدحت باشا وبإمكانك أن تسأل أي عطار هناك ليعرضه لك وتراه حقيقة


    نسأل الله أن يحمينا من كل خِبٍّ مخادع يتاجر بآلام الناس وأوجاعهم
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •