القصيدة النثرية للكاتب سالم وريوش الحميد
وقد كتبت الأستاذة الناقدة دنيا نبيل رؤيتها عن هذا النص
حيث كان تحليلها في غاية الروعة وهو قراءة واعية وعميقة للنص
القصيدة
أنت من كنت أبحث عنك!!
أنت منى كنت أبحث عنك ...!
امرأة أحببتها لها عشاً في فؤاد غض غرير.
لها عرش في شغاف قلب متبول.
أنشأت لها تاجاً مرصعة من درر الكلام..
من مملكة شعري أهديتها قصائد تنبض بالحياة
أناجي فيها قمرا ضائعا بين الوهاد،
قصائد بطول الإلياذة.. قد تكون
لا أعرف من أي منهل تأتيني الكلمات..
ولملهمتي كل حرفٍ أصوغ..
كلكامش أنا : يممت وجهي إليك
عبر بوابات الزمن السحيق
أو عبر غياهب المستقبل المجهول
أبحث عنك
في محطات العشقٍ العذري..
أبحث عن روح ليلى العامرية
لا عن جسد عشتار
فلم تغويني امرأة بعد
تعالي يا حبيبتي
شاركيني أيك أحلامي
قاسميني صبر أيوب
فها نحن قد دعينا
لعشاء رباني
خبزا وخمرا وعشقا
*********
أ ُغرق العالم بالطوفان
فما عاد عند نوباتشم مأوى أو مكان
سندبادك
قلبي مركبا أمنا
وروحي تتوق الأسفار
تعالي حبيبتي ، كوني شراع لي
كوني مجداف يوصلني لبر الأمان
***********
..قالوا لي :
إن الوصول إليها محال
سرابا.. رؤى بعيدة المنال
مازلت
أبحث عنك في كل مكان
. أرتحل من عالم إلى آخر
ارتحل من زمن إلى زمان
إن شأت أكون مثلك
جزء من فراغ، كيان وجسد من سراب،
حلمٌ وأسطورة وحقيقة أغرب من الخيال
تعالي إلي.. دعيني
أعبث بأناملي على ثنايا شفتيك
أداعب خصلات شعرك
المجنون باشتهاء
أعانق ليلك وأتوسد صبحك فأذوب
وأذوب ، أذوب
أفيض عشقا في كل الدروب
تعالي إلي حبيبتي ، تعالي
لم تقتلين فرحتي..؟
لم تحطمين كل آمالي.. ؟
في رياض حبك.
كيف أطير وجنحي كسير
لتكوني ما تكونين حلماً ، حقيقة ..
واقعا أم عالم خيال
منذ زمن طويل وأنا ،
أبحر في زوارق الأمل والنجوى..
أصارع موجا عاتيا ، مجداً في البحث عنك في جزر الخلاص
كل ضربة للمجداف أرى وجهك
على صفحات
الماء المتكسر يغور
تناديني من أعماق سحيقة بصوتٍ أشبه
بالصدى.. يتردد في فضاء ليس له قرار
ألقى بهذا اليم أبحث عنك طويلاً،
تصير الأضواء في عيني ومضات..
اضرب الماء بكفي.. ابحث هنا وهناك لعلي ألقاك.
أدور في دوامة لا أعرف لها قرار
لا أبصر إلا حدود ما أحاط به.
أنت فوق مداركي الحسية..
لست بإنسية ولا جنية
ولست بملاك
*********
قالوا
دعها فما كانت لك ولن تكون إليك
ستتيه ..
ستكون ورقة في مهب ريح
لِمَ لا ترتد عن تلك الأوهام..
لقد تعبت من الطواف والسؤال.
فقد لف السبات أهل الكهف
و كيوبيد نفذت كل سهامه
وأبو لهب لم تطفأ نار ه لازال يقطع بها الطرقات
دعك منها . فهي
ما خلقت في سفر التكوين
وما جاء لها أسما في التلمود
دعك منها
فما كانت لك ولن تكون إليك
أنثر الأمس ذكريات
وأحمل القلب لما هو آت
*******
ولكني لا أنصت إلا لأوهامي
و يظل صدى صوتي
يردد ..في صحراء عمري
بين كل الوهاد وعلى النجود
:تعالي حبيبتي ، كوني شراع لي
كوني مجداف يوصلني لبر الأمان
الصدى يعود
يصطدم بشاهد قبر وحيد
يعود لي:
أنا هنا يا حبيبي
مللت الوحدة والانتظار
فتعال أنت إلي يا حبيبي
من سلك درب كهذا لن يعود
أسطورة البحث عن الحبيبة للناقدة الميدعة دينا نبيل
في
( أنتِ التي كنت أبحث عنها )
مقدمة :
إنها لعملية شاقة للغاية - عملية البحث - فإن وصل الإنسان إلى ضالته فتكون لحظة فارقة في حياته ، وعندها قد يقدم أي شيء في سبيل الحفاظ على ما تحصّل عليه ، خاصة وإن طال بحثه ..
فإن كان البحث هنا عن محبوبة فإن الوضع يختلف قليلا وذلك بسبب ما تقوم به العاطفة التي تكون في أغلب الحيان عمياء لا تميز ؛ فتهيء للإنسان أنه قد وصل إلى بغيته في حين هو تحت تأثير أشبه بالسحر .. ولكن إن كان الباحث قد عثر على محبوبته في النهاية فإن مشكلته هنا عدم انصياع هذه المحبوبة له فيخشى عليها التفلت منه ..
تذكرني هذه الخاطرة بقصيدة لكريستوفر مارلو الشاعر الإنجليزي الشهير " تعالي .. عيشي معي وكوني حبي !" ، كان يدعو فيها محبوبته للعيش معه في سببيل أن يقدم لها الكثير لكن اعتمد في تصويره على وصف الطبيعة رغم أن كان به الكثير من المبالغات
وهذا فيما أراه وسيلة كل من يريد إنسانا غاليا لديه أن يرافقه في حياته ؛ لذا فاعتمد الكاتب هنا على استخدام أسلوب غاية في الشاعرية ، كما ذكر بها الكثير من الرموز الأسطورية كي يضفي سحرا فائضا على كلماته مما يكون وسيلة لإقناع تلك المحبوبة بما يريد
فللأسطورة سحرها الخاص بها والذي ينظر إليه الجميع رغم التطور العلمي وتطور المجتمعات كاشياء يصدقون بها وينجذبون لها دون إدراك سبب ذلك وهذا ما أوضحهفرويد في نظريته وتبعه يونج في تطوير فكرة الأنماط الأولية ، فيرى ( أنها " تصورات " واجه بها الإنسان الكون والطبيعة والمجتمع والطبيعة البشرية البيولوجية . وهذه الأنماط هي لا شعورية نمارسها في حياتنا الأدبية ( النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري – ص 45 ) .. وهكذا يستعين بها الأديب كي تضفي روحا تجديدية رغم أزليتها ونوعا من التجميل والسحر لنصه الأدبي .
دور الأسطورة في النص المدروس :
أنواع الرموز المستخدمة :
يستخدم الكاتب في هذه الخاطرة عددا من الرموز الأسطورية التي يعرف عنها بمراجعتها لتاريخها أنها رموز غالب عليها الطابع العراقي القديم أو السومري مثل ( جلجامش – عشتار – نوباتشم ) وهناك رموز أكثر حداثة منها مثل ( سندباد ) وهناك رموز عربية مثل ( ليلى العامرية ) ، وهناك رموز رومانية شهيرة مثل ( كيوبيد )
ليس ذلك فحسب وإنما استخدم الكاتب رموزا دينية مثل : شخصية أحد الأنبياء نبي الله أيوب عليه السلام كرمز قرآني للصبر ، كذلك ( أهل الكهف ) ، كما يظهر الرمز المسيحي ( العشاء الرباني ) جليا بأجزائه الخمر والخبز ، ورموز توراتية ( سفر التكوين – التلمود ).
ورغم ان كل من هذه الرموز ينتمي لبيئة مختلفة إلا أنها قد صارت انماطا كبرى لا ترتبط بزمان أو مكان معين وإنما صارت عالمية : ( فهي لا تعني شعبا بعينه بل تعني البشرية جمعاء .. المصدر ذاته / ص 44 )
أدوار الرموز في تدعيم فكرة البحث عن الحبيبة في النص :
يفتتح الكاتب النص مبينا أنه قد عثر على محبوبته وإنه يريدها تكون معه بأي طريقة فهو على استعداد ان يقدم لها كل ما يقدر عليه في مملكته هو والتي قوامها ( الفؤاد – الكلام )
فرشت لها عشا في فؤاد غض غرير.
كونت لها عرشا في شغاف قلب متبول.
فيقدم العش ( رمز الفقر ) والعرش ( رمز الغنى ) معا في مكان واحد وهو القلب
أنشأت لها تاجاً مرصعة من درر الكلام..
من مملكة شعري أهديتها قصائد تنبض بالحياة
فهذه هي مملكة الكاتب حيث يتوّج محبوبته بكل ما ملكت يداه فالفؤاد قد أعمله لها عرشا ، والكلام قد صنع منه تاجا يزين جبهتها
*** ثم ينتقل في هذا الجو السحري يصف حبه الذي كان يبحث عنه كي يزيد تعلق محبوبته به فيقول :
كلكامش أنا : يممت وجهي إليك
عبر بوابات الزمن السحيقأو عبر غياهب المستقبل المجهول
كلكامش رمز أسطوري كبير يحوي العديد من الإيحاءات التي ارتبطت بملحمته الشهيرة ، فهو رمز للقوة البدنية والعقلية والحكمة واكثر ما يعؤف به هو بحثه عن الخلود خاصة بعد موت صديقه إنكيدو ، كيف اخذ يهيم باحثا عن الخلود هاربا من حقيقة الموت التي لابد منها له بسبب نصف نسبه الإنسي ،
( كلكامش أنا ) كانت كافية للتعبير عن مدى التيه الذي اصاب بطل النص والعناء الذي أضناه في بحثه عن حبيبته ؛ فيبحث عنها في الماضي السحيق والمستقبل المجهول علّه يصل إليها !
أبحث عنكفي محطات العشقٍ العذري..
أبحث عن روح ليلى العامرية .. لا عن جسد عشتار
فلم تغويني( تغوني ) امرأة بعد
فهذا هو الحب الذي يبحث عنه إنه حب عذري شفاف برئ .. هو حب الروح لا حب الجسد ، وقد استخدم الكاتب هذين الرمزين المتناقضين لهذين النوعين من الحب
فليلى العامرية وقيس المجنون رمزان للحب الطاهر العفيف والذي كانت نهايته حزينة وقد استخدم رمزهما كثيرا معا دلالة على الحب البرئ ، وفي المقابل هناك حب الجسد والشهوة والذي دلل عليه الكاتب في رمز ( عشتار) إلهة الحب والجمال عند السومريين ، فكانت في الأسطورة باهرة الحسن ، فتاخذ تتجول في عالم البشر بحثا عن ضحاياها ، تأخذ ما يملكون في مقابل وعود وهمية بالزواج والمتعة .. فقد أحسن الكاتب في استخدام هذه الثنائية الضدية الأسطورية ( الحب العفيف – الحب الماجن ) من أجل تصوير حقيقة حبّه .. مما يكون باعثا للأمان في قلب المحبوبة فتطمئن إليه وتبادله حبه وتقترب إليه
لذا فقال في المقطع التالي يطالبها بالقدوم إليه :
تعالي حبيبتي
شاركيني أيك أحلامي
قاسميني صبر أيوب
فها نحن قد دعينا
لعشاءٍ ربانيا( ربانيٍ ) إٍدامه
خبزا وخمرا وعشقا ( خبز وخمر وعشق )
فأيوب عليه السلام رمز للصبر وتحمل الآلآم وتقبل الأذى برضا ، وهو رمز قرآني صحيح في هذا الموضع ، فأيوب عليه السلام كان معه زوجه الصالحة والتي كانت تخفف عنه كثيرا فكانت مؤمنة تتحمل الصعاب والأذى معه ولم تفارقه أبدا ، فدعوة بطل النص هنا لحبيبته تتواءم مع حبه العذري الذي لا يريد منه سوى العفة وامراة تشاطره حياته .. لكن
في الرمز التالي ، العشاء الرباني وهو رمز مسيحي ، فبالرغم أنه يشير إلى التضحية والخلاص والوفاء وكلها معان متوافقة مع الصبر إلا أن لفظة ( الخمر ) والتي هي جزء من العشاء أرى عدم موافقتها لجو الحب العذري ، وبالتالي أرى ان في استخدام هذا الرمز هناك بعض الخلل في رأيي المتواضع .. وذلك لما تحمله الخمر في العادة من معان المجون والغواية
أُغرق العالم بالطوفان
فما عاد عند نوباتشم مأوى أو مكان
سندبادك
قلبي مركبا أمنا( مركب آمن )
وروحي تتوق الأسفار
هنا نوع من الرموز المرتبطة بالبحر والإبحار ؛ فنوباتشم والذي يشبه كثيرا نوح عليه السلام وقد نجا من الطوفان هو وزوجه وهنا يختلف مع قصة نوح عليه السلام التي أغرقت في الطوفان .. فهو رمز للنجاة من الغرق المحدق والخلود الذي لم يناله أحد .. فعالم بطل النص قد أغرق عالمه بطوفان مثل أيام نوباتشم ، فصار كسندباد يتشبث بالحياة ويريد الإبحار في دنيا الصعاب والبحار السبع إلا ان قلبه بلا حبيبة أي قاربه فارغ بلا شراع ولا مجداف فيكون مصيره الغرق بدونها !
فقد لف السبات أهل الكهف
و كيوبيد نفذت كل سهامه
أبو لهب لم تطفأ ناره بعد ، لازال يقطع بها الطرقات
دعك منها . فهيما خلقت في سفر التكوين
وما جاء لها اسما في التلمود
دعك منها
فامام جميع التحديات التي يواجهها في البحث عن حبيبته هناك نوع آخر من التحديات ألا وهو من يعذلونه في حبه إياها ويقولون له " دعك منها فما هي لك ! " ، وهنا يتنقل الكاتب بين الرموز برشاقة فنية فياتي بانواع مختلفة منها ليصور كيف أن الناس حول البطل يبذلون كل الجهد ليثنوه عن حبه لها ..
( أهل الكهف ) هو رمز قرآني لشباب آمنوا بربهم في زمن انقطع فيه الموحدون ، وهم معجزة إذ أماتهم الخالق عز وجل أكثر من ثلاثمائة سنة ثم أحياهم ، فيمثلون بسباتهم الانقطاع عن الحياة والدنيا والانعزال وحدهم .. فكان استخدام هذا الرمز في هذا الموضع كتيئيس للبطل من مبتغاه في العثور على من يحب كما أن اهل الكهف لم تتكرر قصتهم بعد ذلك ولم يات أحدهم ليفيق من سباته بعد مائة سنة حتى .. فكان تعجيزا فوق التيئيس !
اما رمز ( كيوبيد ) .. فأراه مستهلكا لأنه كثير الربط بينه وبين الحب ورشقه الأعمى لقلوب المحبين ، رغم استخدام الكاتب له هنا على سبيل استحالة وقوع البطل في الحب الذي يريد لنفاذ سهام كيوبيد ، إلا أنني لا أزال أراها مبتذلة
اما رمز ( أبي لهب ) فهذا في رأيي جديد كاستخدامه في النص الأدبي .. فهو رمز للكيد وتقطيع السبل والإحالة دون تحيق المطلوب كما كان يفعل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستخدم هنا ايضا للتدليل على استحالة العثور على هذه المحبوبة .. فأبولهب يسعى بلا توقف يحرق الطرقات وينشر سمومه بين الناس .. فأنّى له بالعثور على حبيبته !
اما الرموز التوراتية فأرى ان المقصود منها إستحالة خلقها اصلا ذلك لأن رموز التوراة ( كسفر التكوين – التلمود) .. قديمة قبل الميلاد بآلاف السنين ، فهي لم تذكر فيهما حتى اي انها لم تخلق أصلا ، وهذا الرمز اراه موفقا للغاية
وفي النهاية وبعد كل هذا العناء في البحث عن الحبيبة وخوض غمار الاساطير والتنقل في الزمان والمكان .. يكتشف البطل أنها ... ماتت !!
يا لها من صدمة للمتلقي لا تنفي جودة القفلة وإنما كان لها الدور الكبير في ترك انطباعا قويا لدى القارئ عند مغادته النص
ملاحظات عامة :
1- النص فعلا خاطرة لأنه كمن يهيم في افكاره فلا يسير في خط مستقيم أي بلا تطور ، لذا فهي خاطرة
2- لغة النص شاعرية رقيقة للغاية
3- الصور تحتاج إلى العمل عليها اكثر ، فمنها المستهلك والمالوف .. لذا فعلى الكاتب العودة إلى النص والعمل على إيجاد صورا جديدة
4- استخدام الرمز كان موفقا إلى حد كبير
5- النص كان بحاجة لمراجعة لغوية قبل النشر لوجود بعض أخطاء النحو والتي قمت بتصويب بعضها