أكياس الرمل الملقاة من الأجواء في عام 1917، رسمت خرائط: "العراق"، و"سوريا"، و"الأردن"، و"لبنان"، وقذائف الطيران الأميركي الملقاة من الجو في عام 2014، سترسم خرائط: "كرد ستان"، و"خلافة ستان"، و"شيعة ستان"، و"عرب عراق ستان"، و"عرب سوريا ستان"، والحبل على الكرار بقدر الإمكان، وبقدر ما تتيحه ظلمات عقول وأرواح وقلوب المتناحرين على الأرض، تنفيذا لإرادة قذائف الطيران الأميركي المنهمر على رؤوسهم من السماء (!!)


إلى الذين يطبلون ويزمرون ويرقصون لقصف داعش من قبل الأميركان، نقول:
خففوا من اندفاع فرحتكم، فأنتم تقفون على الأرض، وتسمعون أصوات القنابل فقط، لكنكم لا تعرفون حدود الخرائط التي ترسمها نيرانُها (!!)
حاولوا أن تنظروا إلى تلك القاذفات من أعلاها، كأن تمتطوا صهوة قمر صناعي يرصدها بكل تفاصيل فعلها وما يحدثه على الأرض (!!)
"داعش" تغولت أكثر مما ينبغي لها بعد أن تموضعت قبل التغول بما كان يكفي لتسهمَ على نحوٍ ملائم في ترسيم خريطة الاحتراب والاقتتال المقرَّرة، فغدت خطرا على تلك الخريطة ذاتها (!!)
"الطائفيون الشيعة" تهلهلوا أكثر مما ينبغي لهم، بعد أن بالغوا في طائفيتهم في بلد يجب أن يكونوا فيه طائفيين – أميركيا – ولكن إلى حدٍّ معقول لا يستنفر ضدهم باقي الطوائف، فأصبحوا يعانون خطر التشرذم والانقسام استنادا إلى السبب نفسه الذي جمعهم، بعد أن ظهروا وكأنهم سيفقدون فيه كلَّ شيء، في مواجهة تحالفٍ "سني عربي كردي" التقى لأول مرة ضدهم، ما كان له أن يلتقي هو أيضا إلى هذا الحد من وجهة النظر الأميركية (!!)
"العرب السنة المعتدلون"، وصلوا إلى آخر المنحدر، فلم يعد بين أيديهم شيء يفقدونه أكثر مما فقدوا، فغدوا مستعدين للتحالف مع الشيطان إذا لزم الأمر، وأصبحوا يتعاملون بلغة "عليَّ وعلى أعدائي"، إلى درجة أن داعش أصبحت حليفا ممكنا ولا غبار عليه لمواجهة الخندق الطائفي الشيعي المتغول (!!)
"الأكراد" ضعفوا في جانب واستقووا في جانب آخر. تضخم شعورهم المبكر بكردستانيتهم عندما انهار جيش الطائفيين الشيعة أمام داعش، فظهروا قادرين على حماية ما تبقى من عراق المالكي، وعادت لتنخفضَ وتتضاءل هذه "الكردستانية" وترتعب عندما انهاروا هم أنفسهم أمام هؤلاء في سدِّ الموصل، وعلى خطوط التماس الهامة بين "بلاد الكرد" و"بلاد العرب"، فغدوا مرتبكين مشتتين خائفين على مشروعهم، ولا يعرفون هل هم أقوياء أم ضعفاء، وهل ينبغي لهم أن يستمروا إلى آخر اللعبة في مواجهة من أصبحوا أقوياء في مواجهتهم، وإذا فعلوا ذلك فكيف يبررون قوتهم هناك، وضعفهم المعيب هنا أمام هذا الغول المسمى "داعش" (!!)
لقد غدت الخريطة – وبعض أطرافها يسيح على بعضه الآخر – فوق قدرات وطموحات ومؤهلات تلك الأطراف ذاتِها، فلم تعد مؤتمنة على إدارتها على النحو الذي يعيدها إلى مساراتها المقرَّرَة في واشنطون، فأصبح من الضروري لصاحب الخطة والقرار، وهو الممتنع عن التدخل طول الوقت بعد أن اكتفى بما حفره في تلك البلاد من خنادق متناحرة خلال سنوات احتلاله العشر، أن يغيرَ رأيَه ويتدخل ليعيد كلَّ شيء إلى سابق عهده، بعد أن بدا أن الأمور قد تُفْلِتُ من الزمام، بسبب حماقات الأدوات من جهة، وطموحات الصنائع من جهة أخرى (!!)
ولهذه الأسباب مجتمعة:
جاءت القاذفات الأميركية لتقول لداعش، أن عليها أن تقتنعَ بأن دولة خلافتها تقف عند "الخط الأحمر الأول الكردستاني"، و"الخط الأحمر الثاني البغدادي/نسبة إلى مدينة بغداد وليس إلى خليفتهم المزعوم"، وأن بعضا من النفط إذا كان ضروريا لتأمين بعض المال اللازم لحروب هذه الدولة الفتية المتعطشة إلى الدماء، فيتم غض الطرف عنه، فإن التحكُّمَ في رقاب العراقيين جنوبا ووسطا وشمالا، بتهديد مصدر مائهم، أمرٌ ليس داخلا في صلاحيات "الدواعش"، ولا في حسبات مقومات دولتهم (!!)
وجاءت الطائرات لتقول للأكراد، صحيح أننا لا نقبل بأن تُمَسَّ حدودكم وتذوب في حدود "دولة البغدادي" الصاعدة، لكنكم أسأتم الأدب أنتم قبل ذلك، وتسرعتم في التمهيد لضم ما لا نقبل بأن يضم إلى دولتكم بهذه الطريقة السريعة والمجانية، وقبل أن يستنفذَ كلَّ إمكانات الاحتراب المتاحة في العراق الأشم، فأَعْلِنوا أنكم ستُسَلِّمون إلى الحكومة المركزية، ما حصلتم عليه بعد انهيار جيش المالكي، وعلى رأس كل ذلك "كركوك" وما يتعلق بكركوك (!!)
وجاءت الطائرات لتقول للطائفيين في بغداد، لن تعودوا إلى سابق عهدكم في التغول، فيكفي أن تضمنوا ألا أحد يشكك في أنكم الرقم الأول في البلاد، وأن علاقتكم بإيران تسمح لكم بهذا الوضع، لذلك لا تتدخلوا فيما نرسمه للعراق بقاذفاتنا، فداعش وكردستان لعبتنا وحدنا، فجنبوا جيشكم أيَّ تدخل في الأعمال القتالية الدائرة هناك، واكتفوا بموقف المتفرجين، فإيران نفسها لا تريدكم أكثر من متفرجين في مجريات الترسيم الجديد، لأنه ترسيم يناسب إستراتيجياتها وطموحاتها الإقليمية التي نوافقها عليها. إننا لا نريد إزعاجات خلال عملية إعادة الأمور إلى نصابها (!!)
وجاءت الطائرات لتقول للعرب السنة المعتدلين: "ثوار عشائر، وفلولا بعثيين، وبقايا جيش صدامي"، لا تقلقوا كثيرا، فسوف نحجِّم داعش لكي تعود المعادلة العربية السنية في معظمها في أيديكم، لكننا لن نسمح لكم بأن تحيِّدوا داعش عن أن يكون لها نفوذ يشارككم معادلة مواجهة طائفيي بغداد، فأنتم معتدلون بأكثر مما ينبغي لعراقي عربي أن يكونه، وتعايشيون بما لا يناسب ما يُعَدُّ للعراق من خرائط، إذن ستتسلحون وتقوَوْن، وسنحميكم مؤقتا من بقايا جيش المالكي ريثما تصبحون قادرين على حماية الجزء الخاص بكم من الخريطة لذلك سنمنعه من التدخل ونحن نرسم حدود الخريطة، وستكون داعش لعبتكم مادمتم قادرين على عدم تهديد مصيرها، وإلا فإننا سنعيدها سيرتَها الأولى وعلى الباغي منكم تدور الدوائر (!!)
وهكذا بدأت اللعبة الأميركة من الجو، بعد أن حُدِّدَت للَّعبة سيرورتَها على الأرض، لتعيدَ لملمة من تفلتوا من حدود خرائطهم، استقواءً غير مبرر، أو انهيارا غير متوقع، أو ارتباكا غير مضمون، أو ضعفا غير كاسر، أو تشتتا غير آمن، أو طمعا مبكرا غير موَقَّتٍ بشكل سليم، كي يعودوا إليها (!!)
وأخيرا، تطالعنا الخلاصة التي تُيَسِّر علينا سُبلَ الفهم، في آخر تصريحات وقراراتٍ للرئيس الأميركي "باراك أوباما"، والتي ما تزال طازجة:
أولا "التصريح": "إن الولايات المتحدة تَعِدُ بإستراتيجية بعيدة الأمد لمحاربة داعش" (!!)
أي أن "داعش" ليست قضية عابرة، ولا تزيحها من الطريق غارات جوية هدفها ضبط حدود النزاعات المقرر إدخال العراق في أتونها، وإنما هي قضية تحتاج إلى إستراتيجيات، ومديات زمنية طويلة، لأنها لن تتمَّ إلا في إطار "لعبة سياسية" كبيرة لابد من أن تنجزَ مهماتها على أحسن وجه (!!)
وعندما يأتي هذا التصريح في سياق قيام الرئيس "أوباما" باستعراض ما قامت به طائراته في العراق، مجسِّدا إياه في أنه أعاد سد الموصل إلى السيطرة الكردية، ودافع عن أربيل من أن يتم اجتياحها، وحمى المدنيين المتضررين الذين كانوا يعانون خطر الإبادة، نتأكد من طبيعة الدور الجغرافي والديموغرافي الذي تدخلت الطائرات الأميركية للقيام به، ليصبَّ من جديد في خدمة الخريطة المتوخاة، وذلك في تناغمٍ تامٍّ مع "الفُرْجَة الإيرانية" التي مهما كان اهتمامها بالعراق وبنفوذها فيه وبهيمنتها عليه، وبتوجيهها لسياساته الداخلية والخارجية، فإنها تعي جيدا أن نفوذَها ذاك لن يتحقق بغير رضا الأميركان، وفي غير عراقٍ ضعيف مهلمهل يحتاجها، لا في عراق قوي موحد تهابه وتحسب له ألف حساب مهما كانت قوتها الإقليمية، التي لا تتيحها إلا الظروف العربية نفسُها التي جعلت وما تزال تجعل إسرائيل "بعبعا قويا" وقوة إقليمية (!!)
ثانيا "القرار": "منع الطائرات الأميركية التابعة لكل شركات الطيران المدنية الأميركية والمُشَغِّلين الجويين الأميركيين من عبور الأجواء السورية، بسبب ما تمت الإشارة إلى أنه امتلاك المسلحين السوريين لصواريخ مضادة للطائرات، تشكلُ خطرا حقيقيا على الطيران المستخدِم لتلك الأجواء" (!!)
ويجعلنا هذا القرار نستذكر تصريحا سعوديا سابقا مرَّ عليه أكثر من شهرين، كان بمثابة مؤشِّرٍ خطير جدا مرَّ عليه – من يطلق عليهم "المحللون السياسيون" – مرورَ الكرام بلا أدى توقف عنده، رغم دلالته الهامة التي أشرنا إليها آنذاك (!!)
وهو التصريح الذي أشار إلى أن السعودية سوف تدعم المعارضة السورية بأسلحة مضادة للطائرات على شكل صواريخ محمولة على الكتف سوف تحصل عليها من أفغانستان لتواجه البراميل المتفجرة التي تلقي بها طائرات النظام السوري (!!)
قلنا عندها أن هذا مؤشرٌ على سماح الولايات المتحدة بتسليح المعارضة السورية عبر السعودية من الباطن بسلاح يُلَجِّم من حدة استخدام النظام السوري للطائرات، كي تتمكن المواجهات الأرضية من تكريس الخريطة المستهدفة بسهولة، بعد أن طال النزاع على نحوٍ يكفي لأن يتمَّ البدء في استكمال الخريطة السياسية المتوخاة، خاصة مادام الوضع العراقي يتحرك في هذا الاتجاه في تماهٍ كاملٍ مع ما يحدث في سوريا (!!)
ومع ذلك فليست هذه الإستراتيجية الأميركية قدرا محتوما لا مفر منه، فمواجهتها ليست معجزة (!!)
ولكن تلك المواجهة تتطلب الاعتراف بموضوعية هذه الإستراتيجية، وتقتضي وضعَ مشروعٍ مقابلٍ لها، يقوم على وحدة الوطن أولا، وليس على حماية الطائفة أو الفرقة أو الفئة أو الاثنية أولا (!!)
فالوطن الموحَّد هو الذي يحمي كل طوائفه وفرقه وإثنياته (!!)
أما الطوائف والإثنيات المتناحرة، فإنها أعجز من أن تحميَ نفسها، لأنها ستكون أعجز أصلا من أن تؤسِّسَ وطنا يحضنها، باعتباره وطنها كلها، وليس وطنا لبعضها على حساب "رعوية" الأخرى (!!)