د. محمد سعيد التركي
الحلقة الخامسة والعشرون - مسائل متعلقة بالعقيدة القضاء والقدر
الجزء الأول
من ضمن المسائل التي ضلّ الناس عنها، وإنحرفت مفاهيمها عندهم، مسائل متعلقة بالعقيدة مباشرة، ولها أثر سلبي عظيم على عقيدتهم كأفراد، وبالتالي أثرٌ مؤثر على سلوكهم ومواقفهم وعلاقاتهم، وعلى تربيتهم الشخصية، وعلى تربية الأجيال من بعدهم، هذه المسائل كانت من ضمن المسائل التي نالها التحريف في عقيدة الإسلام ونظامه، وأفكار الإسلام ومقاييسه وقناعاته كما بيناها في الحلقات السابقة . من أهم هذه المسائل المتعلقة بالعقيدة، مفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الهداية والضلال، ومفهوم الرزق، ومفهوم إنتهاء الأجل، ومفهوم التوكل .القضاء والقدرلقد تسبب الجهل بمفهوم القضاء والقدر التأثير على نظرة الإنسان المسلم للحياة، ونظرته للواقع، وعلى المنهج الذي يسلكه في التعامل مع صناعة حاضره ومستقبله، وعلى مطالبه في الحياة وعلى التشكيك في دينه وعقيدته، أي على موقفه من العقيدة الإيمانية بوجود الله.لذا يجب علينا أن نصحح مفهوم القضاء والقدر، وذلك بالتفريق بين أربع مسائل متعلقة بهما، المسألة الأولى: أفعال الإنسان الإختيارية، والثانية: القضاء، والثالثة: القدر، والرابعة: اللوح المحفوظ، فالخلط بين هذه الأربعة مسائل بغير علم يلخبط مسألة القضاء والقدر، وبالتالي تحصل المشكلة التي ذكرناها .غالباً ما يظن كثير من المسلمين أن أفعال الإنسان جبرية، أي أن الإنسان مسيّر في أفعاله "كما يُظن"، فهي على حد قولهم مكتوبة في اللوح المحفوظ، ويُظن أن الله قد قدر على أناس أن يكونوا ضالين، وقدر على آخرين بالهداية، وخلق خلقاً للنار وخلقاً للجنة، ويُظن أن في الإنسان نزعة خير، ونزعة أخرى للشر، وبالتالي يظنون أن الإنسان تسيره نزعاته التي خلقها الله فيه، ولا يقدر هو على فعل ما يخالفها، ولذلك فإن هناك معسكر شر في الدنيا، وهناك معسكر خير، وكلاهما في صراع مستمر، وبالتالي فهناك مسلمون وآخرون كافرون، بإرادة من الله وحكمٍ منه عليهم، وقد قرر الله قبل خلقهم "كما يظنون" عذاب هؤلاء ، ونعيم أولئك، وليس هناك مهرب من دخولهم إلى النار أو دخولهم إلى الجنة . وما إلى آخر هذه الظنون المضلة والمضللة . أفعال الإنسان الإختيارية : عندما خلق الله الإنسان أعطاه ميزةً مختلفة عن كل المخلوقات الأخرى، أن أعطاه العقل، وحرية التصرف في الأفعال، أي حرية التصرف بين القيام بأفعال وعدم القيام بغيرها، وتركُ أفعال والقيام بغيرها مختاراً غير مجبر . وبالتالي فإن الإنسان بمقدوره أن يؤمن بالله، وكذا بمقدوره أن لا يؤمن به، وبمقدوره أن يقتل آخرين، وبمقدوره أن لا يفعل، وبمقدوره أن يتخلق بالخلق الحسن، وبمقدوره خلاف ذلك، وبمقدوره أن يزني، وبمقدوره أن يحصّن نفسه، وبمقدوره أن يرتزق بالمال الحلال أو يرتزق بالمال الحرام، وبمقدوره أن يطلب العلم أو أن يبقى جاهلاً، كل هذه الأمور هي في دائرة يسيطر عليها الإنسان وليس لأحد أن يمنعه منها، أو يدفعه جبراً عليها .القضاء، أو الأفعال الغير إختيارية : هي دائرة من الأفعال تسيطر على الإنسان، جزء منها مما يقتضيه نظام الوجود، وآخر مما لا يقتضيه نظام الوجود، فالإنسان يعيش ضمن نظام محدود في هذا الكون، بليله ونهاره وتداول أيامه وسنينه، وبطبيعة الأرض التي يعيش فيها بمائها وهوائها وأشجارها، وقد خلقه الله بصورة معينه في شكل رجليه ويديه ورأسه، وكيفيّة مجيئه إلى الدنيا وذهابه عنها، وصفات خلقية تحدد كيفية معينة للعيش في هذه الدنيا، وما إلى آخر هذه الأفعال التي ليس للإنسان فيها أن يقرر غيرها أو يغيّرها أو يعيش بخلافها، فالإنسان في هذه مجبر، ومسيّر وليس بمخيّر، وهذا كله من القضاء .أما ما لا يقتضيه نظام الوجود من الأفعال، فهي الأفعال التي تحصل من الإنسان أو عليه جبراً عنه وليس بمقدوره دفعها، فمرض أحدهم أو شفاؤه من القضاء، ودخوله السجن أو الخروج منه من القضاء، وفَناء المال أو موت حبيب أو قريب فهو قضاء، وسقوط أحدهم على الأرض أو هلاكه دون إرادة منه فهو قضاء، وأن يعطل دولاب السيارة وهي مسرعة ويحصل مكروهاً، أو تتعطل السيارة في طريق السفر فيتعطل المسافرون فهو قضاء، أو يطلق أحدهم رصاصة على طير فأصابت أحدهم عن غير قصد، فهذا قضاء الله على صاحب الرصاصة، وقضاءٌ على من أصابته الرصاصة، إما إن أطلق أحدهم الرصاصة عمداً على أحدهم فهذا ليس قضاء الله من صاحب الرصاصة، وإنما هو فعل إختياري محاسب عليه، ولكنه قضاء على من أصابته الرصاصة . وبالتالي فإن كل هذه الأفعال مما يقتضيها نظام الوجود، ومما لا يقتضيها نظام الوجود من أفعال الإنسان التي ليس بمقدور الإنسان دفعها، هي التي تسمى قضاء . قال الله تعالى في سورة النساء 79 ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً قال الله تعالى في سورة السجدة 22 ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، إنا من المجرمين منتقمون وقال تعالى في سورة البقرة 117 : بديع السموات والأرض ، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون
سلسلة المعرفة الحلقة السادسة والعشرون
القضاء والقدر
الجزء الثاني
القدر: هو كل ما قدّره الله من خواص في الأشياء، فالحديدُ وصلابته، والخشبُ وقدرتُه على الاحتراق، والنارُ وقدرتُها على الإحراق، والماء وسيولته، ودخوله في حياة كل المخلوقات، والهواء وغازيته، والإنسان بطبيعة خلقه، وما جعله الله فيه من غرائز وحاجات عضوية، قدّرها الله فيه، فهذا هو القدر . وهو مما ليس له علاقة بأفعال الإنسان الاختيارية، إن أستخدم ما قدره الله في الأشياء من خواص، إن استخدمها في خير، أو أستخدمها في شر، فلا نقول أن الميل الجنسي مثلاً، مما قدره الله في الإنسان، إلزامي لفعل الفاحشة، أو المسدس إلزامي لقتل البريء، أو النار إلزامية للاعتداء بحرق أحدهم، أو حرق بيته . قال الله تعالى في سورة الفرقان 2 وخلق كل شيء فقدره تقديرا وقال تعالى في سورة القمر 49 إنا كل شيء خلقنه بقدر
أما اللوح المحفوظ:
فهو ما يتم فيه الخلط بينه وبين أفعال الإنسان الاختيارية والقضاء والقدر، فيقال عند حدوث أشياء من القضاء هذا مكتوب، وعند حدوث أشياء مصدرها فعل الإنسان وظلمه وسوء تصرفه وسوء إدارته وتدهور معيشته، هذا مكتوب، أو أن يقال عندما يقوم أحدهم بأفعال محرمة كالقتل أو الزنا أو شرب الخمر أو ظلم الزوجة والأبناء، هذا مكتوب، أو أن يقوم الحاكم بالحكم بغير ما أنزل الله هو ومن عاونه وناصره، ويتسبب في محاربة دين الإسلام، ويقوم بتدمير النهضة الصناعية أو الزراعية، والتسبب في الفقر والحاجة و ضياع بلدان المسلمين، وهتك أعراضهم وسفك دمائهم، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والعلم والصحة، ويتسبب في ظلم الناس وضياع الشباب المسلم والشابات، أو بالاستسلام للأعداء وتقاسم المصالح معهم، يقال عن هذا كله أنه مكتوب .
نعم إن كل ما يحصل في الكون هو مكتوب في اللوح المحفوظ، خيراً كان أم شراً، من اختيار العبد أو مما هو مقضيٌ عليه، نتيجة فعله أم نتيجة فعل غيره، فقد كُتب في اللوح المحفوظ أن العبد فلان قد عُرض عليه فعل الفاحشة، فاختار العفاف مخافة الله، أو مخافة الناس، أو حياءً، أو حمية لسمعته، فيسُجل في اللوح المحفوظ ما سيختاره العبد بإرادته ونيته وعواقب فعله وكل شيء.
هذا السجل وهذا التسجيل في اللوح المحفوظ هو علم الله المسبق عن خلائقه وأفعالهم وأقوالهم وتصرفاتهم وتجاوبهم مع رسائله ورسله لهم، وليس اللوح المحفوظ مقِرّراً تقريراً إجبارياً لما سيفعله أحدهم من ظلم أو اعتداء، أو ما سيفعله من خير وصدقة وحسن خلق وبر وطاعة، فكلمة مكتوب بجب أن تحمل مفهومَ أنه مقضيٌّ قضاه الله، وقد بينا ما معنى القضاء، وليس للإنسان دفع ما قضاه الله عليه، ولا يصح أن تحمل كلمة مكتوب مفهوم أن كل فعل يقع على الإنسان أو منه هو فعل إجباري، قد فرضه الله عليه وألزمه به، كما هو في اللوح المحفوظ .
ويجب أن نلفت النظر أن أفعال الإنسان الاختيارية لا تكون جبراً عن الله عز وجل، وإنما هي مما قرره الله على الإنسان أن أعطاه حرية التصرف بين الفعل والترك، وجعل عقله مناط التكليف، وفعله الاختياري مناط الحساب والعقاب، أي أن الله لا يقع في ملكه إلا ما يريد .
أي أن لو أخذنا مسألة الزواج وإنجاب الأبناء وعلاقتها بأفعال الإنسان الاختيارية، فاقتران شخصين بعينيهما بالزواج هو اقتران، قد أجتهد فيه الطرفان أو من يليهما باختيارهما، كما أراد الله للإنسان أن يختار الشيء أو يجتنبه، ولكن هذا الاختيار للزوجين مُتَمَّمٌ إذا أراد الله له أن يتم، ولن يتم إذا لم يرد الله ذلك، وكذا إنجاب الأبناء، إذا لم يكن ما يريده الله أن يحصل، فلن تنفع إرادة المنجبين ومحاولاتهم للإنجاب، ولو امتنعوا وأراد الله أن ينجبا طفلاً، فسيغير الله إرادة عبديه لأن يقوما بمحاولة الإنجاب، وينجبا بما أراده الله لهما، كل هذه الأفعال مما تم ومما سيتم ومما فُعل أو تُرك أو اُجّل قد علمه الله مسبقاً، وتسجّل في اللوح المحفوظ .
أما المحاسبة على الأفعال تكون فقط في إطار الأفعال الاختيارية للإنسان، أي في الدائرة التي يسيطر عليها الإنسان مختاراً، على مقياس ما أمر الله به عباده من النواهي والواجبات، كما ورد في الرسالات السماوية للشعوب والقرى المختلفة قبل الإسلام، وللناس كافة بعد رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام . ولا تكون المحاسبة بالثواب والعقاب فيما اختاره الله لعباده وأراده لهم مما ليس في ملكهم وقدرتهم على فعله، وعلى هذا الأساس تكون المحاسبة على جميع الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها، ولا يكون العذر فيما كان الإنسان قادراً عليه ولا يقوم به، ولا يكون العذر فيما يحصل على الإنسان من مصائب وكوارث من أفعال، هي في الأصل من صنع يده ونتيجة لإهماله أو سوء تقديره أو جهله، أو نتيجةَ مخالفته لأوامر الله صراحة، ثم يضْفيها على خالقه أو على القضاء والقدر والمكتوب، أو على غيره من الناس، أو على الحكام، أو على علماء السوء، أو على الزمان أو المكان .
فيجوع الناس ويموتون في بلاد ما، لأجل أنه لم يُطبّق حكم الله في الأنظمة الاقتصادية، ولأنه لم يتم تمكين الناس من ثروات الأرض بالكيفية التي أمر الله بها، ولم يتم توزيع الثروة عليهم، ولأنه استحوذ عليها أصحاب القوة عندهم والسلطان فمنعوهم عنها. ثم يشتكي الناس القضاء أو القدر أو المكتوب، ويرفعوا أيديهم متضرعين إلى الله أن يرزقهم. ولا نقول أن السبب في الفقر إذن هم الحكام وأصحاب السلطان، والناس بُرآء من الإثم، لا نقول ذلك لأن حكم الله قد نزل على الناس، وقد أرسل الله الرسل بالهدى والبينات، وأقام الحجة على الناس أجمعين، لذا فإن فقر الناس بهذه الكيفية ليس من قضاء الله أو قدره، أو لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ولكن السبب في ذلك أنهم هم الذين صنعوا الفقر لأنفسهم، برضاهم وبسكوتهم على الظلم وإعانتهم عليه، ومخالفتهم أمر الله
والزوجة والزوج يظلم كلّ منهما الآخر، ويتعديان على حقوق بعضهما، أو يأكل أحدهما حق الآخر، أو تعبث زوجة بعرضها أو بمال زوجها أو طاعته، مخالفين أوامر الله ونواهيه، ثم يسعيان إلى الطلاق، ثم يقولان قضاء الله وقدره، أو لأنه كتب في اللوح المحفوظ. والناس تشكي زمانها وأهل زمانها، وقد أهملوا أمر الدعوة والحقوق كما أمر الله ونهى، ثم يضفون ذلك على القضاء والقدر أو أنه مكتوب.
وأمريكا وأوروبا يهجمان على بلدان المسلمين فيعربدون فيها، ويسفكون الدماء ويهتكون الأعراض ويحرقون الحرث، ويلوثون البلاد بالأشعة النووية، وقد ترك الناس الدعوة للحكم بالإسلام والدعوة لإقامة الجهاد، وجيوش المسلمين نائمة، ويرى الناس ذلك من قضاء الله أو قدره، وليس لأنهم هم الذين بأيديهم تسببوا في هذا الوضع المريع، ثم يصلون ويصومون، ويرفعون أكفهم بالدعاء بأن يزيل عنهم هذا الكرب، الذي صنعوه بأيديهم .
قال الله تعالى في سورة يس 12 إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصينه في إمام مبين وقال الله تعالى في سورة الأنعام 3 وهو الله في السموات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون وقال الله تعالى في سورة 60 وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون
http://dralturki.blogspot.com/2009/04/blog-post_2902.html
د. محمد سعيد التركي
مدونة سلسلة المعرفة
http://dralturki.blogspot.com/