منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 22
  1. #1

    مقالات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية ...

    بسم الله الرحمن الرحيم
    سلام الله عليكم ورحمته جل وعلا وبركاته
    وبعد ...
    أهدي إليكم جميعا أهل الندى وعالي الهمم باقة من مقالاتي النقدية حول أدب السيرة الذاتية الإسلامية، ولي عظيم الشرف أن أنثر حروفها عطرا وطيبا في رحاب هذه الواحة الثقافية المباركة، عسى أن تفيد في يسير أو كثير، وعسى أن تكون من جنس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ...
    ***
    بواعث كتابة أدب السيرة الذاتية الإسلامية قديماً
    (المقالة الأولى)
    لقد ترك لنا العرب المسلمون القدماء سيرا ذاتية كثيرة، حفزتهم عوامل أو بواعث ذاتية وموضوعية مختلفة ومتشعبة، فضلا عن كونها تضيق بحصرها عدا، وقد ذكر غير واحد من الباحثين والنقاد بعضا منها ومن خصائصها، التي تميزها عن غيرها ولم يختلفوا في شانها، ونحن في سياق هذا المحور سنحاول الكشف عن المزيد من البواعث والخصائص التي ارتبطت بالسير الذاتية الإسلامية قديما، مع التذكير بما سبق وكشفت عنه الأبحاث والدراسات السابقة من بواعث وخصائص.
    من الممكن أن نصنف مختلف بواعث كتابة السيرة الذاتية الإسلامية القديمة إلى ثلاثة أنماط هي:
    أولا: البواعث الإخبارية، أو البواعث التاريخية، أو الصنف الإخباري البحت، وهي مجموع البواعث التي تنحو بأصحاب السير الذاتية إلى تحقيق منفعة خارجة، و تدفع بهم إلى تسجيل تجاربهم، وأخبارهم، وذكرياتهم، بالإضافة إلى ما عاينوه من مشاهد، وعاشوه من مواقف دون النفاذ إلى عمقها، وهي بالتالي عبارة عن حوافز على التأليف، تلزم الكاتب بفعل الأخبار فقط، ونقل معلومات معينة، أو تدوين وقائع تاريخية.
    ومن الأعمال القديمة التي تندرج في دائرة هذا النمط الإخباري التاريخي، نذكر ما خلفه كل من ابن سينا، وعبد اللطيف البغدادي، وعلي بن رضوان المصري من حديث حول ذواتهم، ومثل هذا الضرب من الكتابة كثير في المعجم الذي ألفه ياقوت الحموي، وخص به الأدباء والنحويين.
    ثانيا: البواعث النفسية والروحية، وهي ملتقى الأبعاد الإنسانية الثلاثة، ونقصد بها: النفس، والروح، والفكر، وقد نختزل هذا اللون من البواعث في ظاهرة النزوع إلى تصوير الصراع الروحي، من خلال الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة، وتصوير الحياة المثالية والفكرية.
    ومن النماذج التراثية التي تنطبق عليها مواصفات هذا النوع من البواعث، نذكر: "السيرة الفلسفية" التي كتبها محمد زكريا الرازي، وأراد من خلالها التعبير عن اتخاذه موقفا ذاتيا من الحياة، ونذكر كذلك رسالة لابن الهيثم، المتوفى سنة 430 هجرية، في تصوير حياته الفكرية.
    ثم إننا نستحضر في ذات السياق كتاب"الاعتبار" لصاحبه أسامة بن منقذ، المتوفى سنة 574 هجرية، و الذي سخره لاسترجاع الذكريات، ولتمكين قرائه من أخذ العبرة، كما نخص بالذكر أيضا كتابي: "طوق الحمامة في الألفة والآلاف"، لصاحبه علي بن حزم، المتوفى عام 454 هجرية، وقد روى فيه ما عاناه في شبابه من تأثير الحب والعشق وما خلفاه في نفسه من آثار، وأراد من خلال ذاته أن يحيط عن طريق التجربة، والملاحظة، والاستقراء بظاهر وباطن العاطفة التي تنشأ بين الجنسين من بني الإنسان.
    ولابن حزم مؤلف آخر يحمل عنوان "الأخلاق والسير في مداواة النفوس"، ومن الأعمال القديمة التي ضمنها أصحابها التعبير عن الثورة، والصراع الروحي، ومناجاة النفس، نستحضر ما تركه أبو حيان التوحيدي محفوظا في رسالته "الصداقة والصديق"، التي عبر فيها عن ثورته ومعاناته مع الفقر والاغتراب بين الناس، ونذكر أيضا ما خلفه أبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هجرية، وأبو العلاء المعري المتوفى سنة 449 من الهجرة، وأبو بكر الخوارزمي المتوفى سنة 232 في بعض رسائلهم.
    ودائما في سياق النمط الثاني من بواعث الكتابة، نذكر مؤلف "الفتوحات المكية" لمحي الدين ابن عربي المتوفى سنة 638 من الهجرية، الذي يعتبر إلى جانب رسالته في مناصحة النفس نموذجا للحديث الدقيق والعميق مع النفس، ونستحضر كذلك كتاب "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 من الهجرية، وفيه اجتهد المؤلف في عرض و تحليل صراعه الروحي، ومحاسبته لنفسه عما اقترفته من آثام، وما بذله من جهد وسلكه من سبيل لتطهيرها والسمو بها، ويعد هذا الأثر من بين السير الذاتية التي كان القصد من تأليفها ـ نزولا عند طلب الغير، كما رأينا مع ابن حزم الأندلسي ـ أن تكون تجربة، ووثيقة روحية وفكرية تعرض على جمهور القراء لينظروا فيها طلبا للاهتداء إلى مجاهل النفس، والاستفادة من تجارب الغير.
    ثم نذكر شمس الدين محمد بن طولون، الذي تحدث عن نفسه في رسالة مستقلة، سماها "الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون"، ويظهر أن إحساسه بكون حياته قد أشرفت على النهاية، كان باعثا له في الأصل على كتابة رسالته، وثمة ضرب آخر من السير الذاتية ينتسب إلى النمط الثاني من بواعث الكتابة، ونعني به السير الذاتية التي يهدف أصحابها إلى ذكر الأسباب التي جعلتهم يعتنقون الإسلام، ويتركون ما كانوا عليه من دين في السابق من حياتهم، وممن كتبوا في هذا الباب نذكر السموأل بن يحيى المغربي، المتوفى عام 570 من الهجرة، الذي ألف كتابا سماه: "بذل المجهود في إفحام اليهود"، بسط في فصل منه تجربته الروحية تحت عنوان: "إسلام السموأل بن يحيى المغربي و قصة رؤياه النبي صلى الله عليه وسلم"، والأشواط التي قطعها وهو في طريقه إلى اعتناق الإسلام، ويعد من العلماء القلائل الذين كتبوا سيرتهم الذاتية.
    ونصادف من الآثار الأدبية القديمة ما قصد به مؤلفوه الغاية التعليمية، وإسداء النصح، والتذكير، والتوصية بالحق وبالصبر، أو سعوا به إلى تصوير الحياة المثالية، والتحدث بنعمة الله عز وجل، مثل كتاب: "لطائف المنن والأخلاق في بيان وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" لصاحبه عبد الوهاب الشعراني المتوفى سنة 973 من الهجرة و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" لعبد الرحمان بن الجوزي، المتوفى سنة 597 من الهجرة، ونستحضر كذلك مؤلف عبد الله بن بلقين، المسمى "التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة"، والذي كتبه تأريخا للأحداث، ودفعا للتهم، وتفسيرا للسلوك، وتبريرا للمواقف، ثم تحقيقا للتبعة على الوجه الصحيح، وذلك بعد أن فرضت عليه الإقامة الإجبارية في "أغمات" بالمغرب.
    ثم نذكر كتابي الشاعر عمارة اليمني، وهما: "النكت العصرية"، و"سيرة المؤيد داعي الدعاة"، وفيهما تحدث عن نفسه، ثم إن جميع من أقدموا على كتابة تواريخهم الخاصة، بناء على نفس المبدأ والباعث، وعملا بمقتضى الآية القرآنية الكريمة في سورة الضحى، لم يكونوا راغبين في الإشادة بأنفسهم أو مدحها، و إنما أرادوا بتأليفهم أن يذكروا فضل الله تعالى عليهم، وأن يتحدثوا من خلالهم بنعمه، فنظروا إلى الكتابة في هذا الباب على أنها من جهاد النفس، وأحد أسباب ومناهج العبادة التي تقرب إلى الله عز وجل.
    لقد اتخذوا حديثهم عن أنفسهم لسانا يفصحون به عن جزيل الشكر لخالقهم، وعن منتهى الاعتراف له بالفضل والجميل، فلم يتخذ كل واحد من هؤلاء سيرته الذاتية رياء و مباهاة؛ بل أراد لها أن تكون حمدا لله الذي من عليه بالنعم التي لا تعد و لا تحصى.
    ثالثا: البواعث الاجتماعية: وهي بواعث تبريرية، أو تفسيرية، أو تعليلية، أو اعتذارية، تستمد قوتها من الوسط الاجتماعي، أو بالأحرى من تأثير الجماعة الإنسانية، التي تترقب دفاع المتهم عن نفسه، وتبرير مواقفه، أو تفسير أعماله وأقواله، أو تعليل آرائه المعلنة.
    وقد كتب حنين بن إسحق ، المتوفى عام 260 من الهجرة، في هذا الباب، متحدثا عن معاناته و مكائد أعدائه، وتعد سيرته نموذجا حيا لمجموع السير الذاتية العربية الإسلامية القديمة، التي هدف بها أصحابها إلى الدفاع عن أنفسهم، نذكر كذلك ما كتبه عبد الرحمان بن خلدون، المتوفى سنة 808 من الهجرة، عن نفسه في كتاب: "التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا"، إذ كانت غايته مما كتب مختزلة في الدفاع عن نفسه من خلال التبرير والتفسير، وكثير من السير الذاتية القديمة ألفها أصحابها لهذا الغرض، ولا شك أن باعث الدفاع عن النفس يندرج ضمن أقوى وأبرز بواعث كتابة هذا اللون من الأدب.
    ومن جملة بواعث الكتابة التي نقف عليها في أدب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، ثمة باعث الرد على أعداء الإسلام، ودفع ما يحوم بفعلهم حول العقيدة الإسلامية من شبهات، وأوضح مثال نسوقه في هذا الباب ما كتبه السموأل بن يحيى المغربي.
    ثم إن بواعث وحوافز تأليف السير الذاتية الإسلامية القديمة كثيرة ومتشعبة، ونادرا ما يكون وراء كتابتها باعث أو حافز واحد فقط.
    أما محاولة تصنيف الأعمال الأدبية العربية الإسلامية، تبعا لتصنيف بواعث الكتابة، وكذا تقسيمها إلى أنماط، فهو عمل واجتهاد نسبي، وحتى إن كان مكن الباحثين والنقاد من الوقوف على أهم البواعث أو الدوافع الرئيسة، فإنه لم يحط بعد بأكثر البواعث الفرعية، ثم إن كان ساعدهم على ضبط البواعث الظاهرة، فإنه لم يمكنهم بعد من الإلمام التام بالبواعث الباطنة.
    هذا حظ يسير مما جاد به نشاط الذهن، نسأل الله عز وجل أن يجد فيه كل قارئ بعض الذي كان يترقبه ويستشرفه، وعسى أن يكون ما خطته يمين عبد الله باعثا للباحثين، والدارسين، والمهتمين عموما على إلقاء ولو نظرات معدودة على أدب السيرة الذاتية ...
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  2. #2
    بسم الله الرحمن الرحيم
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي وبين الحس الجماعي
    "الجزء الأول"
    (المقالة الثانية)
    عندما تصير الذات ثمرة عصرها، وحكاية في حد ذاتها، وعندما تجد نفسها واصفة وموصوفة في آن واحد، ساعتها تكون قد مدت جسرا بين تمثلها الذاتي ونزوعها الموضوعي؛ إنها بؤرة آثار عميقة، وساحة كشف واكتشاف لمجاهل الإنسان، وفي شعابها انطوت هويتها وخفاياها.
    إنها وجود قلق مضطرب، لا يدرك نفسه في يسر أو بكيفية مطلقة، ولا يحيط بذاته تمام الإحاطة، تتجاذبه قوى العقل، والنفس، والروح، بين مد الشعور والوعي، وجزر اللاشعور واللاوعي تارة، وبين جزر الوعي والشعور، ومد اللاوعي واللاشعور تارة أخرى، ومع ذلك فقد سخر للذات الإنسانية الفهم والإدراك، بقصد أن تسعى إلى الإلمام بحقيقتها المادية والروحية.
    ثم إن الأنا تشرع في تمثل نفسها، والاستفهام حول ماهيتها ومعنى حياتها بقوة الوعي الكامن فيها، فنراها تستنجد بالماضي المختزن في ذاكرتها، فهي مسكونة بموروثات وحياة نابضة بصور الزمان والمكان، وبحرارة اللقاء الإنساني، وبالتربية والثقافة المكتسبة، وبالمبادئ والقيم المختلفة، وكذلك بالمعتقد الديني.
    فما من شك في كون معرفة الذات البشرية هي نتيجة استفهام عن ماهية الإنسان، ومنطلقه، ومآله، خاصة وأن هذا الكائن العاقل يجد ذاته على امتداد أطوار حياته في تغير مستمر، ثم إنه من المؤكد أن كاتب السيرة الذاتية عندما يستشعر دنو أجله، يطرح على نفسه سؤالا دقيقا هو: هل عشت بالفعل حياتي بالكيفية التي أردتها أم لا؟
    فإذا رأينا الذات تتفحص حاضرها، فذلك لأنه حصيلة ماضيها بكل الذي زخر به من تجارب حياتية، ولأن الحاضر واقع لا بد لها منه، لتظفر بحس مستقبلي، ورغبة في المضي إلى الأمام، فما احتفال الأنا بذاتيتها في النهاية إلا تمثل لهذا الحس التاريخي، أو تلك القوة الخفية التي تحمل الإنسان على الشعور بأنه عين الشخص، الذي كان له حضور في الماضي القريب والبعيد، على الرغم من الأحداث المتضاربة، والتغييرات المتلاحقة التي توالت على ذاته الباطنية.
    ثم إن الذات التي كانت طفلا، فصبيا، ففتى، ثم عاشت ربيع عمرها، فغدت بعد ذلك رجلا، وكهلا، ثم انتهت في مسيرة حياتها إلى خريف العمر مرتقبة ذروة الشيخوخة، هي واحدة في جميع هذه الأطوار، لكن هل السيرة الذاتية هي كتابة الفرد لحياته بناء على تسلسل زمني منطقي؟ أم أنها كتابة لذاته الفردية، بحكم أن هذه الذات مفككة لا تخضع لأي تسلسل زمني؟
    لا شك أن الإنسان، كان وسيظل، عالما انطوى فيه كثير من الأسرار، وشبكة من العناصر، التي تجمعها علاقات جد معقدة، تنشأ وتتطور في بيئة وحقبة زمنية ذات معالم وخصائص معينة، والأنا منذ وجدت وهي تطمح إلى اكتساب قيم إنسانية، تميل إليها إما عن هوى ونزوة، أو تنتقيها عن قناعة خاصة، أو تستقطبها تبعا لعقيدة معلومة، في حين تبذل كل ما في وسعها لطرد قيم أخرى، لم تعد ترغب فيها.
    إن الكائن الاجتماعي يحلم دائما برؤية عالم يعثر فيه على الاستقرار والسعادة، ويشعر في أكنافه بوجود منسجم مع جميع الموجودات حوله، ثم يطمئن إلى طور من حياته دون باقي الأطوار، فيحياه باستمرار في ذاكرته؛ إنه يصارع قوى معينة من أجل غاية محددة، ويعاني سلبا أو إيجابا في سبيل ما ينشده بقناعة وإيمان، وعن هدى أو ضلال، بحكم انه كائن فاعل في حدود، وعاقل مدرك في حدود كذلك.
    فهذا الإنسان كثيرا ما يشقى بأفعاله وممارساته، واختياراته وتوجهاته، وقليلا ما يسعد بأعماله في الحياة الدنيا، وقد يزداد أحيانا قوة وإرادة، عندما يتحول لديه الألم والمكابدة إلى ابتلاء في طيه النعمة، وفي قلبه بذرة التغيير نحو الاستقامة والصلاح، بحكم أن الذات المسلمة الجادة في نهج طريق الاستقامة لا تشقى بما تجده من معاناة، وما ينزل بها من ابتلاءات؛ بل إنها تعمل على تحويل هذه المعاناة والإبتلاءات إلى قوة فاعلة مؤثرة، وجهد إبداعي متميز، إذ من المؤكد أن التجارب الحياتية، الفردية والجماعية، فاعلة في الذات المبدعة، بقدر ما أن هذه الذات منفعلة بها، فضلا عن كونها تستمد شحناتها الإبداعية من كل تجربة تعيشها.
    إن ذروة الإحساس بالذات، تنكشف بكل أبعادها الإنسانية في الحقب التاريخية التي تشهد انتقالات من أوضاع معينة إلى أخرى، أو تعرف اضطرابات وهزات اجتماعية، أو سياسية، أو فكرية وغيرها، إذ في هذه الظروف الزمانية وأمثالها تجد الذات البشرية نفسها في حاجة ملحة إلى التوفيق بين نفسها والأحداث الجارية في محيطها.
    ثم إن الذات الإنسانية تطمح إلى التعرف على هويتها وجوهرها، وتجتهد في استقراء باطنها؛ لكن هل صحيح أن ثمة إقبالا على كتابة التاريخ الخاص، وأن أدب السيرة الذاتية صار إحدى السمات التي تسم العصر الحديث؟
    إننا في ظل ما يحفل به تاريخ الأدب العربي والإسلامي الحديث من آثار أدبية تشهد على نزوع ملحوظ إلى كتابة السيرة الذاتية، وباعتبار المنحى الذي سار فيه التأليف الأدبي في الشرق والغرب عموما، نستطيع أن نرجح صحة الامتياز الذي اكتسبه أدب السيرة الذاتية في العصر الحديث.
    ثم إن هذه سمة لها دلالتها الخاصة على ما ساد العصر من حياة اجتماعية، وفكرية، وروحية وغيرها، مما سيساعد المهتم بالبحث في أدب السيرة الذاتية الحديثة على معرفة خط سير هذا اللون من التعبير، وما يكمن وراءه من بواعث، ثم الغاية من إنتاجه، لكن هل صحيح أن المفكرين والعلماء هم الأكثر احتفالا بذواتهم والأكثر ميلا إلى إعمال النظر فيها من الشعراء والأدباء؟
    كثيرا ما يعرض نقاد الأدب ودارسوه لمحوري: الفردية أو الذاتية، والجماعية أو الموضوعية، لكنهم قليلا ما يتحرون حقيقة ومدى تلك الذاتية الفردية، وهذه الموضوعية الجماعية؛ بل إن معظمهم ينسون ما للذاتية والموضوعية من قيمة، حتى إن الرهبة تأخذهم من البعد الذاتي في الأدب عموما، فهم ينظرون إلى الذاتية على أنها نقيضة للواقعية؛ بل إن الأمر بلغ ببعضهم إلى توظيفها في موضع الذم.
    أما الرأي الراجح عندنا، فهو انعدام وجود فردية ذاتية أو جماعية موضوعية بحتة، بمعنى أن كل ذات فردية تنطوي على ذات جماعية، وكل ذات جماعية تتضمن ذاتا فردية، مع العلم بأن الاهتمام بالجانب الاجتماعي في العملية الإبداعية، لا يعني تهميش السمة الفردية للإبداع الأدبي، إذ أن لكل أديب ذاتية خاصة به، تتفاعل سلبا أو إيجابا مع واقعه الاجتماعي.
    ثم إن الذاتين: الفردية والجماعية تخضعان معا لحكم النسبية، نظرا لارتباط إحداهما بالثانية، فالأنا الفردية ذاتية في حدود عالمها الداخلي، لكنها تتراجع عندما تصطدم بالعالم الخارجي، وذلك حتى تفسح المجال للذات الجماعية، التي بدورها ينحسر مدها على عتبة الأنا الفردية، باعتبار أن توازن الفرد في حال اضطرابه يمكن تحقيقه في قلب هذا الكيان الأكثر قربا من الذات الإنسانية.
    ومن المؤكد أن الذات تعتبر الركن الأساس في شخصية الإنسان، إذ أنها ليست سوى ذلك الشعور والوعي بكيان الفرد المتنامي باستمرار، على قدر النضج والتعلم، والاكتساب، وللذات الفردية مفهوم يمكن اختزاله في ذلك التكوين المعرفي المنظم، والموحد، والمكتسب في آن واحد لمجموع المدركات الشعورية والتصورات الخاصة بالذات.
    وانطلاقا من هذا المبدأ، سيظل مفهوم الذات الفردية والجماعية مقيدا غير مطلق، باعتبار أن إمكانية العثور على ذات مجردة، سواء أكانت فردية أم جماعية، تعد من قبيل الأوهام الشائعة لا اقل ولا أكثر، وهذا لا يعني في شيء أن الأثر الأدبي هو نتيجة لواقع الأوضاع الثقافية والاجتماعية، دون اعتبار ما للذات المبدعة من إسهام وفعل، وما لها من تكوين ذهني ونفسي.
    وإذا كانت الذات الفردية تشغل العالم الداخلي وتنشط فيه، بينما تتمثل الذات الجماعية أكثر في العالم الخارجي، فهذا لا يعني في شيء كذلك وجود انفصال أو قطيعة بين الفرد والجماعة الإنسانية؛ بل على العكس ثمة تفاعل ولقاء مستمر، وتأثيرات متبادلة بين الذاتين والعالمين.
    وثمة أيضا تجارب إنسانية مشتركة كثيرة، ولاشك أن العلاقة بين الداخل والخارج وثيقة في أدب السيرة الذاتية، الذي يتجاوز ما تعيشه الأنا من عزلة ووحدة.
    إن ما قمنا بإثارته في هذا المحور، ينطبق بتمامه على الذاكرة الإسلامية، فضلا عن الذات المسلمة، ما دام أن ذاكرة الفرد جزء من الذاكرة الجماعية، كما أن الذات الفردية بعض لا يتجزأ من الذات الجماعية، ويبدو أن هذه الحقيقة ماثلة في السيرة الذاتية الإسـلامية الحديثة، العربية والأجنبية على حد سواء، وإن كان للذات والذاكرة العربية الإسلامية ملامح وخصوصيات معـينة، مثل ما للذاكرة والذات الأجنبية المسلمة، بشقيها: الفردي والجماعي، ملامـح وخصوصيات محددة.
    ثم إن الفرد قد ينوب عن الآخرين من بني عصره وبيئته في كتابة سيرهم الموضوعية، انطلاقا من قراءة ذاته، ومن خلال تجاربه الفردية والمشتركة، ما دام أن القاسم المشترك بين أفراد الجماعة البشرية، يتحول إلى تعبير موضوعي بين طيات السيرة الفردية، ومن ثم تصير الذات الواحدة موضوعا في سياق السيرة الجماعية أو التاريخ الموضوعي.
    من هنا نخلص، إذا صح هذا الافتراض، إلى أن تجربة الذات المسلمة تختزل تجربة الجماعة الإنسانية المسلمة في الحياة، خاصة وأننا لا نعثر في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على تلك النزعة الفردية، التي يتخذ أصحابها من أدب السيرة الذاتية نصبا تذكاريا لها، وهي نزعة غير مسؤولة أو ملتزمة.
    ثم إننا على النقيض نصادف في مجموع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة تلك "الأنا" المسؤولة، والغاية الموحدة، التي لا سلطان للعبث، والأهواء، واللذة العابرة عليها، هذا بالإضافة إلى كون الذات الفردية المسلمة تتشكل انطلاقا من المفهوم الجماعي، الذي يختزن الانتماء العقدي، والحضاري.
    إن لكاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رؤية يتكامل من خلالها البعدان: الفردي والجماعي، إذ أن شعور الأنا الفردي يتطلب وجود الآخر، وتتحول فيها المعاناة إلى باعث قوي على التعبير، وقدرة كبيرة على النفاذ إلى بواطن الأمور وجوهر التجارب.
    فكل إنتاج الكاتب هو عبارة عن محاولات متكررة بقصد العثور على حقيقة الحياة وعمقها، وإن كانت ذاتية من يكتب سيرته لا تتمثل في اختلاف تجربته الحياتية عن تجارب غيره من أهل عصره، فإنها تمتاز عن ذوات الآخرين بكونها تنطوي على إحساس ووعي عميقين، وإدراك دقيق للبعد الجماعي الكامن في التجربة الذاتية.
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  3. #3
    بسم الله الرحمن الرحيم
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي وبين الحس الجماعي
    "الجزء الثاني"
    الظاهر أن الإنسان من خلال سرد تاريخه الخاص، يكتشف أناه الثانية، أي الذات الجماعية، التي قد يتوهم الفرد أحيانا عدم وجودها، بينما هي قابعة في الظل، لكنها نامية بموازاة مع الأنا الفردية، حتى إذا انخرط الكاتب في تأليف سيرته الذاتية، تلمس بوضوح انحسار ظل حسه الفردي الأحادي، واستشعر ذلك الزحف الخفي لكل ما له سمة جماعية مقرونا بذاته.
    ثم إن من يكتب سيرته الذاتية، بحكم انتمائه إلى جماعة إنسانية، مرتبطة بقيم معينة تشكل وعيها، يجد نفسه مطالبا باتخاذ ذاته جسرا للعبور إلى الذات الجماعية وإلى ما هو كوني، ومؤكد أن ثمة عبورا نوعيا بالبداهة بين الذاتين: الفردية والجماعية من جهة، وبين ما هو ذاتي وما هو جماعي، بحكم أن الشخصية الفردية لكاتب السيرة الذاتية، ما هي إلا صورة مصغرة من شخصية الجماعة الإنسانية الكبرى.
    ولا شك أن كاتب السيرة الذاتية عندما يصير في أوج فرديته، يكون قد تجاوز الحدود الضيقة لتجاربه الخاصة، فنراه يتجاوز الخاص إلى العام، ويستعين بالحس الموضوعي ليتمثل ذاته، مما يدل على أن خطاب السيرة الذاتية ليس مغلقا أو معزولا عن عالم وفضاءات التواصل الإنساني؛ بل هو خطاب منفتح على الحياة الجماعية، إذ يجسد على مستوى البعد الوظيفي ذلك الانتقال من طور الاهتمام بالأنا والعزلة الذاتية إلى مرحلة التواصل مع الآخر والانفتاح على الجماعة.
    إن الفرد عندما يفكر في كتابة تاريخه الخاص، يعي جيدا أن المقاصد الذاتية الضيقة هي أول ما سيتم تجاوزه في إنتاجه الأدبي، وأن كثيرين سيشاركونه تعبيره عن تجاربه الفردية، ومن هذا المنطلق يحاول الكاتب أن يعرض قصة حياته أو بعضا من تجاربه على جمهور القراء، رغبة منه في أن يكون ذاتا مقروءة، يجد فيها كل قارئ ملامح من نفسه، وبعضا من تاريخه، ولا شك أن أدب السيرة الذاتية يجلي (الأنا)، وينبه المتلقي إلى حضوره وتفرده.
    ثم إن الكتابة عن الذات تقتضي حدا أدنى من تقدير صاحب السيرة الذاتية لنفسه، وبدون هذا الحد من التقدير الذاتي تتعذر الكتابة عن الذات، ومن ثم لا بد للذي يختار الكتابة في دائرة هذا اللون من التعبير أن تكون لديه قناعة تامة بما تمثله حياته من معنى، وما يشتمل عليه تاريخه الخاص من قيمة معرفية.
    ومن المؤكد أن أي الأفعال التي يبادر إليها الإنسان في هذا الوجود، ومنها فعل الكتابة عن الذات، هو محاولة لتحطيم القيود التي تمنعه من اكتشاف جديد أو اكتساب معرفة، باعتبار أن الإنسان سجين، وبالأفعال يسعى إلى الخلاص من سجنه، المتمثل في جهله الأشياء، ولا سبيل إلى تجاهل حقيقة يمكن اختزالها في كون حياة الإنسان تتجاوز كل وعي يمكنه أن يكتسبه عنها، إذ أن وعي الإنسان قاصر، إذا ما تمت مقارنته بما تنطوي عليه حياته من خفايا وأسرار، ومن ثم فان وعي الفرد بكونه إنسانا، كفيل بأن يستشعر نقصه، وعجزه، وقصوره في هذا الوجود.
    ومما لا يقبل الجدل كون الغوص العميق الذي يحرص كثير من الكتاب على تحقيقه في ذواتهم، ما هو في واقع الحال إلا غوص في الذات الإنسانية، التي تجسد الكائن الكامن في أعماق كل فرد، والمتصف بالطباع المشتركة الذي يتقاسمها الأحياء من بني البشر، ومن ثم فان كاتب السيرة الذاتية يتحول بامتياز إلى كائن نشيط وفاعل يلتقي في عالمه الباطن الإحساسان: الذاتي والجماعي ويتفاعلان، إلى درجة التماهي الضمني بين "الأنا" و"الجماعة".
    إن كاتب السيرة الذاتية بمجرد ما ينتهي من كتابة تاريخه الفردي ، يكون قد تغلب على عزلته، وفك قيود أنانيته، ومد جسرا بينه وبين الآخرين، وفي هذه الإشارة دليل على أن سيرة الكاتب ليست حكرا و وقفا عليه وحده؛ بل إنها ملك وحق مشاع بين الناس، مع أن الاستقراء الأول لهذه المسالة، قد يوحي بكون ما يبسطه الكاتب من حياته الباطنية أمام القراء، هي ملك له دون غيره، وليست حقا جماعيا، وهذا غير صحيح، خاصة وأن محاولة تحديد ما هو فردي وتمييزه عما هو جماعي في الحياة البشرية أمر صعب.
    ومما يثير الانتباه أن ضمير "الأنا" المتمثل في الشخصية الفردية، والذي يعتقد البعض في دلالته على التوحد، والاستقلالية، والتميز عن غيره داخل الجماعة الإنسانية، ما هو إلا دال يحيل على الآخرين الحاضرين باستمرار في وجود الذات الفردية، التي هي في أمس الحاجة إلى الآخر، الذي يمكنها من رؤية نفسها، واستقراء جوهرها، باعتباره وسيطا واصفا بين الذات ونفسها، وإن كانت كل ذات فردية لها صفات وهوية تسمها بطابع خاص، مما يرسخ في ذهن صاحب السيرة الذاتية ذلك الاعتقاد في كونه شخص مغاير لباقي الأشخاص على وجه الأرض.
    وإذا كان الإنسان يقضي حياته باحثا عن ذاته، وطامحا إلى تحقيقها في هذا الوجود، مجتهدا في العثور عليها والاهتداء إلى حقيقتها، خاصة وان حياته تتجسد في العمق والجوهر في عملية تكوين ذاتية، فان السبيل الذي سيسلكه لبلوغ غايته يلزمه باكتشاف غيره من بني جنسه.
    ولا شك أن كاتب السيرة الذاتية له تجارب فردية عميقة، تعكس حياته الخاصة وتميزه عن باقي الأفراد، وهذه الخاصية في حد ذاتها تشكل باعثا له على إشراك الآخرين في اكتشافها، لأنه يعتقد في كونها تنطوي على إضافة مثيرة للفضول العلمي، وإضاءة لجوانب إنسانية خفية.
    إن حياة الإنسان تتجاوز كل وعي يمكنه أن يكتسبه عنها، إذ أن وعي الكائن البشري قاصر، إذا ما قورن بما تنطوي عليه حياته من خفايا وأسرار، وهذا ما يفسر تلك الحاجة البالغة التي يفصح عنها كاتب السيرة الذاتية، تصريحا أو تلميحا، إلى وصف ذاته وعرضها ملتحمة مع الآخرين، منعكسة على مرآتهم، بقصد التعرف على شخصيته، واستقراء أعماقه، وذلك تعبيرا عن فرديته، وهو أمر غير هين على الإطلاق.
    ثم إن ثمة جملة من الأسئلة الحاسمة، التي يطرحها الإنسان حيثما كان، لكونها مرتبطة بذاته ووجوده فهو يسعى جاهدا إلى العثور على إجابتها، الكفيلة بتمكينه من الشعور بمعنى حياته؛ إنها استفهامات تدل على أن ذاتية الإنسان ليست مطلقة، وإنما هي محكومة بالطابع النسبي، ومن خلال تعدد الشخصية الواحدة، نستطيع أن نفهم كيف تتحول الذات من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي.
    فهل صحيح أن لكل إنسان شخصيتان أو شخصيات متعددة: الإنسان الذي يعرف نفسه، والإنسان الذي يعرفه الناس، والإنسان الذي لا يعرف نفسه ولا يعرفه الناس، والإنسان الذي لا يعرفه إلا خالقه؟
    يبدو أن الإقرار بصحة ما يشتمل عليه هذا الاستفهام لا سبيل إلى إنكاره أو تجاهله، لأن من مميزات الكتابة عن الذات أنها تعكس لنا الجهد الذي يبذله صاحب السيرة الذاتية، عندما يحاول أن يضفي معنى معينا على تاريخه الخاص؛ فهل يعني هذا أن الكتابة عن الذات تجسد الرغبة في كشف صاحب السيرة الذاتية عن هويته والحفاظ عليها في آن واحد؟
    وقد شغل كثير من الباحثين ذلك الاستفهام عن إمكانية تسمية الكائن البشري، المتغير باستمرار، نفس الشخص والذات؟ علما بأن للزمان مغزى متميزا بالنسبة إلى الإنسان، لأنه لا ينفصل عن الذات، وعلما كذلك بأن هذا الكائن يعي جيدا بأن نفسه مختلفة متحولة على الدوام.
    ثم إن الذات تنقسم على نفسها في أدب السيرة الذاتية، فهي التي تكتب وتؤرخ لنفسها، وحتى يحقق الكاتب هذه الغاية نراه يحاول الابتعاد عن ذاته ليعرفها أكثر، وينأى عنها بقصد الاقتراب منها، وفي بذل هذا الجهد دليل على أن الإحاطة الشاملة بالنفس البشرية غاية عزيزة المنال.
    ثم ليست الذات الفردية مجرد وعاء لاستقبال وتخزين المنبهات الخارجية والداخلية؛ بل هي قطب فاعل قدر ما هي مركز متفاعل، تسود سيطرته مختلف المنبهات، فضلا عن كونه يسهر على تعديلها، وتنظيمها والجمع فيما بينها.
    ثم إن من الصعب على من يكتب سيرته الذاتية أن يقر لنفسه بتلك "الأنا" الأحادية، بحكم ما يحياه من تحول دائب، لأنه يجد نفسه وجها لوجه مع "أناه" وقد اتخذت مظاهر متعددة، وهي تنحو كل صوب ودلالة، بحيث يصادف في كل مرة ذاتا معينة، ومن ثم كان من الأساس العلمي اعتبار ذات الكاتب على مستويات مختلفة لكنها متكاملة في آن واحد، منها النفسي، والديني، و الخلقي، والاجتماعي و غيرها.
    لكن الذي لا يجب إغفاله، هو أن السيرة الذاتية جنس أدبي، يقوم على مبدأ التنامي الأحادي للأنا الساردة أو الشخصية الرئيسة، بخلاف ما نجده في جنس الرواية والقصة، من شخصيات متعددة نامية، أما الشخصيات غير النامية، تبعا لمنطق السرد الأدبي، فتعد قاسما مشتركا بين الأجناس الأدبية الثلاثة، لكن بفارق جوهري، هو أن شخوص السيرة الذاتية حقيقية واقعية، بينما شخوص الرواية والقصة متخيلة.
    ثم إن مبدأ التنامي الأحادي يشمل بكيفية موازية كلا من الذات المسلمة، وذاكرتها الإسلامية، على المستويين: الأفقي الزمني، الذي تتدرج فيه الذات والذاكرة عبر مختلف مراحل العمر والحياة، ثم العمودي النفسي، و الفكري، والروحي، الذي تنمو فيه الشخصية بذاكرة ثقافية عقدية، وسياسية، واجتماعية، باعتبار قطب التوافق بين أبعادها الثلاثة في قلب الخطاب الموجه، فهي شخصية كاتبة، وساردة، ورئيسة.
    ثم إن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، بوجه خاص، ستظل منطوية على الحس الموضوعي الجماعي كيفما صيغت، ومهما تعددت أشكالها، وليس بإمكان الذات الفردية الانسلاخ والانفصال عن الذات الجماعية، بحكم أن الأدب الإسلامي لم يهتم في أي حقبة تاريخية من وجوده بفكرة الرجل العظيم، ولم يجار الأدبين: اليوناني والروماني في هذا النوع من الاهتمام، في حين احتفل بالأمة المسلمة المشبعة بروح الإسلام.
    إن الذات المسلمة ترى في العلم خلاصها وخلاص مجتمعها وأمتها، فبالعلم وحده يستطيع الإنسان المسلم أن يشخص الداء الذي يعانيه أفراد أمته ويصف الدواء، والعلم وحده يعتقد بقوة انه سيخرج أناه الجماعية من دوامة الجهل والشقاء، خاصة و انه يشعر بكون ذاته الفردية هي طرف مسؤول عن إنقاذ المجتمع المسلم.
    وفي هذه الحال، يتحتم على الإنسان المسلم أن يتجاوز نوازعه وأحلامه الفردية، ويكرس كل جهوده لخدمة الذات الجماعية المسلمة، بحيث لم يعد له أي أفق انتظار في حدود ذاته؛ بل صار مضطرا إلى تحقيق كل غاية لصالح الجماعة، فهي أفق انتظاره الجديد، والبديل الذي سيسخر له كل أفعاله الإصلاحية من أجل التغيير نحو الأفضل.
    ولا شك أن التاريخ، والعقيدة الإسلامية، والموروثات الثقافية والاجتماعية، تشكل قوة فاعلة في الذات المسلمة وعاملا محفزا لها على نهج سنة معينة في الحياة، خاصة إذا كان لتلك الحصيلة المأخوذة عن السلف وزن حضاري، وخصائص ومعالم مؤثرة، مما يجعل عامل الشعور بثقل المسؤولية يزداد حدة، ومن ثم تصير الذات صدى لارتدادات قوية، تنشط على إثرها انفعالات وهواجس مختلفة، يظل يغذيها القلق، والشك، والإحساس بالذنب في حال التقصير أو الزيغ عن سيرة الأسلاف، وهذا من شانه أن يلقي بالإنسان في دوامة من المعاناة النفسية.
    لقد أصبحت الذات المسلمة لا تجد سبيلا إلى الانسلاخ عن ذاكرتها الجماعية، لأنها مرتبطة بإرث قوي مشبع بالمعاناة والتوتر؛ إنه بالفعل ألم مفترس يلاحق الإنسان العربي المسلم حيثما ولى بتفكيره، فالألم والمعاناة جزء من ذاكرته الجريحة، وعندما يتقد الحس والشعور التاريخي الجماعي داخل الإنسان، فإن الاهتداء إلى عمق الرسالة الإنسانية، ومنارة الخلاص والنجاة يصير أمرا محتوما.
    وقد أرادت القوى المعاكسة والمضادة للحياة الإسلامية الأفول والاندثار، إذ سعت منذ زمن بعيد إلى استنـزافها، وطمس معالمها وجوهر قوتها، لكن الأجيال المسلمة، التي تناقلت رسالة الحياة الإسلامية، حالت دون ما قد يلحق هذه الحياة الخالدة من تهميش، لأن الإسلام قوة وحياة إنسانية قائمة بالذات الجماعية المسلمة.
    إن مدار اهتمام الذات المسلمة هو العثور على هويتها، أو التمكن من معرفة الأصول والجذور الحضارية التي تنتمي إليها، لان هذه المعرفة وحدها هي الغاية التي تساعد الإنسان على تمثل حسه الفردي ووعيه الجماعي، وبدونها لن يستطيع أن يعرف وجهته، أو القيام بأداء رسالته على الوجه المطلوب في حاضره ومستقبله. ومن الواضح أن الذات الإنسانية المسلمة كانت وما زالت في حاجة ملحة إلى قراءة إرثها الحضاري بكل مكوناته، ذلك لأن هذا الإرث هو عبارة عن حلقة حيوية ورئيسة من التاريخ الإسلامي لتبين الوجهة وإيضاح الهوية.
    ثم إن الذات المسلمة تعيش في محيطها الاجتماعي تحولا دائما، وتنتقل عبر مستويات إدراك مثيرة، فهي دائمة البحث عن فضاءات وعي جديد بنفسها، وهو فعل ذاتي يحثها عليه هاجس المعرفة الطبيعي الكامن في عمقها باستمرار.
    وفي مقام ختم هذا المقال، نأمل أن تكون خلاصة ما أتينا به في جزءيه، الأول والثاني، مجرد باعث وعتبة لدفع الدارسين والباحثين من ذوي الإختصاص إلى الوقوف على بعض ما يزخر به أدب السيرة الذاتية الإسلامية من ثمار معرفية، وجواهر إنسانية ...
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  4. #4
    بسم الله الرحمن الرحيم
    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    "الجزء الأول"
    (المقالة الثالثة)
    إن السرد القصصي كان وما يزال يهيمن على الحس الإبداعي، وحس المتلقي في العالم العربي الإسلامي، وهو النمط السردي الذي غالبا ما تم نسجه، كما هو الشأن اليوم، حول شخصية محورية غائبة، ربما لأن الذات الكاتبة منذ وجدت وهي تنظر إلى الكائن القصصي المتخيل أحيانا، على أنه ذات مجهولة، وعالم زاخر بالأسرار والألغاز، وهي بالتالي تنطلق من هذا المعطى على أساس أن الإنسان كائن يسعى بذكائه وحدسه إلى حل رموز عالمه الداخلي وفتح مغالقه؛ إنه الكائن الوحيد الذي يجد نفسه في بحث دائم، واكتشاف متواصل، بين مد السؤال وجزر الإجابة.
    وبالنظر من زاوية أخرى، بإمكاننا ملاحظة التميز الذي تنفرد به الأساليب السردية العربية والإسلامية القديمة، التي تتخذها الأنا أو الذات الكاتبة مدارا وفضاء لتجليها بشكل مباشر، وهي نمط سردي، اعتمده معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في حقبة تأسيس الأدب الخاص، يندرج في إطار مزدوج يشمل النثرين: المرسل والمسجوع، والذي يوحي لنا أحيانا بالكيفية التي تصاغ بها الحكم والأمثال، والأقوال المأثورة، وهي أنماط تعبيرية تجمع بين الشحنة الدلالية، والمعاني المركزة، والعبارات الموجزة.
    ولا يخفى أن هذا المنحى في الكتابة الأدبية كان مألوفا ومطروقا بكثافة، حتى إن منتجي هذا الأدب قديما، كانوا يتهافتون عليه ويجتهدون في إجادته و إتقانه، وهو يعد من السمات البارزة في تراث الأدب العربي الإسلامي، بالإضافة إلى كون الكثير مما ألفه العرب القدماء حول ذواتهم، قد تمت صياغته بكيفية متميزة تثير فضول القارئ، إذ أن كثيرا من العناصر الفنية التي أسهمت حديثا في بناء أدب السيرة الذاتية الإسلامية من الداخل، قد اشتمل عليها هذا الضرب من الأدب، عندما كان يجتاز طور التأسيس، مما أهله ليسلك منذ طلائعه الأولى منحى قصصيا.
    ثم إن تجاوب جمهور القراء على امتداد التاريخ مع الإنتاج الأدبي المبني على السرد القصصي، ساعد وشجع على رسوخ أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي من جهة، وعلى استمرار وجوده حتى عصرنا هذا، ومما أسهم كذلك في عدم انقراض هذا الفن الأدبي، ارتكاز مستويات حياة الإنسان التواصلية، خاصة منها الاجتماعية والمعرفية، على عملية السرد المتبادل.
    ومن بين الملاحظات الأولية التي بالإمكان تسجيلها في معرض هذه القراءة، كوننا نادرا ما نصادف سيرة ذاتية عربية إسلامية قديمة، استطاع صاحبها أن ينفذ بالوصف والتحليل إلى باطن ذاته، بقصد الكشف عما فيها من مظاهر الصراع النفسي والروحي، والوقوف على ما يقبع في أعماق النفس من آثار دفينة، وهذا القصور كان سببا في افتقار أعمال كثيرة إلى المادتين: النفسية، والاجتماعية، فظلت سجينة المظاهر السطحية للحياة الشخصية، أو استعراضا لبعض الجوانب الخارجية.
    ولعل من بين الأسباب في توجه المؤلفين العرب القدماء نحو العالم الخارجي، واهتمامهم بالانشغالات الموضوعية بالدرجة الأولى، ثم بقاء عالمهم الداخلي متواريا ومغمورا أكثر الأحيان، إنهم لم يفطنوا إلى الأهمية البالغة التي يكتسيها التعبير المسهب عن بعض الأطوار الحياتية، وخاصة طور الطفولة والنشأة، وهذه الخاصية تكاد تكون قاسما مشتركا بين السير الذاتية الإسلامية القديمة.
    وأما الذين اهتدوا من الكتاب العرب قديما إلى عملية الاسترجاع، فنجدهم ينتقون أطوارا معينة من طفولتهم، ويختزلون الحديث عنها في رغبتهم المبكرة في طلب العلم، إذ كان طور الطفولة والصبا بالنسبة إليهم يجسد المرحلة الأولى التي ألهموا فيها الإقبال على العلم ومناهل المعرفة، والتي عملوا خلالها على ترسيخ الاجتهاد في ذواتهم رغبة في العلم، وتمرين نفوسهم على الصبر في سبيل ذلك؛ إنهم يتذكرون الطور الأول من حياتهم دون غيره من مراحل العمر المتقدمة، لكونهم يرجحون آثاره البعيدة في تكوين شخصيتهم، واختيار وجهتهم وسيرتهم في الحياة.
    إن الانصراف المبكر إلى طلب العلم، وإيثار الجد على اللهو والعبث في سن الطفولة، ظل بين العرب القدماء، وأكثرهم من أهل العلم، والأدب، والطب، والفلسفة، والتاريخ، محط استفهام وإثارة، فهم لم ينسبوه إلى استعدادات فطرية، أو مؤهلات ذاتية وشخصية، وإن كان البعض أرجعه إلى التأثر بالوسط العلمي، وإنما عادوا به في الغالب إلى الإلهام والهداية من الله عز وجل.
    ثم لقد كان هذا المنحى الظاهرة، بالنسبة إليهم، تجربة إنسانية مبكرة، لا ينفرد بخوضها والاهتداء إليها إلا القليل من الناس، ذلك لأنها لا تكتسي طابعا إراديا أو اختياريا؛ فهي فضل من الله تعالى، يهبه لمن يشاء من عباده، لكن هذه التجربة لا تعدم أسبابا ذاتية وأخرى موضوعية مساعدة، وإذا كان من النادر أن نعثر في السير العربية القديمة على إشارة، سواء من قريب أم من بعيد، إلى أثر الوراثة وفعلها التكويني المتصل أساسا بطبيعة الشخصية، فإننا نجد في بعضها كشفا عن تأثير البيئة في تكوين ذوات أصحابها.
    إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة كانوا يحاولون إقناع القراء، تصريحا أو تلميحا، بان تجاربهم الفردية في سن الطفولة، تمثل لحظة وعي مبكر في مجرى حياتهم، وأنها كانت مبدأ نهجهم في الحياة، ومنطلق رسالتهم في الوجود، وكذا مستهل يقظتهم المعرفية، فكانوا يرون في طلب العلم مبكرا، ومقاطعة أسباب اللهو في سن الصبا دليلا على النبوغ المرتقب، والمكانة العلمية المنتظرة، بحيث كانت الغاية المرجوة عندهم هي الاقتراب من الذروة أو الكمال في مجالات العلم والمعرفة في مفتتح أعمارهم.
    بناء على هذه الرؤية، اقتنعت الذات المسلمة في الماضي بأن الإقبال منذ سن مبكرة على طرق أبواب العلوم والمعرفة، ما هو إلا نعمة من الله سبحانه وجب التحدث بها، فكان هذا الإدراك حافزا وباعثا كافيا للقدماء، حتى يسردوا علينا تجاربهم الاجتماعية، والفكرية، والروحية من خلال الأشواط التي قطعوها في سبيل تحصيل العلم ومعرفة النهج الحق في الحياة.
    إن مختلف التجارب الفردية التي نصادفها في السير الذاتية الإسلامية القديمة تفصح بجلاء عن مدى عناية السلف بتطور الحياة الشخصية بشقيها: المادي والروحي، وتبين عن مبلغ التمسك بنشرها وإذاعتها بين القراء، وهي تجارب تم ذكرها للاعتبار واكتساب المعرفة أصلا، وذلك بالإطلاع على مضامينها القوية والمؤثرة أحيانا، فجاءت في مجملها ذات طابع تعليمي، ومنسجمة على مستوى توجهها ومراميها مع روح السيرة النبوية.
    ثم إن الذات المسلمة لم تكن تطلب العلم نزوة واحتكارا، أو تنفق مختلف أطوار حياتها بغير رؤية واضحة وقصد معلوم؛ بل كانت تسعى جادة إلى اكتساب معرفة غزيرة وعلوم شتى، طلبا وسعيا منها إلى التزام الحق والإلمام بالحقائق، وفوق كل هذا كانت تحرص على نهج مسالك العلم رغبة في عبادة الله والتقرب إليه.
    فنحن إذا أمعنا النظر قليلا في عدد من السير الذاتية الإسلامية القديمة، سنلاحظ ميلا لدى أصحابها ونزوعا إلى ذكر تفاصيل دقيقة ليست من قبيل الحشو والإسراف في الحديث، وإنما هي تفاصيل مهمة بالفعل، وقد صيغت بكيفية تضمن تواصلا سليما وفاعلا مع القارئ، بقصد إخباره بأمور معينة، وتقريبه من حقيقة المواقف، والأحداث، والحياة اليومية، والتجارب عموما.
    ثم إن سبب التمسك بالخطاب التعليمي، الذي يأخذ في معظم الأحيان صبغة وعظية وإرشادية، يكمن في الاعتقاد الراسخ للذات الكاتبة في الإسلام وتعاليمه، وفي الإيمان القوي بالله عز وجل، ثم في الوعي بالأمانة والمسؤولية التي حملها الإنسان، وارتبطت به دون غيره من المخلوقات، باعتباره كائنا عاقلا وخليفة في الأرض.
    ولعل الظاهرة التعليمية، وتصوير الحياة العلمية، التي هيمنت على خطاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية قديما، خير دليل على أنها كانت باعثا مباشرا وغاية في ذات الوقت، تتدرج الذات الكاتبة في ضوئها بسرد سيرتها، ابتداء من عهد الصبا، ومرورا بزمن الفتوة والشباب، ثم انتهاء إلى مرحلة الكهولة وبعدها طور الشيخوخة.
    إن الغاية التعليمية هي التي حدت بالذات المسلمة إلى رصد أحوالها وأفعالها، وسلوكياتها، بقصد ترجمتها في وضوح ودون تعقيد إلى جانب الأشواط التي قطعتها والتجارب التي خاضتها لأجل طلب العلم، وهذا الفعل التاريخي الهادف هو الذي يحيلنا على مدى عناية هذه الذات بمسألة التكوين العقائدي والفكري، فهي ذات تسعى في الغالب إلى الإحاطة بالجانب الاعتباري دون الجانب الوجداني لتكوينها.
    ثم إن العرب المسلمين القدامى لم يغفلوا في ما كتبوه عن ذواتهم ذكر شيوخهم، وتلاميذهم، ومصنفاتهم، فهم يحرصون على هذا الذكر أشد الحرص، وذلك باعتباره ركنا أساسيا في حياتهم العلمية، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  5. #5
    بسم الله الرحمن الرحيم
    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    "الجزء الثاني"
    لقد تحولت التجارب الفردية في الماضي مع كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمين إلى ملك جماعي مشاع بين جمهور القراء، تستسقى منه الدروس والعبر، وكثيرا ما كان يلجأ العارض لسيرته الذاتية إلى بيان قصده وغرضه من كتابة تاريخه الخاص، وكشف رغبته في إشراك القراء، ودعوتهم إلى التأمل والتدبر الواسع.
    ثم إن الذات المسلمة كانت قديما تدرك بعمق فائدة العملية التاريخية، ومقدار النفع الذي يجنى من رصد ومتابعة أهم الوقائع والأحداث في مسيرة الحياة الإنسانية، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي، ومن ثم كانت كتابة السيرة الذاتية لدى قدماء العرب المسلمين لا تقل أهمية عن مسيرتهم العلمية، لأنها أداة يترجمون ويوثقون بها مجريات طلب العلم بدءا من طفولتهم إلى شيخوختهم، هذا بغض النظر عن الآثار المكتوبة التي يخلفونها في مختلف فروع العلم، والأدب، والتاريخ.
    إن من يمتلك هذه الرؤية البعيدة المدى والشاملة، التي تشمل الماضي، والحاضر، والمستقبل، لا شك انه سينظر إلى كتابة سيرته الذاتية من نفس الزاوية، وتبعا لذات البواعث، المتمثلة في ما يلي:
    أولا: إفادة طالب العلم .
    ثانيا: الرياضة الفكرية.
    ثالثا: الاستعانة بحصيلة الإنتاج العلمي في طور الشيخوخة.
    ثم إن الكتاب العرب المسلمين أولوا عناية خاصة في الماضي بمسألة النسب، فبعدما كانوا في البداية يقتصرون على ذكر آبائهم، إذ دأبوا على هذا التقليد في التمهيد لسيرهم الذاتية حتى حدود القرن الخامس الهجري، نجدهم يهتمون أكثر بأنسابهم، ابتداء من القرن السادس الهجري، مجتهدين في أن يصلوها بأبعد أجدادهم، فمن النماذج التي نعثر عليها في القرن السادس الهجـري، المندرجة في هذا الباب، الفصل الذي كتبه علي بن زيد البيـهقي، المتوفى سنة 565 من الهجرة، متحدثا عن نفسه، والذي أودعه في كتابه: "مشارب التجارب"، وقد حفظه ياقوت الحموي في "معجـم الأدباء"، وما ذكره عبد الرحمان بن الجوزي في مؤلفه: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
    ولا شك أن أصول هذا التقليد تعود إلى أحد مظاهر الحياة العربية التي سادت ما قبل الإسلام، حيث كان العرب ينظرون إلى أنسابهم، وأمجادهم نظرة اعتزاز وفخر، ويتخذونها رمزا لشهرتهم ومكانتهم؛ بل ومادة محورية لشعرهم وأحاديثهم في الفخر والحماسة، حتى إنهم يبالغون في نظرتهم إليها، وقد أدرك الإسلام العرب، وهم أشد الناس حرصا على حفظ أنسابهم.
    ثم لقد تنوعت اختيارات كـتاب السيرة الذاتية في إخراج آثارهم الأدبية، فمنهم من أودع تاريخه الخاص في كتاب، ومنهم من أفرد سيرته الذاتية في رسالة أدبية، أو فلسفية، أو علمية مستقلة.
    ثم من بين الخصائص التي تسم التقليد القديم في كتابة السير الذاتية، نذكر مسألة العنوان، التي على ما يظهر شغلت حيزا ملحوظا من اهتمام القدماء، الذين كانوا ينتقون عناوين تواريخهم الخاصة بدقة وعناية بالغة، وهي غالبا ما تجسد الباعث القريب أو البعيد على تأليف السير الذاتية، وتعين المدار الرئيس لهذا الضرب من التأليف، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
    وحـتى نتبين مدى التطابق الحاصل بينها وبين المضامين التي تدل عليها، يكفي أن نستعرض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ العناوين التالية: "الاعتبار"، و"المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" و"لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" و"التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا"، و"بذل المجهود في إفحام اليهود"، و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
    إن السير الذاتية الإسلامية التراثية تختزل كثيرا من التجارب الإنسانية الأولى في العالم العربي الإسلامي، وهي تجارب تعكس أساسا المعاناة الفردية في المجتمع، فالشكوى من عداوة الأهل والحاسدين، والابتلاء بالسجن، ثم مجاهدة النفس اتقاء الانحراف والانغماس في مغريات الحياة الزائلة، جميع هذه المحاور وغيرها هي مدارات معاناة مشتركة بين كثير من أصحاب السير الذاتية التي حفظها لنا تراث الأدب العربي الإسلامي.
    وفي أجواء السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، نعثر على فضاء من المعاناة الفردية المركبة من الفقر والاغتراب في المجتمع، تفصح الذات المسلمة من خلاله عن محنتها، وتقلبات أحوالها بين ضيق ذات اليد وكدر العيش من جهة، والتجاهل من طرف أهل زمانها والمعاصرين لها من جهة ثانية، فهي ذات لم يتم تقديرها حق قدرها، ولم تلق من غيرها سوى الحسد والازدراء، والشماتة والإهمال.
    ويمكن اعتبار مجموع التجارب الفردية ، التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية قديمة، موضوعات تشكل جانبا من فضاء الذاكرة الإسلامية، فردية كانت أم جماعية، التي يحفظها تاريخ الأدب الإسلامي، في حين أن الذات الكاتبة المسلمة تترك الكلمة الأخيرة في حق مختلف التجارب موقوفة على درجة فهم المتلقي القارئ، ومستوى إدراكه واستيعابه للخطاب الموجه، الذي غالبا ما يكون ذا طابع تعليمي، مع العلم بأن فتور أو قوة العناية بخطاب السيرة الذاتية عموما رهينة بمدى الاهتمام بالشخصية الإنسانية.
    إن الذات التي نحن بصدد اقتفاء آثارها و تجلياتها، استطاعت أن تحول ردود أفعالها إلى قوة نفسية، مكنتها من امتصاص كل الأفعال المضادة، فالإيمان الشديد بالله، فالقناعة، والأمل، والرجاء، والصبر، والعفاف، وطلب العلم ومعالي الأمور، جميعها قيم وعناصر ساعدت الأديب، والفقيه، والمفكر، والعالم على تجاوز محنهم ساعة الشدة والبلاء، وعلى الرغم من اشتداد وقع الاغتراب على الذات المسلمة، فإنها تخوض في وسطها الاجتماعي صراعا بالمعرفة والحكمة ضد الجهل والعبث.
    وأمام قوة تأثير العوامل المعاكسة ، كان من الطبيعي أن تتصدى الذات المسلمة لكل عارض برد فعل أشد قوة، لكن النفوس الحساسة في مثل هذه الأحوال توكل أمرها إلى الله عز و جل، وتنزع إلى الارتداد نحو عالمها الداخلي، وتحتمي بالعزلة والانقطاع إلى الله تعالى عن الاجتماع بالآخرين، وهي تعلم أن ليس من سبيل إلا التزود بقوة الإيمان والصبر، وإلا ازدادت معاناتها بقدر حدة الأزمات النفسية.
    إن القطيعة التي كانت غالبا ما تنشأ بين أفكار الإنسان المسلم وانشغالاته وتطلعاته، وبين الميول والأهواء السائدة، ظلت تزيد الهوة اتساعا بين الذات المسلمة ومعاصريها، نظرا لانعدام التجاوب المتبادل، وتباين السلوك والوجهة والأهداف، وعلى الرغم من قساوة الظلم الاجتماعي، وحدة العزلة والاغتراب، فإن قوة النفس المؤمنة حالت دون تكسير الرؤية المستقبلية للإنسان المسلم، بقدر ما حالت دون تقليص مداها، وحصر مدها في حدود ضيقة.
    إننا نصادف الذات المسلمة في كثير من التجارب الروحية، وهي تشغل بؤرة الصراع الداخلي، وقلب المجاهدة النفسية، ومركز العقدة والحل، بحيث بإمكاننا ملاحقة تدرجها من الشك والأسئلة المقلقة إلى اليقين والأجوبة المطمئنة، ثم بالانتهاء إلى الزهد المعتدل والرؤية المستقرة، وذلك عن طريق النظر بالعقل وتحكيمه في ضوء العقيدة الإسلامية.
    ففي الوقت الذي يروج فيه الحديث في الغرب عن كون الرواية والسيرة الذاتية ليستا سوى وسيلتين يهدف الكتاب الغربيون من ورائهما إلى الخلاص من أسر الزمن، والنزوع إلى تأليه الإنسان من خلال تمكينه من القدرة على الخلق، نجد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يسعون إلى هذه الغاية، لأن الإسلام لا يدعو إلى تأليه الإنسان، أو إلى الدخول في صراع مع الزمن.
    ولنا المثال الحي والدال، في عدد من التجارب الذاتية المحفوظة في جملة من الأعمال التراثية العربية الإسلامية، على ذلك الصراع الداخلي، وتلك الصورة الواضحة الأبعاد الرؤية المستقرة، التي تجمع بين الدين والدنيا، وتشغل الإنسان في أي زمان وأي مكان، ونحن نستطيع أن نحدد الأبعاد التي تشكل الرؤية أو الهاجس الملازم للكائن العاقل في ثلاثة هي:
    أولا: البعد الداخلي، أو العالم الباطن الذي يعكف عليه الإنسان ليكشف حقيقته.
    ثانيا: البعد الخارجي، أو العالم الظاهر الذي تتبادل معه الذات الإنسانية
    التأثير والتأثر.
    ثالثا: البعد الغيبي، أو عالم الغيب الذي ينشد إليه الإنسان، وتحاول الذات الفردية أن تعي علاقتها به، وتحدد موقفها منه.
    إن المعاناة الفردية تبدأ عندما تحاول الذات الإنسانية أن تتجرد من جميع المعطيات، والمفاهيم المترسبة في غياب وعي ذاتي، واقتناع مؤسس، فتلجأ إلى هدم الأفكار الجاهزة، والرؤى المكتسبة تقليدا وإتباعا، ثم تبني أفكارا، ورؤى، واقتناعات جديدة على أساس من اليقين والاجتهاد العقلي.
    لقد كانت مسألة التقليد العقدي، وكثرة التأويلات، والبدع، والفرق المذهبية السائدة قديما علامة استفهام كبرى، ومبعث ارتياب وقلق يؤرق الذات المسلمة، ويحفزها في آن واحد، بهداية من الله عز وجل، على طلب الحق، والعلم بأصول الحياة الإسلامية، وبالتالي تأسيس رؤية واعية وواضحة، تشمل الإنسان، وعالمي: الغيب والشهادة، والعقيدة الصحيحة.
    ثم إن خاصية البحث عن الحقيقة وإيثار الحق، كانت قاسما مشتركا بين أمثال ابن الهيثم وأبي حامد الغزالي، وعاملا مشجعا لهم على أن يتخذوا أنفسهم قدوة للآخرين، ولم يكن الواحد منهم يدعي أن له يدا في كل الذي بلغه من العلم، وناله من رفعة شان وسمو مكانة؛ بل إنهم كانوا يعودون بهذا الكسب والحظ الثمين إلى الله عز وجل موجده وخالقه.
    لكن في الوقت نفسه لم يكن أي واحد من المسلمين القدماء ينفي اجتهاده المتواضع بأفعال التقوى وأسباب التوكل في طلب العلم، واكتساب الحكمة والمعرفة، بقصد المجاهدة النفسية، والدعوة إلى الله تعالى.
    إن الذات المسلمة تعي جيدا أنها توجه خطابها إلى من هم دونها تجربة من العامة والمبتدئين في طلب العلم، وهي تفعل ذلك انطلاقا من تجاربها الفردية، ورصيد خبرتها، وخلاصة تمرسها، وعصارة حنكتها، وهي أيضا توجه خطابها ليس من موقع الاستعلاء، أو رغبة في المن والرياء؛ بل إنها تسخره في الدعوة إلى الله، وتريد به الإصلاح ، بحكم أن العمل من أجل هذه الغاية هو واجب ومن تعاليم الإسلام ومرتكزاته، ويكفي أن نذكر هنا بكون النصيحة جامعة للدين كله.
    ثم إن مختلف الخصائص الشكلية والمضمونية التي حاولنا كشفها واستعراضها، تعد إلى جانب بواعث الكتابة سمة مشتركة بين جميع السير الذاتية الإسلامية التراثية، ومن ثم فإنها تمثل في الغالب أهم الثوابت التي بإمكانها أن تساعد على اختزال أي قراءة محتملة أو مرتقبة في خطابها.
    وعند ختم هذا المقال، سنترقب بشوق كبير من كافة المهتمين بأدب السيرة الذاتية إسهاماتهم في نقاش ونقد ما بسطناه من أفكار وتأملات متواضعة حول هذا الجنس الأدبي المميز، فهل سيأتينا بالنقد والتمحيص من لم نزود؟
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  6. #6
    بسم الله الرحمن الرحيم
    نظرة في خطاب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (المقالة الرابعة)
    من بين المعايير المعتمدة في تحديد مقومات أي جنس أدبي، ثم ضبط هويته وموقعه بين باقي الأجناس الأدبية، هناك: مستوى الصياغة التي تهتم بتشكيل الخطاب، وطبيعة المضامين التي تتقيد بالدلالة المقصودة، بالإضافة إلى كيفية تقديمها، ونوعية التركيب الذي يسم أسلوب الكتابة، ويهدف به الكاتب إلى تبليغ ورسم أبعاد خطابه، ثم الوظائف الخطابية التي تدل على آثار الخطاب وتكشف عن آفاقه.
    فجميع هذه المعايير وغيرها تقتسم أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وتجعل منه في النهاية شبكة من الموضوعات الأساسية والفرعية، تقوم بالحفاظ على توازنه الإبداعي، بحكم أن كل موضوعة تمثل مركز ثقل خطابي، وقطبا يختزل شحنات دلالية، تنتظم بدورها نسيج العلاقات الداخلية للخطاب، وسنحاول في هذا المقال أن نكشف بإيجاز شديد مظاهر خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وأن نبحث في مكوناته الكبرى، وفي طبيعة حمولته المتنوعة، اقتناعا منا بأن الخطاب الأدبي ليس مجرد صياغة وتركيب، ومضامين ووظائف؛ بل إنه نتاج ذو مظاهر ومكونات أكثر تشعبا، وكائن ينطوي على خفايا وأسرار، ويتشرب عناصر دقيقة ومجردة، تضرب بجذورها في ذات الإنسان وذاكرته.
    ثم إن الحديث بالدرس والتحليل عن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، يعني كذلك البحث في بواعثه ودرجة الصدق التي ينطوي عليها، ونحن نطمح في هذا الفصل من الأطروحة إلى أن نحيط أكثر بهذه المحاور، وإلى أن نوسعها نقدا و توضيحا، على أن نتخذ هذه الخطوة ـ التي تقتضيها الضرورة المنهجية ـ تمهيدا مفصلا في مدارات، قبل الانتقال إلى معالجة ميثاق قراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وبواعث تلقي هذا الضرب من الأدب الإسلامي.
    ونحن عندما نتناول بالفحص متن هذا الفرع الأدبي الإسلامي الحديث، لا نجد أنفسنا أمام مادة أدبية يستعصي فهمها وتأويلها، أو إزاء خطاب أدبي يتعذر علينا الوصول إلى معرفة تامة به، ذلك لأننا لسنا بصدد خطاب أدبي تخييلي، تتداخل وتتلاحم فيه العناصر الواقعية بالعناصر الخيالية، وإنما نحن نطرق باب خطاب لا يقترح عوالم تخييلية، سواء من داخله أم من خارجه، وبالتالي يعرض تجارب ذاتية إنسانية واقعية.
    ثم إننا نرى أن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، يتمتع بحياة متعددة، بحكم ارتباطه بالأزمنة الثلاثة (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، مما يؤهله ليكون إشارة مفتوحة على كثير من المعاني والدلالات، على الرغم من التباين المبدئي القائم بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية التخييلية.
    فلا سبيل إذن إلى إسقاط طبيعة الخطاب الأدبي التخييلي على الطبيعة الخاصة بخطاب السيرة الذاتية المعتمدة على التجربة الواقعية، ثم لا يحق لنا أن نبرر عملية الإسقاط باحتمال اتفاق الهدف، وبكون باب التأثير المتبادل بينهما سيظل مفتوحا، وبناء على ما تقدم ذكره، نجد أنفسنا لا نشاطر رأي جورج ماي (GEORGES MAY) في هذه المسألة، إذ عوض أن يفضي به البحث إلى رسم حدود صارمة، تفصل ما بين السيرة الذاتية والأجناس المجاورة لها، نراه يؤكد على عدم وجود أي حد فاصل بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرواية.
    ويكفي أن ندفع هذا الرأي بالتنبيه إلى ما يتفرد به خطاب السيرة الذاتية من قراءات متميزة، سواء كانت عادية أم نقدية أم إبداعية، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي سيتعامل بها القارئ مع هذا النص أو الخطاب الأدبي، وهي بداهة ليست نفس الكيفية التي سيتعامل بها نفس القارئ مع نص قصصي، أو نص روائي، أو نص شعري على سبيل المثال.
    ثم إن من الخصائص الجوهرية للسيرة الذاتية كون صاحبها عاجز عن بلوغ الغاية المتمثلة في "الموت"، وقول الكلمة الأخيرة في حياته، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية هو رحلة تبدأ من حاضر الكتابة وتنتهي إليه، وهي الرحلة التي تتم في حركة دائرية ببعديها الزماني والمكاني، لكن هل صحيح أن خطاب السيرة الذاتية لا يستطيع أن يتجاوز أحادية رجع الصوت الواحد؟ وأنه يفتقر إلى إمكانات الرواية الإبداعية ؟!
    ونحن لا نتفق مع من يرى هذا الاعتقاد، لأن ما نصادقه للوهلة الأولى من رجع الصوت الواحد في خطاب السيرة الذاتية، ليس في الواقع وجوهر الأمر إلا مرآة تتراءى على صفحتها عدة أصوات، ومدخل إلى عالم يحفل بتعدد أصوات قراءة أدب السيرة الذاتية.
    إن قراءة خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يجب أن تتم بحس واقعي، بخلاف باقي الخطابات الروائية وغيرها، مما ينتمي إلى الأجناس الأدبية التخييلية، التي ستقرأ بحس تخييلي، لكن هذا لا يعني أن هذه الخطابات لا علاقة لها بالواقع، أو أنها ذات مضامين جوفاء؛ بل إنها في الحقيقة عبارة عن منافذ تفضي في أغلبها بالمتلقي إلى الحياة الواقعية بأدق تفاصيلها.
    فما أدب السيرة الذاتية إلا جزء من الظاهرة الإبداعية على المستوى العام، وهذا شأن كل الخطابات الأدبية التي تحكي التجارب الواقعية، وكل من يلقي نظرة متأملة على مختلف الاتجاهات الأدبية في مختلف المراحل التاريخية، يعثر على ذلك التجاوب القائم بينها وبين جميع مناحي الحياة الاجتماعية الواقعية، وهي اتجاهات تعكس نبض المجتمعات وما يسودها من مفاهيم وقيم.
    ثم إن غزارة وغنى المضامين والقضايا، وكثافة الموضوعات والأحداث التي نصادفها بوجه خاص في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، هي من بين المعطيات التي نادرا ما نعثر عليها في الأدب العالمي الحديث، شعره ونثره، ومن ثم ستبقى هذه المعالم من أبرز سمات الخطاب الأدبي الإسلامي، الأكثر تميزا واغترابا في هذا العصر، على الرغم من أنه عمل على ملء فراغ كبير، وحرص على تقريب المسافة بين الذات الإنسانية ـ العربية والأعجمية ـ والإسلام.
    وقد استطاع الخطاب الأدبي الإسلامي أن يجلي كثيرا من الحقائق التاريخية، التي أفرزها مجرى التحولات والاضطرابات في العالم العربي الإسلامي الحديث، حتى إنه يمتلك من خلال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من الخصب والتنوع، ما قد لا تمتلكه السيرة الذاتية، وهي الجنس الأدبي المنفتح على المضامين الأكثر تشعبا.
    إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة نتيجة نهائية لتراكيب ومناهج معينة؛ إنه من جملة الخطابات الأدبية الإسلامية المرتبطة أصلا بذات مسلمة فاعلة، وذاكرة إسلامية حافظة، ثم إن هذا الخطاب الأدبي الإسلامي ينفرد بخاصية جوهرية، وهي أن الذات المنتجة له ليست أحادية، وإنما هي ثنائية: عربية وأجنبية، كما أنه خطاب ذو قواسم مشتركة يكمل بعضها بعضا، على الرغم من اختلاف المعطيات البيئية، والثقافية، والاجتماعية وغيرها بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الأجنبية.
    ثم إن لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة اليوم، وأكثر من أي زمن مضى، دورا كبيرا وفعالية لا تقل أهمية عن باقي خطابات الأدب الإسلامي الحديث، خاصة مع اكتساح الآداب، والمفاهيم، والقيم الغربية للبلاد العربية الإسلامية، التي انبهر كثير من مثقفيها بكثير من الإنتاجات الأدبية الغربية، التي لا صلة لها بواقع الحضارة الإسلامية، وأخلاق المسلمين، وثقافتهم، وعقيدتهم.
    ونحن موقنون بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة سيظل أحد أبرز مظاهر الأدب الإسلامي المتميزة في العصر الحديث، وأداة خطابية مؤهلة لتحقيق تواصل أدبي فاعل ومثمر، فضلا عن اعتباره مجالا فسيحا للدعوة إلى الإسلام، ومعينا لا ينضب من المواد التاريخية، والاجتماعية، والنفسية الموحية، ومن العناصر الفنية التي تبعث على الإبداع الأدبي، إذ باستطاعة كل أشكال التجارب الذاتية، والمعاناة، والأفكار، والرؤى، والمواقف، والمشاهد المسترجعة، وكذلك الفضاءات المكانية والزمانية أن تنمي في الذات الكاتبة والذات القارئة حسا فنيا وحدسا جماليا رفيعا.
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  7. #7
    بسم الله الرحمن الرحيم
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في ظل التجديد والإبداع
    (المقالة الخامسة)
    بعد انتهاء طور البحث عن الذات وتمثل الهوية العربية الإسلامية، اتسعت دائرة الوعي الحضاري لدى الإنسان العربي المسلم، وتنامت في أعماقه قوة الإحساس بأهمية التأريخ الفردي في بناء تاريخ الجماعة، ومن ثم خلص به عصر النهضة إلى طور التجربة والتعبير عن الذاتية الفردية، ومن خلالها عن الذات الجماعية، وعن الكيان العربي الإسلامي.لقد كان للتحولات الجديدة ـ في مستهل العصر الحديث ـ بالغ الأثر على الذات العربية المسلمة، التي دخلت عهدا حاسما في مسيرتها الحضارية المتعثرة، وكانت جميع هذه التحولات شحنة قوية، أسهمت كثيرا في تجنيس أدب السيرة الذاتية داخل العالم العربي الإسلامي.
    ولا شك أن السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، في شكلها الأدبي الفني، قريبة النشأة، إذ لم تعرف أي تطور منهجي فني إلا مع حلول العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي، حيث تحولت إلى لون جديد من التجربة الفردية والتمثل الذاتي، وهو لون أدبي ارتبط وجوده بمختلف أشكال المعاناة التي ابتليت بها الذات العربية المسلمة، وجاءت نتيجة عدة تراكمات تاريخية في حياة الشعوب العربية المسلمة.
    لقد أفاد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية المحدثون مما في تراث الأدب العربي الإسلامي، ومما اطلعوا ووقفوا عليه في الآداب الأجنبية، كما استطاع معظمهم أن يخطوا بقيم، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية ـ سواء الفنية التعبيرية أم الشعورية ـ خطوات ملحوظة وذات أبعاد بالغة الأهمية، وقد تأتى لهم هذا الكسب الأدبي الثمين بفضل الأشواط الكبيرة التي قطعوها في مجال الكتابة الأدبية، والتجارب الغنية التي عرفها الإبداع الأدبي العربي الإسلامي بوجه عام، وأدب السيرة الذاتية بصفة خاصة، وذلك في ظرف تاريخي أكثر اضطرابا وتوترا.
    ثم إنه بقدر ما اطلع الكتاب العرب المسلمون قديما على ما كتبه الفارسيون واليونانيون من سير ذاتية في العصر العباسي، بقدر ما عرفوا حديثا الكثير مما ألفه منها الغربيون، وقد استفادوا في هذا الباب من مناهجهم المتبعة في الكتابة، حتى إن من الباحثين العرب من يرى بأن اطلاع الرومنسيين العرب على الآداب الغربية مكنهم من التعرف على أجناس أدبية جديدة، ما ألفها العرب من قبل، بمثل ما رسخت به عند الغربيين من أصول ثابتة وقواعد متداولة، بحيث كانت هناك محاولات في الإنتاج الأدبي الرومنسي لتفعيل الرواية، والقصة، والمسرح، وأجناس جديدة مرتبطة بأدب السيرة الذاتية، مثل المذكرات وغيرها.
    ولا شك أن كثيرا مما يندرج في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد احتفل بجملة من المعالم الفنية، التي صارت من التقاليد المتبعة حديثا في كتابة السيرة الذاتية، بحكم أنها تبعث القارئ على تلقي هذا الضرب من الأدب والتفاعل معه.
    فهل كان سلطان الشعر على الثقافة العربية هو العامل الذي حال دون اتساع الأدب العربي الحديث للأجناس الأدبية الجديدة: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية، والمسرح؟؟
    ثم إن أدب السيرة الذاتية الذي رأى النور في العالم العربي الإسلامي، ابتداء من مطلع القرن الماضي، لم يضق بما رحبت به الحياة الاجتماعية، والعقدية، والفكرية، والسياسية، التي يحياها الكتاب العرب المسلمون، ومن ثم انفردت بقيمة معرفية وأدبية تاريخية متميزة، خاصة وأنها آثار أدبية شاهدة على معاناة وهموم، وانشغالات وطموحات الذات العربية المسلمة، ولا شك أن الطور التجنيسي الذي عرفه مسار أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قد شهد ذلك الصدام القوي بين العالمين: العربي الإسلامي والغربي.
    ونستطيع أن نتبين لدى كثير من الكتاب العرب المسلمين المحدثين، الذين طرقوا باب أدب السيرة الذاتية، ذلك الشعور المتنامي بالاغتراب داخل مجتمعاتهم، وذلك النزوع القوي إلى الثورة والتمرد على عدد من الأفكار، والتقاليد، والطقوس المتوارثة، إذ نصادف في أعمالهم مناحي ومنازع مستجدة، لم يكن لها حضور مكثف في تراث الأدب العربي الإسلامي.
    ومما يجدر ذكره كذلك، هو التزام أكثر كتاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية في العصر الحديث ـ سيرا على نهج أسلافهم ـ بطبيعة الروح الإسلامية، التي تنكر بقوة ظاهرة التعري النفسي الساقط، وترفض بكل صرامة خدش الحياء أو تجاوز المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية، وتعبر عن الحرص الشديد على سلامة الفطرة الإنسانية، حتى لا ينال منها أي زيغ أو فساد.
    ومن جملة ما اتسم به طور تجنيس أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، أن كثيرا من كتاب هذا الأدب لم يميلوا إلى تمجيد ذواتهم والعجب الشديد بها، كما أنهم اتصفوا بصدق الحديث ونظرتهم الموضوعية إلى ذواتهم وغيرها من الموضوعات، ثم إننا نجدهم يحصرون عاطفتهم نحو المرأة بإشارات سريعة دون المكاشفة الفاضحة.
    ثم إن تطور العلوم، واتساع دائرة الاكتشافات، وكذا الانفتاح على آفاق جديدة في مختلف مناحي الحياة، وتوالي تراكم أنماط متنوعة من المحدثات الفكرية، والاجتماعية، والسياسية؛ جميعها عوامل ساعدت كاتب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي على الاقتراب من ذاته بالوصف الصادق الدقيق، مجتهدا في الابتعاد عن نزعة الغرور، وحريصا على أن يكون في منأى من أي تحيز.
    وعلى إثر هذا التحول الذي نمى ورفع من مستوى وعي الكاتب بتقاليد الكتابة ذات التقاليد الموروثة والمحدثة والفاعلة في صياغة أدب السيرة الذاتية، صار للأدب الذاتي والتأريخ الفردي الخاص في مختلف الآداب العالمية، وفي الأدب العربي الإسلامي بوجه خاص، مفهوم ومدلول شبه مستقر، وصورة أكثر وضوحا في الأذهان، فغدت له هوية أدبية تاريخية، تميزه عن باقي الأجناس الأدبية، ومكانة فنية جمالية.
    ومن المؤكد كذلك أن الصفة الفنية لم يتم تحقيقها للسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة إلا عبر الفن الروائي، مرورا بالفن القصصي، الذي أسهم كثيرا ـ و منذ طور تأسيس أدب السيرة الذاتية العربية ذات السمة الإسلامية ـ في إمداد الكتابة التي تتخذ الذات موضوعا بالهوية والسمة الفنية، وبالتالي كان يمثل البوابة الأولى التي مكنت أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية من الدخول في طور التجنيس.
    وقد ساعد تطور النقد الأدبي والنظرية الأدبية في العصر الحديث، من خلال مجموعة من التيارات والمدارس على تطوير أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وتكوين ثقافة ورصيد معرفي خاص بهذا الفرع الأدبي الإسلامي.
    ومن بين أهم معطيات هذا التطور المطرد، نذكر: ظاهرة النزوع إلى التصنيف والتجنيس الأدبي، بحيث لم يعد التنظير منحصرا في عموم الشعر ومجموع النثر؛ بل اتسع مجاله ليشمل الأجناس الأدبية، وأشكال ومكونات كل جنس أدبي على حدة.
    ثم إن من عمق هذا التطور في الفعل النقدي والتنظيري، تمكن أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة من إحراز كيان أدبي مستقل عن كتابة التاريخ العام، أما التحول النوعي الكبير، الذي عرفه تاريخ هذا الأدب، فتمثل في كتابة السيرة الذاتية الفنية.
    لقد مر أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بثلاثة أطوار تكوينية رئيسة:
    أولها: طور التأسيس، أو مرحلة التجريب والمحاولات الأولى في تاريخ الأدب العربي الإسلامي.
    ثانيها: طور الإحياء والبعث، أو مرحلة المحاكاة والتقليد.
    ثالثها: طور التجنيس، أو مرحلة التجديد والإبداع.
    وهذه الأطوار التكوينية الثلاثة أثمرت بدورها ثلاثة ضروب من أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثلاثة أنماط من الوعي موازية لها تاريخيا، فأما ضروب هذا اللون الأدبي، التي عرفت على التوالي، منذ القرن الثالث الهجري، الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية اليوم، فهي:
    الأول: السيرة الذاتية التأسيسية، التي سادت ابتداء من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي وإلى غاية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وبذلك يكون هذا الضرب قد امتد حوالي سبعة قرون من التاريخ
    الثاني: السيرة الذاتية التقليدية، التي امتد وجودها ابتداء من القرن الثالث عشر الهجري/ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وطوال القرن التاسع عشر الميلادي وإلى غاية حدود النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ بداية القرن العشرين الميلادي، بعد مضي أربعة قرون تقريبا من الركود الشامل، الذي عانى منه العالم العربي الإسلامي.
    الثالث: السيرة الذاتية الفنية، وقد سجلت حضورها في منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي، لكن ما يسمها حتى اليوم هو كمها القليل، فهي تحاول أن تثبت وجودها وتضرب بجذورها الفنية عميقا في أرض الثقافة الأدبية العربية الإسلامية، وأما أنماط الوعي التي واكب كل واحد منها وتزامن مع أحد الأضرب التي ذكرنا، فهي التالية:
    الأول: الوعي التأسيسي، وهو وعي التجريب الذي ساد في الحقبة الأولى.
    الثاني: الوعي التقليدي، وهو الوعي الذي جمع بين الإحياء والمحاكاة.
    الثالث: الوعي التجنيسي، ونقصد به النزوع بحس فني وجمالي إلى تحديد ماهية، وقواعد، وخصائص أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، في ضوء مستحدثات التجديد ومستجدات النقد والإبداع.
    وثمة ثلاث ظواهر أو معالم بارزة طبعت مسيرة أدب السيرة الذاتية في البلاد العربية الإسلامية، وذلك ابتداء من العقد الثالث في القرن العشرين، وهي:
    الأولى: تمثلت في التحول من كتابة السيرة الذاتية التقليدية إلى تأليف السيرة الذاتية الفنية، وهذا التحول الكبير يشهد على مدى تطور مستوى الوعي بأدب السيرة الذاتية، ثم بحجم الإضافة الثقافية، التي أغنت المنظومة المعرفية الخاصة بهذا الجنس الأدبي.
    الثانية: تجسدت في استكمال أدب السيرة الذاتية لشروط ومقومات الجنس الأدبي.
    الثالثة: اختزلتها الكتابة في دائرة المكونات الكبرى ـ أو ما يسمى بالأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بخطاب أدب السيرة الذاتية.
    أما الظاهرتان: الأولى والثانية، فكانتا بحق تجسيدا لتطور جلي، و تحول بارز عرفه تاريخ الأدب العربي الإسلامي في العصـر الحديث، وتحديدا سنة 1929 ميلادية، لما نشر طه حسين الجزء الأول من سيرته الذاتية "الأيام"، فكان هذا الحدث مدخلا إلى طور التجنيس في تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وثمرة احتكاك ثقافي بين العالمين: العربي الإسلامي والغربي، أما كتاب "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق، فعلى الرغم من سبقه في البلاد العربية بأزيد من سبعة عقود قبل بزوغ كتاب (الأيام)، إلا أن التسليم بكونه سيرة ذاتية فنية مكتملة يعد من قبيل الإسراف في الوصف والحكم.
    وأما الظاهرة الثالثة، فتجسدت في ذلك النزوع من قبل الكتاب العرب المسلمين المحدثين إلى إدراج مجموعة من إنتاجاتهم الأدبية في إطار أحد أو جملة من المكونات الكبرى ـ الأجناس الأدبية الصغرى ـ الخاصة بجنس السيرة الذاتية، إذ قاموا بتصنيف بعض من كتاباتهم تمييزا لها، وذلك تبعا لعدد من الاصطلاحات الأدبية الدالة على مكون خطابي معين، مثل: المذكرات، والذكريات، والاعترافات، واليوميات، ومما يثير الاستغراب في أكثر الأبحاث والدراسات العربية، التي عالجت أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، هو احتفالها بما كتب في هذا الباب من طرف أدباء وعلماء المشرق العربي، وخلوها من أدنى إشارة إلى حظ المغرب العربي من هذا الأدب!!
    ثم إن من جملة ما أثار انتباهنا في بعض الدراسات التي تناولت أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة، هو ذلك الاختزال ـ الذي كان يطل علينا بين الحين والحين ـ المقصود ربما أو غير المتعمد لهذا الضرب من الأدب في السيرة الذاتية المصرية، واتخاذها مقياسا، وهذا يذكر بما ساد ويسود من اعتقاد حول مركزية مصر الأدبية.
    وإذا كان الأدباء والعلماء العرب المسلمون قد أسهموا بحظ من كتاباتهم في التأسيس لأدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية، وهي كتابات موسومة بخصائص معينة، فإن أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي الحديث والمعاصر على حد سواء، قد خطا به الكتاب المحدثون خطوات نوعية في سبيل تجنيسه.
    لقد تحققت في بعض من أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة جملة من السمات، التي تشهد له بالدخول في طور التجنيس، ويكفي أن نذكر منها:
    1 ـ تقصي أثر الأحداث في باطن الذات الكاتبة.
    2 ـ الكشف عن أهم الجوانب من الحياة الفردية، وبسط الحقائق المتصلة بها.
    3 ـ تصوير الصراع الداخلي والخارجي.
    4 ـ الحديث عن أثر الوراثة والبيئة في تكوين الشخصية.
    5 ـ سرد الأحداث والوقائع حسب التسلسل الزمني.
    6 ـ الكشف عن معالم الأمكنة والأزمنة.
    7 ـ الترسل في السرد، والابتعاد عن الأسلوب التقريري الجاف.
    8 ـ توظيف الأساليب المقالية، والقصصية، والروائية.
    9 ـ التزام الصدق وقول الحقيقة في حدود معينة.
    10 ـ الإفصاح عن باعث أو بواعث الكتابة.
    ثم إن من سمات أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة في طوره التجنيسي، ذلك الميل الذي نلمسه بوضوح لدى أصحابه إلى توظيف الألفاظ والعبارات الدارجة في الحوار وغيره، ولنا في ما كتبه عدد من ألفوا في هذا الباب أمثلة كثيرة، وكان من شأن توظيف الكلمات الدارجة العامية ـ خاصة المصرية منها والمغربية ـ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أن مكن الكتاب من إضافة بعض القيمة الأدبية، المتمثلة في التصوير الفني للوقائع والأحداث، وللمشاهد والمواقف المختلفة، ثم تقريبها أكثر من القارئ، وذلك بقصد أن تنجلي في ذهنه، ورغبة من جهة ثانية في الحفاظ على الشحنة الدلالية للألفاظ والعبارات العامية في سياقات تعبيرية محددة، والباعث على هذه الرغبة، هو الحرص على نقلها بأمانة إلى المتلقي.
    أما وقد بلغنا هذه الغاية من الختم، فإننا نأمل أن تكون هذه المساهمة المقالية المتواضعة باعثا على بحث ودراسة أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، ومثيرا في ذات الوقت لأكثر ما يمكن من الأسئلة النقدية ذات الصلة بأدب السيرة الذاتية، الذي لقي غير يسير من التهميش، بقدر ما ناله من التجاهل نيلا منكرا ... فهل من رد للإعتبار؟
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  8. #8
    بسم الله الرحمن الرحيم
    أدب السيرة الذاتية الإسلامية واغتراب الذات المسلمة في العصر الحديث
    (المقالة السادسة)
    تعتبر مقولة "الاغتراب" من أكثر القضايا إثارة للجدل، ليس بسبب ما يكتنف معناها، أو ما يشوب أبعادها الدلالية من غموض، ولكن بسبب كثرة المفاهيم التي صيغت ووضعت لها، ثم تنوع استعمالها وتوظيفها في سياقات مختلفة؛ إنها من قضايا الإنسان الكبرى التي لا تتغير مع توالي الأزمان، باعتبار صلتها الوثيقة بوجوده ومصيره.
    ولا شك أن الاغتراب ظاهرة إنسانية، ومكون من جملة المكونات الخاصة بالطبيعة البشرية؛ بل إنه معاناة ناتجة عن ذلك الاصطدام بين المؤثرات الخارجية، أو طبيعة الحياة السائدة في محيط اجتماعي معين من جهة والقيم الإنسانية الراسخة من جهة ثانية، سواء في الذات الفردية أم في الذات الجماعية، باعتبار أن الاغتراب حال تعتري الفرد بقدر ما تعتري الجماعة.
    ثم إن للاغتراب آثارا مختلفة ومتضاربة إلى حد التناقض، إذ أن بعض الناس يرون فيه تجربة رهيبة لا تنتهي، بينما يعيشه البعض الآخر راضيا مطمئنا، بعد أن تعذر عليه الانسجام مع محيطه الاجتماعي وبيئته المكانية، التي هيمن فيها كل ما هو دخيل على ما هو أصيل، لكن المعاناة الإنسانية، بدون شك، تزداد شدة وحدة في واقع تهيمن فيه المتغيرات والانحرافات على كافة المستويات، والتي يتم تكريسها بالقوة والإكراه على حساب الثوابت ومناهج الحياة السوية، حتى إن طغيان كل ما هو دخيل وغريب في المجتمع الإسلامي جعل الإنسان المسلم يحس بالاغتراب المتعدد الأوجه، فهو غريب عن ذاته، وعن بني قومه، وعن ثقافته وتاريخه.
    ومن المرجح أن نعثر على جذور اغتراب معين في داخل كل ذات إنسانية وفي كل عمل أدبي، إلا أن الاغتراب كيف ما كانت طبيعته، يزداد حدة و تشعبا مع مرور الزمن، وما تعانيه المجتمعات الإنسانية من اغتراب في العصر الحديث شاهد على هذه الحقيقة، وهو العصر الذي غدا فيه الاغتراب شعارا وسمة غالبة، واكتسب فيه مفهومه عمقاملحوظا، بسبب ما تعرفه العلاقات الاجتماعية من تعقيدات، وما تشهده المجتمعات من تطور، وكذلك بسبب ما خلفه الاستعمار بكل أشكاله من آثار سلبية، وما أفرزته الحضارة المادية مـن سموم مدمرة للإنسان، وقاتلة للحياة الإنسانية.
    أ ـ الاغتراب الديني
    إن الشعور أو الإحساس بالاغتراب يختلف من إنسان إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، تبعا لطبيعة المجتمع والعصر من حيث القيم، والثقافة، والعقيدة الدينية السائدة فيهما، مع أن ظاهرة الاغتراب، سواء في العالم العربي الإسلامي أم في البلاد الغربية، تتخذ في الغالب سمات متنوعة، وتتجسد تبعا لظروف متباينة، لكن ثمة قاسما مشتركا ورئيسا، ذا طبيعة كونية بين الذوات المسلمة، بالإمكان أن نصفه بعبارة " الاغتراب الديني".
    هذا لا يعني أن الاغتراب الديني أو العقدي هو الوحيد الذي يعد قاسما مشتركا بين مجموع الأفراد الذين يدينون بالإسلام ؛ بل إن سمة الكونية تشمل قواسم مشتركة أخرى بين هؤلاء الأفراد، نذكر منها على سبيل المثال: "الاغتراب الاجتماعي" و"الاغتراب الفكري" و"الاغتراب العرقي" و"الاغتراب البيئي"، هذا فضلا عن كون ما نلمسه من اغتراب متمثل في افتقاد حرارة العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواحد، وتنامي ظاهرة الإلحاد، والافتقار إلى الشعور بمعنى الحياة.
    والظاهر أن الإحساس بالاغتراب الديني من جهة، ومكابدة الاغتراب المتعدد الصفات من جهة ثانية، كان من أهم البواعث على كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، التي أتاحت لمؤلفيها صياغة شكل من أشكال تجاوز المعاناة، واسترداد بعض التوازن الذاتي من خلال التعبير عن عمق الحياة الباطنية والروحية.
    إن الذات المسلمة، عربية كانت أم غربية، تعاني اغترابا شديدا في العصر الحديث، سواء داخل وسطها الاجتماعي القومي أم في الوسط الاجتماعي العالمي؛ إنها تخوض مواجهة كبيرة ضد قوى الشر المعاكسة، التي تسخر وتحشد جهودها في حرب عنيفة حادة، مكشوفة حينا، ومقنعة أحيانا، من أجل القضاء على الإسلام وطمس الشخصية الإسلامية.
    ثم إن الإنسان المسلم ينظر إلى هذه المواجهة على أنها من سنن الحياة الإنسانية، التي تتجاذبها أسباب الخير والشر، وهي نفس الأسباب الدائرة في حلقة الاكتشاف والاكتساب، والمتدافعة كذلك في أعماق الإنسان، الذي لا تنفصل حياته عن عالمي: المادة والروح، بحيث تنظر الذات المسلمة إلى الواقع ببعديه: المادي والروحي، وتعي جيدا أن الكائن البشري يعاني في حياته الدنيوية من الضعف والضياع، بحكم اضطراب قواعده وقوانينه الموضوعة، وثبوت القوانين والقواعد التي سنها الله عز وجل لعباده في الأرض.
    إن الذات العربية المسلمة في العصر الحديث، سواء المغتربة بعقيدتها أم المغتربة عن عقيدتها، تعيش وضعا مضطربا أشد الاضطراب، وجدت نفسها فيه مكرهة، وقد أحاطت بها عادات وتقاليد، وتصورات وسلوكيات، ومواد ثقافية ومناهج لا صلة لها بالإسلام، فكان حالها بوجه عام يشجع على العزلة والانفصال، أكثر مما يشجع على الاندماج والاتصال، بحكم أن الواقع الذي تم فرضه عليها يناقض التصور والمنهج الإسلامي ويصـطدم به.
    ثم إن الذات العربية المغتربة بعقيدتها، بذلت كل الجهد في سبيل الحفاظ على شخصيتها الإسلامية، فبدأت بالعودة إلى الإسلام، بقصد فهمه على حقيقته وتمثله بكيفية دقيقة، فكانت هذه العودة بالنسبة إليها جد ضرورية وحاسمة، وذلك حتى تستقيم لديها مبادئ الإسلام وقيمه، ويتضح في ذهنها التصور والمنهج الإسلامي الشامل، وقد أقدمت على هذه الخطوة لأنها أدركت بأن قضية العقيدة، المتمثلة في علاقة الكائن العاقل بخالقه، وبالكون، وبالأحياء، هي أولى القضايا وكبراها.
    لقد سعت الذات العربية المسلمة، المغتربة دينيا، في وسطها الاجتماعي أن تجمع بين اعتزال الأجواء الفاسدة والمختلة في الحياة، وربط الاتصال و بناء التواصل مع الجماعة الإنسانية، وذلك بقصد التأثير فيها، والاتفاق معها على رؤية عقدية واحدة، تتمكن الذات العربية المسلمة من خلالها من تجاوز اغترابها الديني من جهة، وتكسير اغتراب مجتمعها العربي عن جوهر عقيدته الإسلامية من جهة ثانية.
    وإذا كان الشعور بالاغتراب يجسد واقعا مشتركا بين الذات العربية المسلمة والذات المهتدية إلى الإسلام، سواء الغربية منها أم الأجنبية، فإن ثمة تمايزا بين الاغترابين من حيث الطبيعة، والمدلول، والرؤية، والموقع الخاص بكل ذات على حدة، بحكم التفاوت في درجات حدة ذلك الإحساس أولا، وباعتبار أن الذات العربية المسلمة تنتمي إلى واقع إنساني واجتماعي معين، له معطيات وسمات ذاتية بارزة.
    وكذلك الذات الأجنبية المسلمة لها واقع فردي وجماعي تنتسب إليه نشأة وثقافة، خاصة قبل دخولها في الإسلام، حيث كانت على دين أهلها، أو كانت على قيد حياة بغير معتقد، هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من التناقضات تسود بيئة كل من الذات العربية والأجنبية.
    إن الذات العربية المسلمة تعاني وتقاوم في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام والدعوة إليه، أما الذات الغربية فتعيش معاناة من نوع آخر في سبيل العثور على حقيقتها المفقودة وسعادتها الضائعة، فتندفع بكل قوتها إلى البحث وطرح السؤال العقدي حول الدين الحق وسط تراكمات الجهل بطبيعة الأمور والمعرفة الخاطئة، وفي ظل صراع ذاتي ضد حقد دفين وكره لا حدود له للإسلام والمسلمين، تناقلته أجيال الغرب منذ الحروب الصليبية الأولى توارثا واكتسابا.
    ولا شك أن الأجواء المظلمة والمعاكسة، التي تحيط بالذات الغربية والأجنبية بوجه عام، تفسد عليها الحياة السوية، وتعمل على حجب الوجهة السليمة عنها، ولكن بقدر ما تشتد معاناة الإنسان الغربي، الذي يجتهد في سبيل التخلص من كل وعي خاطئ، أو فكرة موروثة، أو حكم مسبق جاهز، فإن القوة الدافعة له تتضاعف في مسار تحقيق التوازن بين التوازن بين عالمه المادي وحياته الروحية.
    ثم ما إن تعلن الذات الغربية والأجنبية عموما إسلامها جهارا في وسطها الاجتماعي حتى تبدأ أطوار اغترابها بين أهلها وقومها، فتتفاقم الهوة بينها وبينهم، لتدخل بعد ذلك شيئا فشيئا في شبه عزلة، وقد يتم اتهام كل من دخل في الإسلام بما يمكن تسميته بالخيانة الدينية، أو الارتداد عن دين الآباء والأجداد، فيظل في نظر أغلب قومه كائنا شاذا عن القاعدة، ومعتلا في عداد المرضى.
    أما الإنسان المهتدي إلى الإسلام، فينظر إلى الخطوة التي أقدم عليها من زاوية أخرى مغايرة تماما، فهو يرى أن ما قام به من فعل وبادر إليه ، إنما جاء ثمرة لرحلة طويلة شاقة، واهتدى إليه بعد بحث جاد وجهد كبير، تطلب منه الصبر والأناة، وعمرا غير هين أنفقه حتى يتمكن من تجاوز المعرفة الخاطئة حول الإسلام، التي نجد لها جذورا عميقة في الأدب والفكر السياسي الغربي القديم.
    ب ـ الاغتراب العرقي
    لقد شهد تاريخ البشرية على امتداده وحتى يومنا هذا كثيرا من وصمات الغار والتردي، التي ستظل وشما أسود لا يمحي من جبين الإنسانية، ومأساة ذات أثر عميق في الذاكرة الجماعية الحافظة جيدا لتفاصيل الواقع الرهيب، الذي لا يزال معاينا بين الناس، كما عاينه أسلافهم قديما داخل أوساطهم الاجتماعية، حيث كان غير قليل من الأقوام يستعبد بعضهم بعضا، ويدسون في حياتهم اليومية سموم النزعات العرقية والتمييز العنصر، وقد رفع عنترة بن شداد العبسي، المتوفى سنة 22 قبل الهجرة/ 600 للميلاد، صوته في العصر الجاهلي محتجا على قومه الذين نبذوه لسواد بشرته.
    وفي قلب العالم الغربي، وهو أكبر مسرح لظاهرة التمييز العرقي العنصري، صارت وحدة الإنسان متكسرة وممزقة في ذاكرة السود الجماعية، وغدا الكائن الاجتماعي موضوعا للعبث وعرضة للتصنيفات والأهواء، وعلى إثر هذه النظرة المنحرفة، وهذه النزعة العدائية، أرادت قوى الشر للإنسان أن يتحول إلى كائن متعدد، وأن يخضع للتصنيف تبعا لدرجات متفاوتة في القيمة.
    ولم تكن ظاهرة العنصرية الحديثة إلا امتدادا لإرث أوربي قديم، ولقد كان اليونانيون والرومانيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أهل مدنية، وأن غيرهم متوحشون، ومنذ عهد قديم والأوربيون يتوهمون تفوقهم العرقي على سائر الشعوب، ويعدونه أمرا حتميا لا جدال فيه.
    ثم إن الاعتقاد في العصر الحديث ساد داخل الأوساط الغربية المنحرفة بكون الجنس الأبيض هو أرقى الأجناس البشرية، وأن مجتمع السود أو الزنوج هو أحطها؛ بل إن هذه الآفة لم تقف عند هذا الحد، إذ سعى الكثيرون بدافع الحقد والعدوانية إلى تجريد الإنسان الأسود من هويته الآدمية، بدعوى أن له بشرة سوداء، وأن السواد لون يميز العبيد الضعفاء، والبياض لون يميز الأسياد الأقوياء.
    إن أنماط الاغتراب العرقي كثيرة ومتنوعة، لكن أبرزها على الإطلاق، ظاهرة اغتراب المسلمين السود في البلاد الأوربية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، لذلك سنتخذ من هذه الظاهرة نموذجا متميزا في إطار مسألة الاغتراب العرقي، خاصة وأنها تجسد اغترابا مزدوجا، يعانيه المسلمون السود في أمريكا تحديدا؛ إنه اغتراب عرقي من جهة، واغتراب ديني من جهة ثانية.
    ومن أهم القادة الذيـن شاركوا في قيادة جماعة ( المسلمين ) السود وتعاقبوا على زعامتها، نذكر : مالكولم إكس ( MALCOLM X )، الذي نشأ داخل الولايات المتحدة الأمريكية في أجواء تضيق بالتمييز العنصري بين البيض والزنوج، وبعد أن سلك سبيل الجريمة، دخل السجن، وفيه تعرف على ( الإسلام ) من خلال بعض الكتب ومجموعة من الرسائل، التي كانت تصله من إليجاه محمد، ثم إنه خرج من السجن منتصرا لما تعتقده جماعة أمة الإسلام من أفكار ومبادئ منحرفة عن الإسلام.
    وبعدما دخل الحركة سرعان ما تمكن من منافسة زعيمها إليجاه ( ILIJAH ) في مجال دعوة السود داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانضمام لجماعة أمة الإسلام، وفي سنة 1964 للميلاد أتاح له الحج إلى مكة، التعرف أكثر على الإسلام والوقوف على حقيقته، وأسسه، وتعاليمه، فكان من الطبيعي أن يتراجع عن نظرته العنصرية اتجاه الإنسان الأبيض، ويطهر نفسه من الحقد الذي لم يفارقه منذ صباه، ومن ثم رأى من واجبه أن يسعى إلى تصحيح حقيقة الإسلام داخل جماعة ( المسلمين ) السود ، وهذا ما أثار إليجاه (ILIJAH )، الذي كان قد أسرف في الانحراف عن التعاليم الإسلامية.
    أما إليجاه محمد، فقد ظل ينادي بقيام دولة مستقلة في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بالسود حتى وفاته، ومنذ هذا التاريخ بدأت تتحسن أوضاع وأفكار جماعة أمة الإسلام، إذ أخذت تقترب هذه الأقلية المسلمة من المفاهيم الإسلامية الصحيحة بالجهود المبذولة من طرف المصلحين، وخاصة منهم وارث الدين (ابن الزعيم إليجاه محمد)، الذي عمل على تصحيح ما نشره والده من أفكار خاطئة عن الإسلام.
    ثم إن جماعة أمة الإسلام عملت على نشر تاريخ أسطوري، غريب الوقائع والملابسات، بين السود في أمريكا حول الكيفية التي ظهر بها الرجل الأبيض أو الشيطان، وأول ما نصادفه في هذا التاريخ، لعله من نتاج ما لحق كتاب التوراة من تحريف، هو أن الرجال السود الأوائل أقاموا في مدينة مكة، وكان يوجد بينهم أربعة وعشرين حكيما اعتزلوا باقي السود وتجمعوا في قبيلة الشاباز ( CHABAZ ) القوية، التي يعتبر أفرادها أجداد السود المتواجدين في أمريكا.
    ولقد ترسخ في أذهان جماعة أمة الإسلام أن البيض حرفوا تاريخ الإنسان الأسود، الذي كان يعيش في القارة الأفريقية، وهو الإنسان الذي شيد ممالك وحضارات عظيمة، في حين كان الرجل الأبيض يسكن الكهوف، ويمشي على أربعة قوائم؛ إنه الشيطان الأبيض الذي استغل، وقتل، ونهب، وانتهك حرمات السود وباقي الأجناس الملونة.
    إن الرجل الأبيض في اعتقاد جماعة أمة الإسلام شيطان كان يلقن السود ما يشاء من الأكاذيب والأوهام ، إذ عمل على حشو أدمغتهم بكون السواد هو لعنة على الزنجي، وأن أفريقية موطنهم الأصلي، وقد كانت آهلة بالمتوحشين والوثنيين السود، الذين كانوا كالقردة يتأرجحون على أغصان الأشجار، وأن عليهم أن يتخذوا (المسيحية) دينا لهم، وأن يعبدوا إله السيد الأبيض، ذي الشعر الأشقر، والوجه الشاحب، والعينين الزرقاوين.
    وبهذا الإقتناع، وهذا الصوت الكامن في أعماق السود بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يختزل تاريخا داميا مليئا بالأحداث المشينة والمأساوية، صار الرجل الأبيض أو العرق الأبيض عموما رمزا للشيطان في عرف الإنسان الأسود؛ إنه الشيطان الإنسي الذي خدع السود بلون بشرته البيضاء، وأخفى عنهم باطنه الأسود، وقبح نواياه السوداء، وحقيقة مخبره المظلم الخبيث، فهو الذي سلبهم حريتهم و أعز ما يملكون، وهو أيضا من سعى في طمس تاريخهم وذاكرتهم، واجتهد في اقتلاع جذورهم.
    إن أي وسط اجتماعي تضيق فيه الجماعة الإنسانية بكل ألوان الظلم العرقي والتهميش، لا بد وأن يفرز وعيا جماعيا منفصلا ومستقلا عن الواقع السائد والحياة الوضعية، التي تخدم مصالح فئة دون أخرى، خاصة وأن هذا الوعي تدعمه ذاكرة جريحة تنزف بمآسي كبيرة عاشها الإنسان الأسود، وذلك عندما قضى زمنا طويلا في أسر العبودية، وحيل بينه وبين معرفة هويته، ولسانه القومي، وموطنه الأصلي.
    وإذا كان العالم الغربي مسرحا لتنامي النزعة العنصرية، فإن العالم العربي الإسلامي قد احتضن القوة المضادة لتلك النزعة؛ فبفضل الإسلام اكتسب الإنسان الأسود في أمريكا وعيا جديدا، ووقف بنفسه على مختلف أسباب وأبعاد معاناته وقضيته، فكان من الطبيعي جدا أن يعيد النظر في رؤيته السابقة، ويغير أفق انتظاره دفعة واحدة، بعدما كانت معاناته مسألة التمييز العنصري أمرا مرتقبا ومحتوما داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
    هذه شهادة وخلاصة في آن واحد، وقد انتهى إليها مالكولم إكس (MALCOLM X) أخيرا، بعدما أسهمت آثار الظاهرة العنصرية في تأليف و ترسيخ وعي خاطئ ورؤية عمياء في وسط المجتمع الأسود، الذي قرن أفراده النزعة العرقية على الإطلاق ودون استثناء بالإنسان الأبيض حيثما كان.
    ثم إن الظلم الذي عاشه الإنسان الأسود في أمريكا، والصراع العنيف الذي فرض عليه خوض غماره كرها من أجل الحياة الكريمة، والحرية وإثبات الوجود، ثم بحثه عن جذوره وتأكيد إنسانيته؛ جميع هذه العوامل جعلته من جهة يصدرأحكاما من قلب واقع اجتماعي فاسد، تفشى فيه التمييز العرقي وبلغ أقصى الحدود، ويواجه من جهة ثانية حقد الأمريكيين البيض بحقد أقوى منه وأشد؛ بل جعله يستسلم بالرغم منه لسلطة الغضب.
    تلك كانت عقدة الإنسان الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك هو الواقع المأساوي الذي شغل كل تفكيره وما يزال حتى يومنا هذا، بعدما تحولت معاناته الشديدة إلى لازمة منكرة، تقتحم حياته الخاصة، وتلاحقه في يقظته ومنامه؛ إنها الشر الذي لا يمل من مطاردته ولا يكف عن ترصده لحظة واحدة، حتى إنه يكاد يشل قدرته على تمييز داء الميز العنصري ووضعه في حجمه الحقيقي.
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  9. #9
    بسم الله الرحمن الرحيم
    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    "الجزء الأول"
    (المقالة السابعة)
    يتفق معظم النقاد والباحثين على أن إقبال القراء على قراءة أدب السيرة الذاتية، لا يرجع إلى إعجابهم بهذا النوع من التعبير، وإنما هو نتيجة لنزوعهم نحو البحث عن ذواتهم في سير الآخرين، ورغبتهم في الكشف عن مختلف جوانب الحياة المشابهة لما عاشوه ومروا به من تجارب.
    ولا شك أن القارئ الحديث والمعاصر يرغب في أن يرى ذاته في حياة غيره من الأدباء، والدعاة، وأهل الفكر، والعلماء، والمؤرخين، والساسة وغيرهم من ذوي الخبرة، والاختصاص، والموسوعية، والتجارب الإنسانية الحية.
    ثم إن متلقي هذا اللون الأدبي حريص على المشاركة الوجدانية، يبعثه على ذلك التطلع إلى المثل العليا، والوقوف على ما يزخر به واقع الحياة من صور وتجليات، وكذا النفاذ إلى ما هو ماثل في مختلف السير الذاتية من مظاهر القوة وأسباب الضعف، ثم اتخاذ هذه الأعمال الأدبية مراء تساعده على اكتشاف نفسه، فيتنامى شعوره بها وإدراكه لها، من خلال ما يصادفه ـ في كل سيرة ذاتية يقرأها ـ من تجارب ومواقف كثيرة ومتنوعة، منها ما يبعث على التفكير والتأمل، ومنها ما يثير في النفس انفعالات متفقة وأخرى متناقضة، ومنها ما هو للذكرى وللاعتبار.
    ومما لا ريب فيه أن الذات المتلقية في حاجة دائمة إلى نتاج الذات الكاتبة، بقدر ما أن مؤلف الأعمال الأدبية عموما، وصاحب السيرة الذاتية بصفة خاصة هما في حاجة مستمرة كذلك إلى القارئ، علما بأن الذات، سواء كانت كاتبة أم متلقية، تحاول الانفصال عن نفسها إلى حين، وذلك بقصد تعميق تجربتها الفردية في ضوء تجارب الآخرين وخبراتهم، وهذا النزوع الجدلي هو الذي يمكن الكائن الاجتماعي من تحقيق ذاته عبر التواصل الإنساني.
    وبناء على ما تقدم من استقراء، نلاحظ أن في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ما يثير لدى القارئ جملة من ردود الأفعال، وهذا طبيعي إذا ما علمنا أن الذاكرة المشتركة بين الكاتب والقارئ هي الأساس في اشتغال نظام الأفعال ومختلف ردودها ضمن سياق فني معين، لا سيما وأن لجميع الناس تجارب وخبرات مماثلة، هي من بين القواسم المشتركة بينهم، حتى إنه لا نستطيع أن نقر بشيء لا يعني غير فرد واحد دون سائر الناس.
    ثم إن المقصود بالذاكرة المشتركة أو الجماعية، تلك المواضعات الأدبية والقيم المتنوعة من جهة أولى، ومجموع العوالم، والظواهر ومناحي الحياة، التي تمثل قواسم مشتركة بين الذوات من جهة ثانية، وكذا تلك التجارب الواقعية التي تتشابه ملامحها ومعطياتها، وتصل بخيط رفيع حياة الكاتب بحياة القارئ.
    إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة خطاب مثير بالنسبة إلى القارئ، الذي يتوفر على مرجعية وشبكة معقدة من التجارب الفردية والجماعية، فضلا عن مخزونه الثقافي، إذ الملاحظ أن ثمة توازيا بين التأثير الذي يحدثه خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية الحديثة في ذهن المتلقي، والأثر الذي يستشعره الكاتب أثناء قيامه بعملية السرد أو الحكي الذاتي.
    ولا شك أن فعل القراءة المنجز من طرف المتلقي هو المسؤول الأول، والعامل الأساس في تحديد طبيعة التواصل الأدبي بين صاحب السيرة ومتلقيها، الذي يجد نفسه متقلبا بين التماهي والقبول، والانفصال والتعارض؛ إنها قراءة ذاتية في المقام الأول، يتفاعل من خلالها المتلقي مع هذا اللون من الإنتاج الأدبي، ذي الطبيعة المتميزة والرؤية الخاصة، وهذا من شأنه أن يغذي فضاء الإنتاجات المقروءة بكثافة حوارية، ويبعث في مسارها حركة نقدية منتجة.
    فما يسرده المؤلف من تجارب ذاتية لا يعكس فقط حياته الخاصة؛ بل إنه يجلي في آن واحد حياة القارئ، وهذه الوظيفة التي تبدو للوهلة الأولى ـ في نظر البعض ـ غريبة عن جنس السيرة الذاتية، قد أقرها كثير من المتمرسين في هذا الفن الأدبي، الذي يمثل مرآة إبداعية ينظر فيها المتلقي إلى نفسه، ونافذة يطل منها على ذاته، وغالبا ما يعثر على ما يماثل بعضا من تجاربه الحياتية معروضا أمامه إلى درجة التماهي في كثير من الأحيان.
    ومؤكد أن القارئ يتحول إلى شخص معني بما تفشيه العديد من المقامات الخطابية، والمقاطع السردية، والوصفية، والحوارية من أسرار، ومواضيع، وقضايا، ومن بين ما يثبت لنا هذه الحقيقة ويشهد لها ـ على سبيل المثال ـ تجارب الطفولة والمراهقة، التي تشغل حيزا جد هام في أدب السيرة الذاتية، وتأخذ من ناحية ثانية باهتمام القارئ، بحيث إذا كان الكاتب يحاول أن يبعث ماضيه ليحياه ثانية، فإن القارئ يطمح إلى الغاية ذاتها دون أدنى شك، لا سيما وهو يلتمس لدى صاحب السيرة الذاتية تلك القدرة على الإفصاح عما يحس ويشعر به؛ إنه يطمع في أن ينجح الكاتب، باعتباره مؤهلا بامتياز، في ما فشل فيه هو.
    ثم إن ما نستطيع تسجيله من جملة الملاحظات في المتن العام لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وإن كانت هذه الملاحظة/ الظاهرة ليست وقفا عليه بطبيعة الحال، تلك الفراغات أو البياضات المتمثلة في نقط الحذف المبثوثة هنا وهناك في سياقات مختلفة، وهي في الغالب تفشي للقارئ بحمولتها المخفية أو الضمنية، وكأن الذات الكاتبة توجه دعوة من خلال تلك الفراغات إلى القارئ حتى يسهم بمخيلة وسرعة بديهته في ملئها وإنطاقها، وسيكون بذلك قد أضاء ما هي فيه من عتمة، وخلصها من قيود الصمت.
    ونحن نعتقد بأن القارئ يبحث جاهدا عن التعبير الذي يعكس حقيقة نفسه من خلال أدب السيرة الذاتية، ولا يخفى ما لنهج كتاب السيرة الذاتية في الحياة من تأثير كبير على سلوك المتلقين لأدبهم الذاتي، وهو في الغالب تأثير مفيد، لأن قراءة العديد من السير الذاتية من طرف المتلقين تسمو بهم إلى حيث يتكامل الفكر والإبداع.
    إن الخلاصة التي بإمكان المتلقي أن يخرج بها من مجموع التجارب الإنسانية، التي يصادفها عند قراءته لأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، لا تخلو من متعة ذهنية، بقدر ما أنها لا تفتقر إلى مواد معرفية متنوعة ومفيدة تغني حياة القارئ، ويكفي أنها تشتمل على عصارة التفاعل المتبادل من جهة بين الإنسان ومجموع أفكاره، واقتناعاته، ومعتقداته، وبينه وبين الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها ـ بحكم ما هو مشترك بينهما من بيئة، وثقافة، ودين، ولغة، و غيرها من الخصائص الرئيسة المجسدة للهوية الإسلامية من ناحية ثانية.
    وعلى هذا الأساس سيظل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من أبرز الآداب العالمية تميزا وإثارة، ويكفي أنه يمثل علامة ثقافية مضيئة، وإسهاما معرفيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، في وقت أخذت فيه السيرة الذاتية بوجه عام شكل الظاهرة الثقافية في العالم بأسره، وإذا كانت السير الذاتية تشهد إقبالا كبيرا من طرف القراء في العالم الغربي المعاصر، فإن هذه الحقيقة بدأت تشمل قراء العالم العربي الإسلامي.
    وإذا كان الكتاب يفصحون عن بعض البواعث لهم على تأليف سيرهم الذاتية، فكيف السبيل إلى الكشف عن بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والقراء خلافا للكتاب لا يفصحون عادة عن الأسباب الباعثة لهم على قراءة السير الذاتية؟
    ثم إذا كان أصحاب السير الذاتية عاجزون عن بلوغ المعرفة الدقيقة باهتمامات القراء المسبقة بأدب السيرة الذاتية، وبحقيقة ما يبعثهم على تلقي هذا الضرب من الأدب، فإنهم على ما يبدو يراهنون على فضول القارئ في المقام الأول، ولا يعملون على إثارة هذه الخاصية أو القوة الكامنة فيه أصلا، وكثيرا ما يتمكنون من استدراج المتلقي، وتوجيه اهتمامه إلى النص السير الذاتي، باعتباره علامة مجهولة بالنسبة إليه، وبؤرة أسئلة وحقائق متعددة، ومتشابكة، ومثيرة أحيانا.
    وما نعتقده كذلك في سياق هذا المحور، هو أن بواعث قراءة السير الذاتية عموما، والسير الذاتية الإسلامية الحديثة خاصة، تتجسد في نمطين من الفضول الفردي:
    الأول: فضول فردي صريح، لا يجد القارئ المتلقي حرجا في الجهر به، والكشف عنه، بناء على إدراك يطمئن إليه، ووعي يتمثل فصوله من خلاله، باعتباره رغبة إنسانية سوية غير منحرفة، تبعثه على معرفة أمور يجهلها، وتوجهه إلى قراءة أدب السيرة الذاتية، لكونه من الآداب التي تستجيب لحاجاته، الثقافية، والنفسية، والروحية، وتتلاءم مع طبيعة فضوله ورغبته في توسيع مداركه المعرفية.
    الثاني: فضول فردي غير صريح، لا يتم الإعلان أو الكشف عنه من طرف القارئ، بحيث يحتفظ به لنفسه ويخفي حقيقته؛ إنه ضرب من الفضول الذاتي الذي ينشأ من بواعث يصعب على المتلقي الإفصاح عنها، وهي غالبا متمثلة في نزوعه ـ بناء على رغبة فردية واعية أو عير واعية ـ إلى رفع الحجاب عما يجتهد صاحب السيرة في ستره ومواراته، إما لأنه من العورات، وإما أنه من جنس ما يخدش الحياء، ويمس بالأخلاق والمروءة.
    أما المؤكد، فهو أن ثمة ذاكرة مشتركة بين بواعث التلقي وبواعث الكتابة في دائرة أدب السيرة الذاتية على المستوى العام، وفي فضاء أدب السيرة الذاتية الإسلامية بصفة خاصة، إذ أن بواعث التلقي والكتابة، على تعددها وتشعبها، يذكر بعضها ببعض، إلى حد توحي فيه بالتماهي والتطابق في ما بينها.
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

  10. #10
    بسم الله الرحمن الرحيم
    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    "الجزء الثاني"
    بالإمكان أن نتحدث عن ضرب آخر من البواعث على قراءة أدب السيرة الذاتية، ومنه بطبيعة الحال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهو نمط مغاير يتجاوز دائرة الفضول العفوي أو التلقائي إلى دائرة الفضول المنهجي أو العلمي، القائم على طلب المعرفة القصوى بقضايا وظواهر معينة، وجميع البواعث المندرجة في حقل هذا النمط من الفضول الذاتي المكتسب صادرة عن هاجس علمي، يكتسبه القارئ بفعل تراكم الخبرات لديه، وتفاعله مع التجارب التي عاشها في حياته العامة والخاصة، ومن بين أهم بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ بناء على ما وقفنا عليه من قراءات وتلقيات في كتابات طائفة من نقاد هذا الأدب ـ الصادرة عن هذا الجنس من الفضول، نذكر:
    أولا: باعث المقارنة والبحث عن الذات، وهو أحد الأسباب التي تدفع بالقارئ إلى عقد مقارنة بينه وبين صاحب السيرة، وهو في هذه الحال يهدف إلى التعرف على ذاته، وإيضاح غموض شخصيته، والنفاذ إلى عمق حياته الفردية، أكثر مما يهدف إلى الإحاطة النسبية بذات المؤلف، ومن الخطأ أن يعتقد المرء بأن شريط ذكرياته لا يؤثر إلا فيه دون غيره؛ بل إن صدق كاتب السيرة الذاتية في الكشف عن نفسه كفيل بمنح الفرصة للآخرين حتى يكتشفوا ذواتهم.
    ثانيا: باعث الاكتساب المعرفي، وهو سبب آخر يثير ما لدى القارئ من فضول منهجي أو علمي، فيجعله يتناول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رغبة منه في تحصيل معرفة محددة أو جملة من المعارف الإنسانية: تاريخية كانت، أم أدبية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم فكرية وغيرها، أو محاولة منه لاكتساب خبرة معينة أو نهج في الحياة، وهذا الباعث متعدد الأوجه، لأن المتلقي غالبا ما يترصد في السيرة الذاتية ما يكتبه صاحبها بصفته شاهدا على نفسه من ناحية، وشاهدا على ما يحيط به من جهة ثانية.
    ثالثا: باعث البحث عن الحقيقة، وهو دافع يلتمس القارئ في ظل تأثيره وفاعليته معرفة حقيقة معينة أو مجموعة من الحقائق، ظل يستفهم بشأنها ـ لمدة قصيرة أو طويلة ـ كثيرا، وربما تحول لديه بعضها إلى هاجس وقلق ملازم له طوال الوقت، وهذا الباعث بدوره له مظاهر متنوعة، إذ قد يسعى القارئ إلى العثور بين ثنايا أي سيرة ذاتية على حقيقة تاريخية، أو اجتماعية، أو عقدية، أو سياسية وغيرها.
    ومن المؤكد أن بواعث قراءة السيرة الذاتية الحديثة ذات الصفة الإسلامية، ترتبط أصلا ببواعث كتابتها والغايات المرجوة منها، بالإضافة إلى صلتها الوثيقة بمنازع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه عموما، فشأن بواعث القراءة والتلقي ـ من حيث الكثرة والتنوع ـ كشأن بواعث الكتابة، باعتبار أن هذا اللون من الأدب الإسلامي لا يتم إنتاجه استجابة لباعث واحد، وإنما يتشعب منحى الدافع إلى التأليف، بقدر ما يتشعب مسار الباعث على الكتابة.
    فما هي بواعث القراءة القائمة والكائنة من ناحية، والممكنة والمحتملة من ناحية ثانية، إذا ما حاولنا استخلاصها وتحديدها من خلال طبيعة، ومضامين، وعوالم هذا الضرب من الأدب الإسلامي الحديث؟ وفي ضوء الكيفية التي يتم بها تلقيه من طرف نقاد أدب السيرة الذاتية؟
    في مستهل الإجابة على هذا السؤال، تقتضي الضرورة المنهجية أن نشير إلى أن قراء هذا اللون من التعبير الأدبي ذي الصبغة الإسلامية ليسوا طائفة واحدة، تتواصل مع أصحاب السير الذاتية أو في ما بينها بلغة واحدة ، كما أنهم لا ينتمون إلى حضارة وثقافة واحدة، ولا يدينون بنفس العقيدة؛ بل إنهم متلقون تختلف ألسنة تخاطبهم وتواصلهم، وتتمايز بيئاتهم وعقائدهم، إذ هم باعتبار عنصري اللغة والدين أربع طوائف:
    أولا: طائفة القراء العرب
    ثانيا: طائفة القراء العرب المسلمين
    ثالثا: طائفة القراء الأجانب
    رابعا: طائفة القراء الأجانب المسلمين.
    فتبعا لهذا التصنيف، نلاحظ أن بين الطائفتين: الأولى والثانية قاسما مشتركا يتمثل في عنصر اللغة، ومن ثم فإن لهما ذاكرة لغوية مشتركة، كذلك نفس القاسم يجمع بين الطائفتين: الثالثة والرابعة، في حين أن عنصر العقيدة الإسلامية يمثل قاسما وذاكرة مشتركة بين الطائفتين: الثانية والرابعة.
    ومن جهة ثانية نرى أن نذكر في هذا المقام بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة غير صادر عن ذات واحدة، بحكم الخصائص التالية المميزة له، وهي: الانتماء القومي والتواصل اللغوي، والتراث الثقافي؛ إنها خصائص تدل على أن هذا الخطاب موزع بين فئتين من الكتاب:
    الأولى: يمثلها الكتاب العرب المسلمون.
    الثانية: يمثلها الكتاب الأجانب المسلمون.
    ثم إن لكل قارئ، ولكل طائفة من القراء ـ كما سبق ورأينا ـ زوايا اهتمام مفترضة ومحتملة بأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، وهي كثيرة يصعب حصرها، ومختلفة يعسر ضبطها، لكنها شديدة الارتباط بنوع التساؤلات من ناحية، وبطبيعة الانشغالات الفردية والجماعية من ناحية ثانية، وهي استفهامات واهتمامات يغذيها حظ غير قليل من الفضول والحدس، سواء كانا ذوا طبيعة تلقائية أم منهجية، وبإمكاننا أن نلمح بجلاء مدار احتفال المتلقي بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور: الأول: محور الإسلام (العقيدة).
    الثاني: محور الذات المسلمة (الإنسان المسلم).
    الثالث: محور التجربة الإسلامية الواقعية (الفعل والحدث).
    إن أهم بواعث القراءة والتلقي، المتصلة بهذه المحاور الثلاثة، هي بواعث كبرى، يكاد خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينفرد بها، بفعل الخصائص الإسلامية المميزة له، دون سائر الخطابات الأدبية، التي لا يدين أصحابها بالإسلام، وهي ذات الخصائص التي ستجعله يستقطب اهتمام مختلف القراء، سواء العرب منهم أم الأجانب.
    فالمسألة تتعلق أصلا بالرغبة في التعرف على حقيقة العلاقة التي تجمع بين الإنسان والعقيدة الإسلامية، وبين الإنسان والتجربة الإسلامية الواقعية من ناحية ثانية، مما يسمح للمتلقي بتمثل ومقارنة تجليات التواصل بين الذات العربية والإسلام مع تجليات التواصل بين الذات الأجنبية والإسلام، ثم مساءلة التجربة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي في إطار هذه الشبكة من العلاقات التواصلية.
    والراجح في ما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محط اهتمام من طرف الذات المتلقية، وباعثا متشعب الأبعاد والغايات على إنجاز قراءات خصبة وعميقة، هي مادته المتنوعة، وكثافة القضايا والمواضيع الغنية المطروحة فيه، ولم يكن هذا الخطاب ليعدم قاعدة واسعة من أصناف القراء وأنماط القراءات، بدليل انفتاحه على مجالات ينشط فيها الإنسان كثيرا، ويكفي أن نذكر أهم المحاور الخطابية الأكثر حضورا، والتي تبعث المتلقي في الغالب، سواء كان عربيا أم أجنبيا، على تغذية فضوله المعرفي، وعلى اكتشاف ما انفردت به الذوات من تجليات، واستطلاع ما اختزنته الذاكرات من فضاءات زمانية، ومكانية، وحدثية:
    الأول: يتجسد في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة في العالمين: العربي وغير العربي، بحيث أن جانبا كبيرا من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشغله فعل التأريخ للصحوة الإسلامية بمختلف مظاهرها وآثارها، وهو تأريخ في ذات الوقت لمعاناة الذات العربية المسلمة في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام و الحرص عليها، ثم الدعوة إليها بعد ركود حضاري طويل، وفي عصر نشط فيه الاضطهاد، وصار فيه الفراغ الروحي شبه سائد، واستشرى أمر العداء ضد كل ما هو نابع من الإسلام، أو له صلة بالعقيدة الإسلامية.
    الثاني: يتمثل في ظاهرة اعتناق الإسلام، والتي تعتبر بدورها موضوعا مثيرا لفضول القارئ، وإن كانت تمثل مظهرا للصحوة الإسلامية، التي يشهدها العالم اليوم قاطبة، وهي لا تخلو من أهمية في تقدير المتلقي لها وحكمه عليها، باعتبار أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على فعل الشهادة من جهة، والتأريخ لتجربة الإهتداء إلى الإسلام، الغنية بما تجتازه الذات الأجنبية من معاناة من أجل العثور على الدين الحق، وذلك في وسط اجتماعي ينتقص ويزدري كل إنسان يهتدي إلى الإسلام ويدخل فيه.
    ثم إن الذات القارئة تحاول إعادة التوازن المفقود لديها من خلال الاحتفاظ بقيم معينة، وتجاوز الأخطاء والعثرات؛ إنها تجربة يدخل المتلقي غمارها لبناء ذاته من جديد في ضوء تجارب وخبرات الذات الكاتبة، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يحقق غاية مزدوجة يتقاسمها الكاتب والقارئ على حد سواء، باعتبار أن فعلي: الكتابة والقراءة يمثلان متنفسين متميزين، ينفرد الإنسان بالاستفادة منهما، ومن خلالهما تستعيد كل من الذاتين: الكاتبة والقارئة الكثير من انسجامهما وتوازنهما الطبيعي، وتتأملان بعمق وجودهما بمختلف أبعاده.
    هذه حلقة نقدية نضيفها إلى سلسلة المقالات التي سردناها في باب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي حلقة تثير موضوع تلقي هذا الضرب من الأدب، وعسانا مستقبلا، بتوفيق من الله تعالى وسداد منه، نسهب الحديث في شأن هذا الموضوع المحوري الهام ...
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. السيرة الذاتية /منى الراعي
    بواسطة منى الراعي في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 04-09-2017, 02:53 PM
  2. د.محمد حبش/السيرة الذاتية
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-22-2013, 07:13 AM
  3. مقالات في أدب السيرة الذاتية ...
    بواسطة عبد الفتاح أفكوح في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 06-09-2012, 05:47 PM
  4. السيرة الذاتية/د. مصطفى أبو سعد
    بواسطة ندى نحلاوي في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-26-2009, 04:33 AM
  5. مقالات في أدب السيرة الذاتية الإسلامية ...
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 05-05-2007, 07:05 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •