أجيبوا أيها المصريون:


عبيد أنتم أم أحرار؟




قال قائل ممن يحكموننا بالحديد والنار: إن المصريين لا يصلحون للديمقراطية، ولا تصلح الديمقراطية لهم. ومعنى هذا أنه يرانا عبيدا. نعم: عبيدا ورثَنا مع بقية متاعه، ومن حقه أن يصنع بنا ما يشاء دون حسيب أو رقيب. ولم لا، وهو لا يؤمن بأن لنا حقوقا أية حقوق؟ ولم لا وهو لا يؤمن بأن هناك ربا سوف يسأله عما يفعله بنا يوم القيامة؟ ولم لا وهو مطمئن إلى أن أسياده فى الغرب سوف يباركون هذا الذى يفعل حتى وإن تظاهروا بغيره؟ ثم لم لا وهو قد تعود منا الصمت والخنوع والمذلة والخضوع قبل هذا؟ لقد مَرَدَ على أن يضربنا بما فى قدمه فلا نتذمر، ويعتقلنا ويسجننا فلا نتذمر، ويضربنا على وجهنا وصدغنا وقفانا ويَسُوطنا بالكرباج ويَسْحَلنا فلا نتأوه حتى لا نزعجه بآهاتنا، ويشنقنا فلا نصرخ حتى لا ننغص عليه متعته بشنقنا، بل نمضى إلى المشنقة مسبحين بحمده، ممجدين لعظمته، مثنين على عبقريته؟ إذن فنحن المسؤولون عما وصلت إليه حاله معنا، وحالنا معه. نعم نحن المسؤولون. وهو لا يريد أن تتغير هذه المعادلة، لأن تغيرها سوف يحرمه من متع كثيرة لا تقدر بثمن: متع السب والضرب والصفع والسحل والسجن والشنق دون أن يتعرض لمحاسبة، بل دون أن يسمع أنينا، بله اعتراضا، ويا لها من متع! إنها تشعره بأنه إله أو شبه إله، أما احترامه لنا ووضعه إيانا فى الاعتبار فيحوّله بشرًا عاديًّا مثلنا، وهو ما لا يريده بتاتا. وهل مثله حين يخيَّر بين التأليه والتأنيس يختار أن يكون إنسانا لا إلها؟ هل مثله حين يقال له: "أتريد أن تتحكم فى الناس وتصنع بهم ما تشاء دون مراجعة بل بتصفيق وتهليل ومباركة ممن تفعل بهم الأفاعيل أم تريد أن يكون هناك من يسألك عما تفعل ويوقفك عند حدك لا تتخطاه؟" يختار الثانية ويرفض الأولى؟
أوقد قلت: إن الأوباش الذين عاقبنا القدر بأن أركبهم فوق رؤوسنا وأذلنا على أيديهم ينظرون إلينا على أننا عبيد لهم؟ لقد أخطأتُ خطأً فاحشا. ذلك أنهم يَرَوْننا عبادا لهم لا عبيدا. وفرق بين العبيد والعباد: فالعبيد هم عبيد لبشر مثلهم، أما العباد فهم عباد للآلهة. وحتى لو كانوا ينظرون إلينا بوصفنا عبيدهم لا عبادهم، فإننا فى واقع الأمر وحقيقته ليست لنا عندهم أية حق حقوق العبيد التى تعبر عن بعضها الأحاديث النبوية التالية: "من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه"، وعن المعرور بن سويد قال: "رأيت أبا ذر الغفاريرضي الله عنه وعليه حُلّة، وعلى غلامه حُلّة، فسألناه عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أعَيَّرْتَه بأمه؟ ثم قال: إن إخوانكم خَوَلُكم جعلهم الله تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْه مما يأكل، ولْيُلْبِسْه مما يلبس. ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهموعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار. قال سعيد بن مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن حسين، فعمد علي بن حسين رضي الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه"، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه، فإن لم يُجْلِسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي علاجه"، وعن عبد الله بن عمر وقد أعتق مملوكا له فأخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال: "مالي من الأجر ما يساوي هذا. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لطم مملوكا له أو ضربه فكفّارته أن يعتقه"، وعنه صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي. ولكن ليقل: فتاي وفتاتي"، "إذا أدب الرجل أَمَته فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران".
لقد تعود الأوباش على سرقة ملياراتنا وشتمنا واحتقارنا وضربنا وصفعنا وهتك أعراضنا وإذلالنا وسجننا واعتقالنا وقتلنا ونشر السرطان فى أجسادنا وتغريقنا وحرقنا وإدخال العِصِىّ وغير العِصِىّ فى أدبار رجالنا وتسليط حلاليفهم للاعتداء على حرائرنا. ويستغرب الإنسان من هذه السلوكيات من ناس جاؤوا من أصول منحطة، ويتساءل: من أين لهم بهذا التجبر والاستبداد؟ والحق أن تجبرهم واستبدادهم وتألههم إنما هو ثمرة ما يشعرون به من ضعة وحقارة وقلة أصل. ولو كانوا قد نشأوا ورُبُّوا فى بيئة سليمة نظيفة ما فعلوا هذا ولا نظروا إلى الناس بهذه العين المريضة والفكر الشاذ المنحرف. وإن الواحد منهم لتنخلع عيناه ولا يتحدث إليه أحد عن سيرة أبيه وأمه. ومنهم رأس من رؤوسهم كان يحاروه مذيع فى التلفاز ذات مرة، وسأله أيمكن أن يحدث المشاهدين عن والديه، فرد فى قسوة ووقاحة أنْ لا، فأعاد المذيع السؤال فنهره نهرة أقسى من الأولى. وسمعنا أنه بعد انتهاء الحلقة التلفازية شتمه بأبيه وأمه وأسمعه من قاموس السباب المنتقَى ما يكافئ أصله الوضيع. بالله ماذا فى أن يتحدث الإنسان عن أبيه وأمه حتى لو كانا فقيرين من أسفل السلم الاجتماعى كالأغلبية الساحقة من الآباء المصريين؟ إن آباء معظم الناس هم كأَبَوَىْ ذلك السبّاب البليد المشهور بالتناحة وثخانة الجلد والعقل، لكن الفرق بينهم وبينه أن كل مصرى سليم النفس من هؤلاء المنتمين إلى أصل اجتماعى متواضع يفتخر بأن أباه وأمه قد ربياه وعلماه وجعلا منه رجلا يشار إليه بالبنان، وتحملا فى ذلك ما تحملاه فى صبر وتضحية وإيثار، ثم يدعو لهما بالرحمة والمغفرة والجنة والرضوان إذا كانا قد تُوُفِّيا، أو يقبل يديهما إذا كانا لا يزالان على قيد الحياة، أما هو وأمثاله من الحقراء السفلة فيتألهون، وهم يظنون أن تألههم يرفعهم فى عيون الآخرين، على حين أنه يصمهم وصمة عار وشنار، ويُرْدِيهم فى قعر الجحيم حيث تحرقهم ناره، وتذيب قلوبهم الغليظة التى خلت من كل معانى الإنسانية والرحمة، وأكبادهم القاسية الصلبة التى لا تَبِضُّ بقطرةٍ من العطف أو الحنان.
والآن أيها المصريون إنكم اليوم فى امتحان عسير. فإما إلى جنة وإما إلى نار. نعم إما إلى استمرار العبودية التى ترسفون فى أغلالها وظلامها وجوها الراكد الخانق منذ وقت طويل، وإما إلى الانعتاق والحرية وضوئها الساطع وهوائها المنعش. والله ينظر إليكم من فوق سبع سماوات، والتاريخ يُصِيخ إليكم ليعرف ماذا أنتم قائلون لهؤلاء الأوباش المتألهين.