وصيّة ناهض منير الريس
ناهض منير الريس شمعة مضيئة انصهرت من أجل الشعب والقضية .. شعلة متقدة، شجرة جذرها أصلها كريم ثابت، وحلقة في سلسلة ممتدة. امتلك الرجل الصبر الجميل والجهاد الطويل وكان دوماً وطنياً متصدياً لقوى الباطل الجامحة، وقدم نموذجاً رائعاً وقدوة ماثلة بأن المواقف الوطنية غير قابلة للمساومة وألا مراهنة على فلسطين الوطن والإنسان. لقد حفر الرجل مكانته اللائقة ومنزلته السامية. يستحيل على الذاكرة أن تطمس ذكرى رجل وناقد وأديب وكاتب وفدائي ونائب ووزير ومستشار قدم نموذجاً شاخصاً وقدوة رائدة في كافة الميادين وفي جميع المحطات ومهما كانت المغريات والتهديدات.
ناهض منير الريس المولود عام 1937، والراحل في 13 إبريل 2010م, تخرج من جامعة القاهرة، وكان أحد مؤسسي الاتحاد العام لطلبة فلسطين بالقاهرة عام 1958، ثم عمل وكيلاً لنيابة مدينة غزة حتى عام 1965، وعندما شعر بالخطر المحدق بالأرض والقضية الفلسطينية ترك عمله وتطوّع ضابطاً في جيش التحرير الفلسطيني. من هناك تنقل في مواقع كثيرة في الثورة الفلسطينية، من تأسيسه للقضاء الثوري التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، لرئاسة العديد من محاكم المنظمة, وشغله منصب المدعي العام للكفاح المسلح في الأردن ومن ثم مدير القضاء العسكري في سورية. ولدى عودته إلى غزة مرة أخرى مع عودة السلطة الوطنية عُيّن مستشاراً بالمحكمة العليا ثم انتخب نائباً في المجلس التشريعي عام 1996 عن دائرة غزة وشغل منصب النائب الأول لرئيس المجلس وترأس لجنة صياغة القانون الأساسي، ثم عين وزيراً للعدل في العام 2003.
على الرغم من هذه الرحلة من الكفاح والعمل السياسي، إلا أن ذلك لم يثنه عن اهتماماته الأدبية والشعرية، حيث ألف العديد من الكتب في الأدب والسياسة وقصص الأطفال والشعر كـ«غناء إلى مدن فلسطين»، و«فلسطين في الزمن الحاسم» "وغزة في بطن الحوت" وكان يكتب روايته الأخيرة "البيارة الضائعة" حين صحبني في جولة إلى البيارة التي اغتالها الاحتلال في عدوان الفرقان, وقد صدرت الرواية قبل رحيله بيوم. وحدثني قبل أيام من رحيله عن كتابه الذي لما ينشر بعد "الشورى والديمقراطية" وأوصاني بالاهتمام به واعتماده للدراسة في معهد إعداد القادة في مؤسسة إبداع كمادة علمية منهجية رصينة. وكتب بعض المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية. علاوة على كتاباته في تقيم التجربة الفلسطينية كفتحاوي قديم انفصل عنها لًما تعمق الانحراف, وموقفه الوطني كان بينًاً في مرحلة التحول وفوز حماس في الانتخابات وموقفه في إجهاض الانقلاب في غزة في العام 2007 وكان الريس أحد كتاب الرأي البارزين في صحيفة "فلسطين" اليومية ومجلة"السعادة" الشهرية.
ناهض منير الريس كان قدوة وأنموذج في حياته الممتدة والزاخرة، فأبي منير المتواضع المعطاء الكريم الجواد النبيل الزاهد، عرفته غزة ومواطن اللجوء ومراكز البحث ومنتديات العلم والثقافة ومواطن البناء والإصلاح وميادين النزال والمواجهة. و تواجد رحمه الله بشكل دائم بين أحضان الوطن وتدفأ الوطن في قلبه الكبير. وقد جعل من بيته منارة لطلاب العلم والمثقفين والكُتاب وموئلاً للباحثين الجادين العاكفين على العلوم والبناء. ناهض منير الريس مدرسة كبيرة في التربية والعطاء والتضحيات, كان الأب الحنون فأجمل اللحظات يقضيها الأبناء والأحفاد مع جدهم أبي منير رحمه الله, الرجل الذي كان يقضي وقته في الطاعة والقراءة والكتابة والمتابعة السياسية الحثيثة.
كم ملك الرجل من مزايا وخصائل, حب الإسلام وفلسطين, ورقة القلب وقصب السبق وإنكار الذات, والثبات على المواقف. في الليلة الظلماء غابت الذروة الشماء وافتقدنا بدراً رحل وهو يساهم في بناء الوطن بيتاً للشموخ والكبرياء، ولمَا يكتمل البناء بعد, ولكنه رحل رحمه الله بعد أن ساهم في بناء مدرسة المقاومة والعزيمة، وأصبحا معلماً بارزاً وركناً عتيداً في قلعة فلسطين الوطن والقضية والإنسان, وكانت الروح التواقة التي ملكها ناهض منير الريس بادية في كلماته الأخيرة لشعب فلسطين وفي وصيته التي قال فيها:.
"هذه وصية المخلص لدينه ووطنه وشعبه وأهله ناهض بن منير بن محمد الريس أخطها وكلي أمل أن تكون موضع تأمل ونظر وعمل أحبائي الذين تتجه نحوهم عواطفي، بينما أكتب هذه الوصية.
إنني أوصي شعبنا العربي الفلسطيني بالمزيد من الصبر والإيمان، وأن لا تغلب عليه نزعة الإذعان للأمر الواقع بحكم العناء وطول المقاساة خلال قرن من الزمان. إن لنا حقوقاً لا أوضح منها ولا أقوى ولا أقدس، وقد قطعت يا شعبنا العظيم الأصيل شوطاً طويلاً في التمسك بها، وهذا ما يليق بالمؤمنين المجربين الذين جعلوا من أعمارهم ميادين رسالة والتزام واحترام للذات.
وإن دعوتي هذه إلى الصبر والإيمان والالتزام والاحتساب يجب أن تكون مقرونة بالحكمة والمرونة وحسن التقدير، وحذار أن يتولى أمورنا أولئك الذين أضعف مواقفهم ما انطوت عليه نفوسهم من أنانية وانتهاز، كما أنني أحذر من صنف أخر من الرجال الذين يفقدون الحكمة ويركبون رؤوسهم انطلاقاً من ضيق الأفق والحَرْفية والمعاندة على غير طائل.
فقضيتنا- تلك البسيطة الواضحة كل الوضوح أصلاً- باتت لها تعقيداتها بسبب القرنين التاسع عشر والعشرين اللذين تمكن خلالهما أعداؤنا من تسجيل إنجازات متفوقة على ارض. والتغلب على هذا الواقع يحتاج إلى مراكمة انجازات على المستوى الوطني والقومي والإسلامي على مراحل تكون تربية الإنسان جزءاً لا يتجزأ من انجازاتها.
لقد وضعت مجموعة أفكاري حول هذه الأمور في كتبي السياسية والشعرية والتربوية وسلسلة مقالاتي التي أقدمها لك يا شعبنا راجياً أن أكون قد قمت بجهاد الفكر والقلم بعد أن جاهدْتً بالروح والدم، ولم أبخل على قضيتنا بها جميعاً، إن وجود الإنسان على قيد الحياة قد يثير ضدّه الخصوم والمنافسين، ولكن بغيابي عن عالم الأحياء آمل أن تكون أفكاري موضع التفهم العميق."
ناهض منير الريس أحسن القيام بأداء دور القائد الوطني في كافة مراحل حياته من أجل فلسطين الجريحة، أكد ناهض منير الريس إنّ الأمّة في فلسطين قد عرفت طريقها بالمزيد من التوعية والمهام الفكرية والنضج والوعي. أثبت الراحل الكبير بأنّ الإنسان الفلسطيني لا يمنعه رغد العيش من النضال والتضحية كما لا يتعب أو يرهقه طول السير، فهو يتجدد مع الأيام، يتمرد على الجراح والحزن، والأكثر من ذلك يستطيع أن يبدع القوة.. يجمع الأشلاء ليحولها إلى عملاق يتحدى.
رحم الله علماً شامخا وقائداً وطنياً وكاتباً حاذقاً وألهم شعبنا وآله الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون...
10/11/2010
المصدر