كرسي الخيزران .. وجهاً لوجه مع الهزيمة!! المصدر : أحمد تيناوي 01/06/2009 غابت هذه الأيام الوجاهة التي كان يتمتع بها كرسي الخيزران؛ عندما بدأ متعهدو الحفلات يستبدلونه بالكرسي البلاستيكي، الأقل تكلفة والأكثر عملية.. كرسي الخيزران كان حاضراً في جميع مناسباتنا؛ في الأفراح والأتراح، وفي الخطب، وفي الأمسيات الثقافية وغيرها من الأمسيات.. وإذا استثنينا الصف الأول الذي لم يتسنَّ لكرسي الخيزران، طوال مدة خدمته، أن يتشرَّف بجلوس شخصية مهمة واحدة، فإنَّ الصفوف الباقية كانت بالتأكيد من نصيب الكراسي الخيزرانية التي حظيت بمؤخرات أقل أهمية وأقل شأناً..!!
في مستودع أحد متعهدي الحفلات، كانت كراسي الخيزران تجترُّ ذكرياتها القديمة على إيقاع أسنان عثّ الخشب التي تنهش بأجسادها الآيلة للسقوط. أما ظلمة المكان، فكانت تساعد الجميع على استحضار أيام العزّ الغابرة التي كانت فيها الكراسي تنتقل يومياً من مناسبة إلى أخرى لتلتقي مع مختلف أنواع البشر، حيث تبدأ عقب عودتها مباشرة بالحديث إلى بعضها عن طبيعة الحفل وعن الناس الذين حضروه، وعن أشياء أخرى تحتفظ لنفسها بمتعتها، أو بغرابتها!.
كان أحد الكراسي مدمناً على حضور الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية، إلى درجة أصبح فيها يتباهى بمعرفته لمجمل قضايا الساعة، بل وتحوَّل إلى أهم مريدي قصيدة النثر، عقب أمسية شعرية تقليدية، جعلته يفقد الفتاة الجميلة التي غادرته مسرعة، بعد سماعها الشطر الأول من البيت الأول من القصيدة الأولى في الأمسية. أما كرسي آخر فكان كلما سمع بحفل زفاف يحاول جاهداً أن يكون بين الكراسي الحاضرة في الجزء النسائي من هذا الحفل؛ فرائحة العطور النسائية كانت تجعله ينام هانئاً لأيام طويلة، ناسياً رائحة العفونة التي تستوطن المستودع.. وهكذا كان لكراسي الخيزران أمنياتها، ومعارفها، وأسرارها؛ فترى أحدها يتأوَّه لأسبوع كامل من ثقل الرجل الذي جلس عليه، وآخر يشتكي من رائحة الغازات التي كان يخرجها شخصٌ التهم وجبة الفول باللبن على عجل... وثالث منزوٍ على نفسه يلملم جراحه التي أحدثها طفل عابث بسكينه الصغيرة، وخامس.. وسادس..
غربةٌ حقيقيةٌ كانت كراسي الخيزران تعيشها في مستودعها الرطب والمظلم. ومع أنَّ لكلِّ كرسي قصة حياة مختلفة يمكن أن يرويها على زملائه بعد أن بدأت رحلة تقاعدهم، إلا أنَّ استعادة تلك الحياة، في حكاية انتهت، كان يجعل بعضها موقناً أنَّ الموت البلاستيكي وحده الذي قهرها، ووحده الذي جعل منها تمتلك نهاية مأساوية كالتي يعيشونها الآن!.
.. وحتى رحلة التقاعد هذه لم تعفِ الكراسي من أن تبقى على موقفها السابق؛ من الحياة، والناس، والأفكار، ومن بعضها البعض، لاسيما تلك الكراسي التي كان مقدراً لها أن تحضر المهرجانات والندوات الفكرية، حتى إنَّ أحدها وقَّع على عريضة طالب فيها بعدم حضوره خطب المسؤولين الصغار لكثرة ما فيها من عبارات مملة؛ ما جعله يواجه اتهامات كرسي متخشب في أفكاره اتهمه بالتخلف والرجعية، كما أنَّ كرسياً آخر ألحَّ ألا يحضر أيَّ مأتم للعزاء لكثرة المنافقين الذين يحضرون هكذا مناسبات، أما ثالثٌ فقد اضطر أن يكسر أحد قوائمه عندما عرف أنَّ المناسبة لم تكن سوى محاضرة لأحد أعضاء اتحاد الكتاب العرب، ورابعٌ أصيب بفقدان وعي دائم أثناء حضوره حفلة طهور أحياها مطرب صاعد.
في المقابل كان أحد الكراسي يتمنَّى أن يعطف عليه المتعهد بحمام زيت يجعله أكثر لمعاناً، استعداداً لحضوره حفل استقبال إحدى الجمعيات النسائية، وثالثٌ جعل من تقاعده المبكر هماً دائماً، فبعد تجربة طويلة مع البشر اقتنع أخيراً أنهم لا يستحقّون إراحة مؤخراتهم عليه.. ولم يكتفِ بعدائه الذهني لهم، بل فكَّك أحد قوائمه معرّضاً من يجلس عليه للسقوط في أيّ لحظة.
خلاصة تجربة كرسي الخيزران مع الناس اتَّسمت بالمرارة؛ فرغم بعض الذكريات الجميلة التي يحملها من هذه المناسبة أو تلك، إلا أنَّ المحصلة العامة أكدت له أنَّ إراحة المؤخرات لا تعني أبداً إراحة العقول..! فما يخفيه البشر في أنفسهم كان ينتقل تلقائياً إلى خشبه.. الذي تيقَّن أنَّ خوفهم، ونفاقهم، وهواجسهم، وقسوتهم، وثقل وزنهم، ونميمتهم، وكذبهم، وغازات بطنهم.. ليست مجرد حالات عابرة، بقدر ما هي محصلة نهائية لحياتهم التي ارتضوا أن تجلس مؤقتاً على كرسي خيزران في مناسبة جاؤوا إليها ليعلنوا أنهم اجتماعيون، ومثقفون، ومؤمنون بأفكار.. شعر الكرسي من مؤخراتهم أنهم على استعداد لتبديلها في مناسبة أخرى.. وإلا ما معنى أن يكون الكرسي البلاستيكي عديم الإحساس، أهم جزء من حضارتهم الجديدة؟!!..