الإنسان الجماهيري والإنسان العمومي

منذ إنشاء الدولة قديماً والخروج بالإنسان من حالته البدائية وانتقاله ليضع قدميه على طريق التطور الحضاري، أدرك القائمون على إدارة الدولة أن لكل إنسان ثلاثة مستويات للتعامل مع محيطه الضيق والواسع.

المستوى الأول، كونه شخصاً له أشيائه التي يحبها ويكرهها، فحبه لنوع من الموسيقى أو الطعام أو الألوان أو النساء، لا يستطيع من حوله أن يغيره. والمستوى الثاني، بكونه فرداً ينتمي لمجموعة طبيعية كالعشيرة أو الطائفة أو الجنسية، أو ينتمي لمجموعة اصطناعية كابن شركة أو مهنة أو حزب أو نقابة، والمستوى الثالث كونه مواطناً يتأثر بما يتأثر به جميع المواطنين.

وعندما يتم للإنسان التوفيق بين المستويات الثلاثة، فإنه يصبح مواطناً عمومياً يفكر ويعمل ويحاول التغيير بإبداء رأيه والعمل ضمن منظومة قوانين وضوابط تضعها الإدارة القائمة للدولة بآليات مختلفة بالتعاون مع ممثليات المواطنين، ويحدد حجم التعاون بين إدارة الدولة وممثلي المواطنين على مدى قوة هذا التمثيل ودقته.

وفي حالة غياب التمثيل الحقيقي والقوي للمواطنين، فإن الإنسان سيتراجع من كونه مواطناً عمومياً الى مواطنٍ جماهيري، وليس للدرجة العلمية أو الثقافة أو حتى الهوى الأيديولوجي أي تأثيرٍ يُذكر. فيصبح كل مواطن مشروعاً لخلية نائمة تستيقظ عندما تتهيأ لها الظروف.

الإنسان الجماهيري (Mass Man) ظِلٌ معزولٌ ومسكونٌ بقلقه، وهو النقيض التام ل (الإنسان العمومي Common Man) الذي تهيئ له أوساط المجتمعات الراقية حرية العمل.

من الخطأ الحديث عن الإنسان الجماهيري بوصفه مواطن، فهو مجرد شخص يقيم هناك. ومن الخطأ أن يُحاكم على أنه جاهل، فإنه عندما يُستَفَّز سيعلن أنه سيتنازل عن الكثير مما آمن به وتعلمه في الكتب عن القيم السامية والعُليا، فالتخريب والفوضى والانحراف والاستعداد للتضحية القصوى حتى في الروح، وهذا ما نشاهده في استعداد الكثير من الشباب لتفجير أنفسهم في مناطق كثيرة من بلداننا العربية...

يتراجع الاستماع لصوت الوعاظ والمعتدلين، وستصنف أصواتهم بأنها أصوات متخاذلة ومُعيقة لحماس هؤلاء الشباب. وعندها تكون البيئة خصبة لنمو التطرف وبذور الإرهاب.

إن مهمة تحويل المواطن من إنسان جماهيري الى إنسان عمومي، تقع بالدرجة الأولى على الحكومات وعلى النُخب الفكرية، ونقل المواطن من مجرد رقم أو خلية جماهيرية نائمة الى مواطن يشترك في مناقشة أمور وطنه كونه شريكاً حقيقياً في هذا الوطن أو ذاك... وهذا يتطلب رصفه في منظمات مجتمعٍ مدني حقيقية لا مجرد عناوين و(قارمات) لمباني تحمل أسماء منظمات مجتمع مدني، لكنها خاوية من الداخل..