© اليونسكو/أليدا بوي
مخطوطة من تمبكتو (مالي)
كان حوالي 000 200 مخطوطة قديمة عرضة للتفتت البطيء في المكتبات والأقبية والعِليّات في تمبكتو (مالي)، قبل أن يُتخذ قرار بإحصائها وحفظها ونقلها إلى الصيغة الرقمية بشكل منهجي. وتشهد هذه الكنوز التي لا تقدّر بثمن، والتي يرقى أقدمها إلى القرن الثالث عشر، على أن تاريخ أفريقيا ليس شفهياً فحسب.
بمبادرة من اليونسكو، تمّت فهرسة أكثر من 000 15 وثيقة في تمبكتو في إطار مشروع تموّله حكومة اللوكسمبورغ. كما قدّم هذا المشروع الدعم للمعهد الوطني أحمد بابا في جهوده لترميم وحفظ ونشر محتوى المخطوطات والانتفاع به لمزيد من المعلومات.
في تمبكتو، تلك المدينة التي تعلو نهر النيجر في مالي، طُمرت مفاتيح جزء كبير من الذاكرة المدوَّنة لمنطقة الساحل. هنا، كانت تجارة الذهب والملح في أوج نشاطها في القرن الخامس عشر، والتجار والعلماء يعيشون في انسجام ووئام كاملين. وكان طلاب أفريقيا البالغ عددهم 000 25 في جامعة "سنكوري" آنذاك، يحتشدون أمام الفقهاء الذين اشتهِروا بمعارفهم الاستثنائية. إلى هذه المدينة بالذات، التي تعرَف أيضاً بمدينة الـ"333 ولياً"، توافد عدد من المفكرين العرب والبربر هرباً من بلاد الأندلس إبان الغزو المسيحي، فأرسوا فيها تعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية. وعام 1915، نقل ليون الأفريقي أن بيع الكتب كان يدرّ ربحاً أكبر من أي سلعة أخرى في المدينة، مما يكوّن فكرة عن قيمة المعرفة المخطوطة في ذاك الزمن.
ويتضح أكثر في ظل هذا الاكتشاف البعد السياسي الجوهري الذي يميز عدداً من الوثائق المخطوطة، كما يشهد عليه "تاريخ السودان" الذي يروي تعاقب قادة تمبكتو على الحكم في القرن الخامس عشر، و"تاريخ الفتاش" الذي يسرد أوضاع السودان في القرون الوسطى. فلا شك أن توفر هذه الوثائق اليوم يدحض تماماً الآراء المسبقة غير المبنية على استدلال صريح، والتي جعلت من أفريقيا قارة التقاليد الشفهية حصراً.
© اليونسكو
كنوز مجهولة لفترة طويلة
لكن هل يدرك السكان الأصليون في مالي أنهم يملكون تحت أقدامهم وفي عليّاتهم مئات آلاف المخطوطات الجوهرية التي تمتد من القرن الثالث عشر حتى القرن التاسع عشر؟ أغلب الظن أن هذه الحقيقة غائبة عنهم. وباسم التراث الشفهي الذي يكاد يقارب صفة القداسة، وانعدام حركة الترجمة بفعل النقص في الإمكانات (1% بالكاد من النصوص قد ترجِمت إلى العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية) والتحفّظ القائم إزاء التنقيب في الذاكرة الأفريقية رغم تحلّيها بفضائل كثيرة، تبدي السلطات العامة تردداً في نبش ما هو أشبه بالعصر الذهبي الأفريقي في مجال السياسة.
ولنستنتج هذا الواقع بأنفسنا: فأمامنا أبحاث في الحكم السليم، ونصوص حول أضرار التبغ، وملخَّص دستور الصيدلة... مؤلفات في القانون (لا سيما بشأن الطلاق والأوضاع القانونية للمطلِّقات)، وعلم اللاهوت، وقواعد اللغة، والرياضيات، تتكدّس تحت غبار المكتبات الخاصة ومعهد أحمد بابا للدراسات العليا في تمبكتو. وما زالت الملاحظات الخطية لعلماء قرطبة وبغداد وجنة بادية للعيان. على الرفوف المسيَّجة، تطالعك أحكام قانونية بشأن حياة اليهود، والمسيحيين "المرتدّين عن الدين"، تشهد على النشاط التجاري الكثيف في تلك الحقبة. كما أن بيع وتحرير الرقيق، وأسعار الملح والتوابل والذهب والريش كلها واردة في المخطوطات الرقيّة المسندة إلى مجموعة من الرسائل المتبادلة بين حكّام ضفتي الصحراء، والمزيَّنة بالزخارف الذهبية.
تراث يثير مشاعر الخوف والدهشة في آن معاً، إلى حدّ يشعر فيه الباحثون أنفسهم بالارتباك إزاء هذا الكمّ من المعارف المتيسرة. ويوضح جورج بوهاس، أستاذ اللغة العربية في "المدرسة العليا" في ليون وأحد مطلقي برنامج "فيكماس" (تقويم ونشر المخطوطات العربية لمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء) قائلاً "إن مجموعة المخطوطات المتوفرة تقدَّر بـ000 180 مجلد، وكان 25% فقط منها موضع جرد، و10% موضع فهرسة، فيما 40% ما زال داخل حقائب من خشب أو حديد!" هذا عدا عن جميع المخطوطات المخبَّأة في المنازل والتي لا يرغب المحتفظون بها رفع اليد عنها، إما عن جهل وإما لدوافع تجارية مخجلة.
©: اليونسكو/أليدا بوي
لوحة أفريقية تطفو على وجه التاريخ
100 ألف مخطوط من ورق النخل تنتظر إنقاذها
التفاصيل
مخطوطات صنعاء: كنز الكلام المكشوف
التفاصيل
لا شك أن رؤية المخطوطات التي أمكن إنقاذها من الحشرات والغبار الرملي تملأ العيون والنفوس غبطة. وقد خطَّت المجموعة في معظمها على ورق شرقي (ثم إيطالي)، وعلى جلد الخراف، وجلد وعظم كتف الجمال، وأضيفت خطوط تحت العبارات التي تستوجب التنويه، كما ورد شرح وتفسير للمضمون في الهامش أو في نهاية المخطوطة الرقيّة، حيث يدوّن الخطاط اسمه والتاريخ الذي أنهى فيه عمله. نقرأ في إحدى الصفحات عن وقوع هزة أرضية ومشاجرة عنيفة بالأيدي أخلّت بالكتابات. بفضل عدد من المترجمين المنفردين، تتصاعد اليوم إلى وجه التاريخ لوحة أفريقية متكاملة. لكن لا توجد أية وحدة قائمة بين هذه النصوص، وذلك لسبب بسيط. فإذا كان معظم المخطوطات قد وُضع بالعربية، إلا أن الخطاطين كانوا يعبّرون عن أفكارهم تبعاً لأصولهم المتنوعة واللغات المحلية الشائعة (تماشك، هاوسا، بيول، سونغاي، ديولا، سونينكي، ولوف) وفق قاعدة نسخ مشتركة مستوحاة من الخط المغربي، وهي كتابة عربية موجزة وسريعة كانت تتيح، بفعل شكلها، اقتصاد الورق.
كيف يمكن بعد ذلك كله تصوّر هذا الاستكشاف التاريخي الباهر بمنأى عن مشاركة السكان والباحثين الأفارقة والسلطات العامة الوطنية بشكل مباشر فيه؟ هذا هو التحدي السياسي الذي يُضاف إلى مخطوطات تمبكتو، بل ويتجاوزها، لردّ الاعتبار نهائياً إلى تاريخ أفريقيا المدوَّن.
جان ميشال دجيان
صحافي وأستاذ محاضر في جامعة باريس 8
المصدر:
http://typo38.unesco.org/ar/cour-05-2007/cour-05-2007-3.html