ما فتئ الأخ الكريم والأستاذ المبدع أحمد الشقيري يتحف عقولنا ويمتّع نواظرنا في كلّ موسم رمضانيّ بكل جديد وبهيّ ،ضمن برنامجه المهذّب المشذّب: ( خواطر )
وسرّ امتلاك هذا البرنامج للقلوب ، وأخذه للعقول والألباب بعد توفيق الله تعالى، أنه اقتبس منهجاً حركيّاً مستوحىً من القران الكريم ! حيث انطلق صاحبُنا في برنامجه الشهير هذا من مربّع ( كيف ) حين يقف على تفاصيل تجارب الآخرين وإنجازاتهم ويريكها رأي العين ، ومربّع كيف هو المربّع الذي أراد القرآن الكريم من الأمة أن تنطلق منه في حاضرة دعوتها للناس ونهضتها بجموع البشريّة ! وهو المربّع الذي حينما انحاز إليه أجدادُنا الأوائل قدّموا للبشريّة حضارة قال عنها المفكّر (سارتر) : ( لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخرت حضارة أوروبا عشرة قرون ) ذلك أنه مربّع تطبيقيّ عمليّ وليس مجرد تنظير شفويّ! وتوضيح ذلك على النحو التالي : ان الله تعالى قد حثّنا على العمل من خلال قوله : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) (التوبة105) فالآية القرآنية الكريمة تريد منّا أن ننخرط في سلك العمل لا أن نزلق في وديان الجدل !
ومن تأمّل الناس في مسعاهم في هذا الحياة رأى أنه ثًّمّ مربّعان يتجاذبانهم فينطلقون منهما في مسعاهم ذاك ألا وهما :( مربّع ماذا ؟) و( مربّع كيف ؟ ) .
أما مربّع ( ماذا ) فهو يمثّل الفكر التشغيلي الذي يستنزف الجهود والطاقات على حساب الجودة والنوعية والإتقان ! المهم أنّ هناك عملاً تحفّه جَلَبَة وضوضاء ! في حين أصحاب مربع (كيف) تجدهم يقفزون في عملهم قفزة تتجاوز مربع ماذا ؛ إذ هم يصدر منهم العمل لكنهم يوقعونه تحت مظلّة الجودة و الإتقان! وهذا ما أراده منا القرآن الكريم بقوله : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) (يونس14) وقوله : (عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف129) فلم يقل جلّ شأنه ( لننظر ماذا تعملون ) إنما قال : ( كيف تعملون ) ذلك أنه ليس المندوب إليه في هاتين الآيتين القرآنيتين الكريمتين هو العمل وحده !!! بل وعلى أي وجه من الجودة والاتقان ينبغي أن يصدر هذا العمل ؟؟!! تماماً كما قال النبيّ عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )
لذا قال ابن خلدون – رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى ( كيف تعملون ) : أي ( كيفية إنزال أحكام الشريعة على وقائع الاجتماع ) فأحكام الشريعة حوت بين ثناياها السعادة للبشرية ، وتجسيد هذه السعادة في ربوع المجتمعات يتطلّب براعة وإتقاناً في أساليب نقلها ووسائل تطبيقها على أرض الواقع ...
وتأمّل معي قول ابن عاشور- رحمه الله تعالى - حيث قال في تفسير هذه الآيات : ( كيفية الانتفاع بما أوجده الله لهم في هذه الأرض التي سخّرها لهم )
في ضوء ما سبق : نستشفّ أن مربّع كيف يحمل بين طياته منهجيتين نيّرتين ألا وهما :منهجيّة كيفيّة الانتفاع بوقائع الاجتماع البشري ؛ إذ لا يخلو تجمّع بشريّ من فائدة ولو في أساليب تعاطيه مع حركة الحياة الدائبة ، ولما كانت ( الحكمة ضالة المؤمن فأنّى وجدها فهو أولى بها ) فقد توجّب علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين وهم يمتطون ركْب المدنية ! ومنهجيّة كيفية الانتفاع بما سخّره الله تعالى لنا في السموات والأرض .
هذا وقد حفلت الآيات القرانية ذات المآرب والأغراض الشتى في لفت الأنظار الى الانطلاق من مربّع ( كيف ) ذلك أنه من جهة هو : مربّع التفتّح العقلي والتـوقّد الذهنيّ الذي يؤول بصاحبه إلى الترسيخ الايمانيّ ! ومن جهة أخرى هو مربّع الازدهار والتقدّم النوعيّ ! الذي يسهّل على الناس وييسّر لهم الاستفادة والإفادة مما أنعم الله تعالى به عليهم ! وكل ذلك من مقاصد الشريعة السمحاء !
أما كون ( كيف ) مربّعَ التفتّح العقليّ والترسيخ الإيمانيّ في النفوس : فلو تأمّلت الأغراض التي جاءت بها (كيف) في الآيات التالية لوجدت أنها ترجمة عمليّة للتفتّح العقلي المنشود ! إذ تجدها تأتي :
لاستخلاص الفكرة كما في قوله تعالى : (( ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجا ) (سورة نوح 15،16)
ولاقتناص العِبْرة كما في قوله تعالى: ( ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون ، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمّرناهم وقومهم أجمعين )(النمل50،51)
ولاستثارة العَبْرة كما في قوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) (النساء 41)
ولاستشعار النعمة : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت ) الغاشية (17-20)
ولاستظهار الرحمة : ( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير ) (الروم 50)
ولاستحضار القدرة والحكمة قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلقَ ثم الله ينشئ النّشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (العنكبوت20)
ولتحقيق الطمأنينة القلبية : ( وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قل بلى ولكن ليطمئن قلبي ) (البقرة 260)
وللتبصرة والذكرى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ، تبصرة وذكرى لكلّ عبد منيب ) (ق 6،7)
ولاستحضار العظمة : ( ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظلّ ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) (الفرقان 45)
ولاستشعار القُدرة : ( وانظر الى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً ) (البقرة 259)
ولتوخّي المسرّة : ( قال ربّ أنّى يكون لي غلام وكانت امراتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيّا ) (مريم 8)
ولتوقّي المَعَـرّة : ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) (التوبة 7)
ولتلافي المَضَرّة كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمّة) (التوبة8)
ولتجلية المناقب لأهل الإيمان : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء ) (ابراهيم 24)
وللتشنيع على مثالب أهل الكفر والعصيان : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ) (البقرة28)
وغيرها من الآيات ذات الدلالات !
وأمّا كونها أي ( كيف ) مربعاً للازدهار والتقدّم النوعي: فحسبك الآيتان اللتان تصدّرتُ الحديث بهما وهما:
قوله تعالى : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعمــــــــــــــلون ) (يونس14)
وقوله تعالى : (عسى ربكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون )(الأعراف129)
في ضوء ما سبق فثَمَّ فرق ... وفي كلٍّ خيـْر :
ثمّ فرق بين من يعرض على الناس قائمة من الأخلاقيات التي يجب أن يمتثلوها ، وبين من يبيّن لهم كيفيّة امتثالها !
وبين من يحذّر الناس من قوائم من الشرّ عليهم أن يجتنبوها ، وبين من يبصّرهم بكيفية مجاهدتها وانتشال أنفسهم من وهْدتها !
وبين من يحضّ الآباء على تربية الأبناء ، وبين من يملّكهم منهجيّة عمليّة تنوّرهم بكيفية القيام بتربيتهم وتأديبهم !
وبين من يهيب بالناس أن يهذّبوا مشاعرهم ويلجموا فورة غضبهم، وبين من يعلّمهم كيفيّة إدارتهم لمشاعرهم !
وبين من يحّث طلاب العلم على وجوب بذل الهمّة ، وبين من يهديهم سبلهم بكيفيّة إنجاز المهمّة !
وبين من يشدّد على ضرورة اغتنام الوقت ، وبين من يزوّدهم بمهارات لكيفية إدارتهم لأوقاتهم !
وبين من يُنَظّر للعمل المؤسساتي ، وبين من يقدّم منهجيّة متكاملة تبيّن كيفيّة النهوض والتغيير في المنظمات والمؤسسات !
وبين من يهيب بحلّ الخلافات وفضّ الخصومات ، وبين من ينسج منظومة عمليّة تبيّن كيفيّة حلّ النزاعات وتطويق الخلافات !
وبين من يدعو إلى الإصلاح السياسيّ ، وبين من يفهّم الناس كيفية ممارسة هذا الإصلاح !
وبين من يدعو الى الحفاظ على خيرات الأمة ومقوّماتها ، وبين من يضع لهم الخطط الفاعلة التي تبيّن لهم كيفيّة استثمارها والحفاظ عليها !
وبين من يحثّ على نهضة اقتصادية ، وبين من يقدّم البرامج البارعة التي تبيّن كيفية تحقيق هذه النهضة !
وبين من يحذّر من الفرنجة والتغريب الثقافي والاجتماعي ، وبين من يصوغ الخطط القويمة التي توضّح كيفية استخلاص ولاء الناشئة وتحقيق انتمائهم الأصيل لهذه الأمة وشرعتها !
باختصار فلننهج نهج سيدنا ونبيّنا المصطفى المختار – عليه الصلاة والسلام - حين صلّى وقال لصحبه الكرام : ( صلّوا كما رأيتموني أصلّي ) وحينما حجّ وقال لصحبه وهو في غضون التلبّس بالنسك : ( خذوا عني مناسككم )
فعلينا أن نتلبّس - كقدوة عمليّة- أو نعرض حال من يتلبّس - كصورة تطبيقيّة - بمحاسن الأمور ومعاليها فنبيّن للناس حال من غشي هذه الأمور ومآله !
وليس من نافلة القول أن انوّه في هذا المقام بجهود الأستاذَيْن الكبيرين الدكتور طارق السويدان والدكتور محمد الثويني على مواصلتهما إبداعاتهما انطلاقاً من المنهجيّة التي نحن بصدد الحديث عنها – منهجيّة مربّع كيف -! فكل تلك الجهود وجهود أستاذنا الشقيري تخرج من مشكاة واحدة ! فنعمّا جهودهم وبوركت مجهوداتهم !
بقي أن انوّه في خاتمة هذا المقال أنه لا ينبغي أن يُؤخذ في هذا السياق ( بمفهوم المخالفة ) فيظنّ ظانّ أن في إطرائي على منهجية تلكم الكوكبة المتميّزة لمز بمنهجيّة غيرهم من ذوي الجهود الخيّرة !! بل لكلّ منهم في ميدانه صولة وجولة وبصمة إبداع، وذِكْر طيّب وصيت جميل خليق بأن يُنشر ويُذاع !
وبعد هذا الاسترسال الذي جاء من باب إتمام الفائدة وإثراء العائدة فإني أقول لأستاذي أحمد الشقيري ولكلّ من لفّ لفّه وحذا حذوه من إخوتي وأساتذتي المصلحين والمعلّمين والدعاة : سِيروا على بركة الله ، ووففقكم الله تعالى ورعاكم، وسدّد على الحق خطاكم ، وأحسن متنقلّبكم ومثواكم !