من معبر "إيرز" إلى الزنزانة (2)
ا.د. محمد اسحق الريفي
ما إن تأكد الجندي الصهيوني من هويتي حتى أدخلني إلى الجانب الآخر من المعبر وأغلق الباب، وسلمني إلى جنديين آخرين كانا ينتظران عملية الأسر، فأخذاني إلى غرفة خشبية قريبة من مكان الأسر لا تزيد مساحتها عن متر مربع، ثم دخل أحد الجنديين معي في الزنزانة. أدركت عندها أنني وقعت في المصيدة، فأخرجت محفظتي من جيبي، وحاولت إتلاف ما كان بحوزتي من عناوين قد تضرني، غير أن الجندي الصهيوني أشهر سلاحه في وجهي، فتحدثت إليه بالعربي، ولكنه لم يفهم، فأخبرته بالإنجليزية أنني أريد التأكد من بطاقة الهوية الشخصية، ولكنه لم يسمح لي بفتح محفظتي.
وبعد نصف ساعة مرت ببطء شديد قضيتها في التفكير بما سيؤول إليه أمري، فتح العميل "يوسف" طاقة صغيرة في الزنزانة الخشبية وقال مقهقهاً: "أنا يوسف"، ثم انصرف. عندها كاد الغيظ يقتلني. ثم أخذني الجندي إلى داخل منطقة "إيرز" وأقعدني في الشمس على مقعد إسمنتي تحت الحراسة، كنت أحاول خلالها معرفة ما الذي حدث، ولكن أحداً من الجنود لم يجب أسئلتي. وكنت أظن أن المحققين يريدون التحقيق معي في مكاتبهم في "إيرز،" ولكن الجنود قيدوني بعد ساعة ونقلوني بسيارة "جيب" عسكرية سالكين الطريق الساحلي إلى عسقلان المحتلة. وبعد أقل من نصف ساعة، عانقت خلالها أعيني أرضنا المغتصبة، وتنسمت هواءها العليل، وداعب خيالي منظر كثيبات الرمل المخْضرة، واستمتعت بجمال أشجار التين والجميز والصبر والعنب، التي زرعها أهلنا قبل نشأة الكيان الصهيوني بعقود عديدة، واستمتعت برائحة بحر المجدل المحتلة وبالآثار التي تركها أهلنا قبل تهجيرهم من هناك، وتذكرت أغنية "الأرض تتكلم عربية،" وارتفعت معنوياتي.
ولولا أنني كنت مقبلاً على أمر مجهول ومخيف، لكانت تلك الرحلة أجمل رحلة في حياتي، فنادراً ما كنا نسافر إلى المجدل المحتلة عبر الطريق الساحلي الذي يتميز بجمال نادر. وفي نهاية الرحلة توقفت السيارة العسكرية، وأنزلني الجنود، فوجدت نفسي وسط جمع من الجنود والشرطة أمام الباب الكبير لسجن عسقلان.
ألبس الجنود رأسي كيساً نتن الرائحة؛ لتعذيبي ومنعي من الرؤية، وقيدوا يديّ ورجليّ، وأدخلني الشرطي إلى السجن، وكان يدفعني دفعاً وهو يقول لي: "ما الذي جاء بك إلى هنا؟ لن تخرج من هنا أبداً حتى لو دفعت مال الدنيا!" لم أكترث كثيراً بما قال الشرطي، ولكنني حاولت ربط قوله بأسباب الاعتقال دون جدوى، فقد كان الموقف أكبر من أن أفكر في سبب الاعتقال، وكان تفكيري منصباً على ما كان ينتظرني من تعذيب وتحقيق. وبعد دقائق قليلة فتشني أفراد شرطة السجن تفتيشاً دقيقاً بطريقة مذلة وأجبروني على خلع حذائي وملابسي الخارجية. ثم سلمني الشرطي نعلاً بلاستيكياً وملابس بنية اللون، وأمرني بارتدائها، وكانت ضيقة جداً لحد أنني لم أستطع إغلاق أزرار السروال. ألبسني الشرطي الكيس مرة أخرى، ثم أقعدني على كرسي الشبح، وهو كرسي خشبي صغير قصير منحدر إلى الأمام، مثبت بالأرض بأقفال حديدية في ممر يقع بين غرف التحقيق. والجلوس على الكرسي مؤلم جداً، فهو مصمم للتعذيب. ثم ربطني الشرطي بالكرسي باستخدام سلسلة حديدية، وتركني أعاني ألم القيد والحر الشديد تحت أشعة الشمس ساعة الظهيرة. تصبب العرق من وجهي تصبباً حتى كدت أختنق، وهممت بالصراخ، ولكنني تذكرت أن الهدف من شبحي كان إنهاكي جسدياً وتحطيمي نفسياً قبل التحقيق، وفتح الباب أمام مساومتي تحت وطأة الألم والمعاناة، ولكنني صبرت وشغلت نفسي بالذكر والدعاء.
وبعد ساعة، فكني الشرطي من الكرسي، وكان الوجع والعطش والقلق قد بلغ مني مبلغاً شديداً، ولكن ذلك لم يحطم معنوياتي، بل زاد من حقدي على الأعداء الصهاينة. ثم قادني الشرطي إلى غرفة التحقيق، حيث كان ينتظرني هناك محقق يهودي من أصل يمني كنيته "أبو هادي." رفع الشرطي الكيس عن وجهي، وأبقى القيود في يديّ ورجليّ. وقبل أن يجلسني المحقق على الكرسي ويبدأ التحقيق، لاحظ تورم يديّ ورجليّ من القيود، ولاحظ احمرار وجهي وتصبب عرقي، فأبدى تعاطفاً كاذباً، وأمر الشرطي بوضع يديّ المقيدتين إلى الأمام بدلاً من الخف، ليس لتخفيف ألمي، ولكن للتأسيس لثقة متبادلة أثناء التحقيق. وبعدها بدأ التحقيق. والتفاصيل في المقال القادم إن شاء الله.
20/4/2010