سقط سهوا
كان عليه أن يشد كل تفاصيل وجهه اليابس ليرسم شبه ابتسامة خافتة ، كي يثبت للعالم أجمع أنه متفائل وسعيد.
كثيرا ما يصب الآخرون زيت نصائحهم المتسخ، في آذاننا أن نتحمل مشاق الحياة وهمومها ، لم يكلف أحد من الحكماء نفسه أن يهمس للحياة في أذنها ،أن تتحملنا قليلا وترأف بنا ، نحن الفقراء، عيال الله ، كُتـَلُ الطين والهم والحزن ، كوابيس الحكام ، وعفاريت الأغنياء ، والدمى على طاولات الشاهبندر وقوجة التجار ، في ليالي سمرهم الحمراء ، ومؤتمرات صفقاتهم السوداء، واتفاقياتهم الشيطانية ، التي يحددون فيها سعر و حجم ولون وقوة الحزام الذي سنربطه على بطوننا في كل عام مالي جديد.
********
الجو نار ... نار ... نار ...
********
حملته أمه سهوا ، ووضعته كرها ، فكان القادم غير المرغوب فيه ، التاسع في الترتيب لأبوين فاقا البشر و الحجر في تحمل ذل الحاجة وضربات العوز ، فاتته كل القطارات :قوائم المواليد ، التعليم ، بطاقة التموين ، الإسكان الشعبي ، فاسمه قد سقط سهوا من كل السجلات ، لم يأخذ رقما في تقرير وزير العدل.
رقم مطموس إلا من سجل واحد ،( التهرب من التجنيد الإجباري ) ، كان عليه الآن أن يثبت أولا وجوده ، وثانيا براءته وثالثا حقه في أن يكون له مكان في طوابير الخبز اليابس ، المخلوط بأشياء لا نعلمها نحن الجهلاء.
*********
الشمس تتحدى الجميع في صيف لا يرحم سوى من يملك أجهزة التكييف ، الشارع مختنق بطوق أمني جبار.
الأرصفة منتفخة بالبشر والبضائع والعربات المدفوعة باليد والوجوه الكالحة، والأجساد التي يجب وعن جدارة ، أن تمثل الوطن في مؤتمر سوء التغذية الدولي . من ها هنا يمر الزعيم ، فليـُنتزع حقٌ الجميع في أن يذهب في الاتجاه الذي يريد ، لابد لنا جميعا أن نتوجه توجها عاما ، لأسباب قومية ودواعي أمنية.
******
يداه المعروقتان تمسك بتلابيب أوراق عديدة ، ملوثة بحبر، وعرق وغبار ، وفي عينيه حسرة ولهفة بين الحزن على موظف لم يدركه ، ومدير لم يلحق به.
• اسمك مطموس ،
• الختم غير واضح ،
• أين شهادة ميلادك ؟
• الصورة غير لامعة
• المسئول في المصيف ،
• الختم مقفول عليه ،
• المدير مشغول.
• خرج لتوه.
السكرتيرة تحتسي الشاي وتتطلع لأسطر الأخبار في جريدتها اليومية دونما اكتراث ، تتوجه بالحديث لزميلتها دون أن تدرك أن صاحبنا يقف بينهما.تتوجه بالكلام عبر جسده وكأنه هواء!!!
********
لا نعلم من في خدمة من؟
********
الجو نار ... والأسعار أيضا ... عجوز تموت تحت أقدام المتصارعين في طابور الخبز اليومي ....
( من معالم شوارعنا وصورتها الثابتة في الأذهان) : ( طابور العيش) .
********
بالروح بالدم نفديك يا هذا ....
هتاف ، حول مواكب المماليك ، انقطع من شوارعنا منذ عقد أو يزيد...إذ انكشف المستور وترك معظم الزعماء بلادهم عارية مكشوفة العورة أمام قطاع الطرق الدوليين ، دون مكتسبات سوى المقابر الجماعية.
********
الطوق الأمني يزداد ضيقا ، جميع الاتجاهات مغلقة ، نصال الأسلحة تلمع تحت الشمس الحارقة ، الجنود كالتماثيل دون دم في العروق أو اهتزازات في الملامح ، بلغت القلوب الحناجر، المحشورون في الحافلات الحديدية الساخنة ، المحشودون فوق الأرصفة ،في الأزقة الجانبية ، تحت الجسور ،خلف الحوائط ،تحت أعمدة الكهرباء البارزة أسلاكها استعدادا لصعق ما تيسر لها من المساكين .
راح الجميع يتنفسون الهواء الأسود بصعوبة بالغة.بدا الميدان وكأنه قنبلة قابلة للتفجر في أي ثانية.
لابد لنا أن نتحمل من أجل المصلحة العامة، ، نحن فقط جموع الحرافيش علينا أن نتحمل من أجل المصلحة العامة ، في سبيل أن يمر الزعيم بسلام ، علينا أن نذوب، نموت ، نذهب إلى الجحيم ، لدواع أمنية.
********
لا نعلم من في خدمة من ؟
********
الجو نار ..... والقلوب أيضا
********
• لا عليك من رؤيته.
• أمر محال .
• سيمر حتما من شارع ما .
• يمكنك أن تلمح جانب وجهه خلف زجاج السيارة الأسود .
• لالا ليس هو ....إنه البديل المستنسخ.
• هل يأكل مثلنا؟
• الجو نار ... والأسعار أيضا .
طوى دفتر أوراقة الرطبة بين أصابعه المتسخة.تحسس مكان حافظة نقوده الفارغة إلا من بطاقة الهوية ، الأمر لا يسلم في هذا اليوم النكد ، من مخبر سري يقبض على ذراعك ويسألك : بطاقتك؟
********
ذاب الموظفون – اجتماع هام للمدراء العوام والمساعدون ووكلاء الوزارة ، بمناسبة زيارة الزعيم للمؤسسة .
********
• اسمك ليس هنا ..
• لا رقم لك ....
• مر الأسبوع القادم ..
• .الأسبوع القادم؟
• عليه أن يسلم نفسه للمخفر المجاور ...
• خائن متهرب من الخدمة الإلزامية للوطن العزيز ...
الوطن العزيز ... شجر وماء ومتاجر وشوارع ومخافر... ليس لنا فيها نصيب ... سوى مساحة من زنزانة رطبة قاسية الحوائط.وموقع قدم ، تموت فيه بحرية تحت أقدام المتصارعين على كسرة خبز أسود.
********
إقالة وزير العدل صباح اليوم. وتعيين مدرب جديد للمنتخب الوطني.
********
الطوق الأمني كثعبان يزحف مضيقا الدائرة حول المساكين ، الملايين تحتضر بين فكي كماشة.
• أنتم السبب ... يا فرعون من فرعنك؟
• جبناء .
• خانعون.
• زبالة.
• والله ولي النعم رجل طيب .
• هل يأكل مثلنا؟
• الحاشية هم السبب.لعنهم الله في كل كتاب.
********
على من يعرض أوراقه ، وهمومه ، وانكسار قلبه؟ كلهم في اجتماعاتهم الهامة بمناسبة زيارة الزعيم للمؤسسة الرسمية.
الطوق الأمني يزداد خنقا لعنق الشارع وعروق الحارات ، وشرايين الأزقة.
صرخة (سيارة الزعيم) تخترق المكان وتملأ القلوب رهبة والأجساد ارتعاشا، ، الأعناق تمتد لرؤية أي شيء ـ الزحام يضيق حول الموكب ، النكد والتعطيل ، والذل ، والإهانات ،و الركلات والهراوات ، وقنابل مسيلة للدموع ، ورصاص حي ،هي الهدايا الدائمة المصاحبة لمواكب مماليك العصر.
الهرج والرعب تسيدا المكان.
********
غطوه بأوراقه التي اجتهد شهورا في جمعها وختمها وتأشيرها .... لم تكف سوى لتغطية جزء من وجهه الذي كان داميا مطموس الملامح.
*******
وقف الضابط يسجل ملاحظاته ببرود :
أنه في ساعته وحينه ، وعند مرور موكب ولي النعم ، حاول موتور مجهول الهوية الإمساك بيد الزعيم ، لولا يقظة الجهات الأمنية.
محمد نديم