سلسلة الأمن والأمان
(3)
(تابع ) : أهمية الأمن وضرورته


ولمّا جعل القرآن الكريم الأمن جزاءً على استقامة الإيمان وحسن المسلك والصنيع لدى الإنسان كان ذلك دليلاً ساطعاً وبرهاناً قاطعاً على أهمية الأمن وضرورته ، وأنّ من ألبسه الله تعالى لُبوس الأمن والأمان قد حظي بحظوة عظيمة كريمة من الكريم المنّان ، كما في قوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ...}([1]) وقد نكّر لفظ أمن في الآية للتعظيم ؛ تعظيم شأنه([2])، والمعنى : (أنه سبحانه يجعل لهم مكان ماكانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنا ويذهب عنهم أسباب الخوف )([3])، (فيؤمّن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه)([4]). وتمتد هذه المثوبة المتمثلة بالأمن إلى يوم القيامة لتؤمن صاحبها من فزع يومئذ جزاء على إيمانه وقيامه بتكاليف دعوته حيث قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون }([5]).
قال ابن عباس وعكرمة والحسن : ( الحسنة شهادة لاإله إلا الله )([6]) وكذا قال ابن مسعود([7])، وأبو هريرة([8])، كما وتشمل غيرها من الحسنات والطاعات([9])، إذ (لاوجه للتخصيص وإن قال به بعض السلف)([10]).
وأما قوله { وهم من فزع يومئذ آمنون } أي : الذين جاءوا بالحسنة آمنون من فزع عظيم هائل لايقادر قدره([11])، إذ ( لايعتريهم ذلك الفزع الهائل ولا يلحقهم ضرره أصلاً)([12]).
ويظل الأمن مواكبا للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، من بعد الممات حتى يحطوا رحالهم في ظلال الجنات ، حيث مقامهم الآمن المحفوف بالرحمات ، كما أخبر تعالى في آياته البينات { إن المتقين في مقام أمين }([13]).
قرأ نافع وابن عامر في { مُقام } بضم الميم على المصدر ، أي في إقامة ، وقرأ الباقون في { مَقام } بفتح الميم بمعنى: موضع الإقامة حيث يتناول المسكن وغيره([14]).
قال الطبري - رحمه الله تعالى - : (والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان من قرأة الأمصار صحيحتا المعنى)([15]).
وعليه فقد بشرت الآية القرآنية بأنّ ( الذين اتقوا بأداء طاعته واجتناب معاصيه في موضع إقامة أمين في ذلك الموضع مما كان يخاف منه في مقامات الدنيا من الأوصاب والعلل والأنصاب والأحزان)([16]). قال قتادة : ( إي والله : آمنين من الشيطان والأنصاب والأحزان)([17]) ، و ( الأمين ) من قولك : ( أمن الرجل أمانة فهو أمين ، وهو ضد الخائف ، فوصف به المكان إستعارة لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره)([18]).
فالآية القرآنية نوّهت بالأمن جزاء للمتقين لأنّ الأمن أكبر شروط حسن المكان لأنّ الساكن أول ما يطلب الأمن ؛ وهو السلامة من المخاوف والمكاره فإذا كان آمنا في منزله كان مطمئن البال مستقر الحال شاعراً بالنعيم الذي يناله([19]).
وكما وعد عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات بإشاعة الأمن في ربوعهم في الحياة الدنيا وبعد الممات ، تجده قد أوعد الذين جنحوا إلى اجتراح السيئات ، والكفر بالنعمات بسلب الأمن منهم وحجبه عنهم وتجريعهم بدلاً منه الغصات والآهات فقال تعالى { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}([20]).
والإذاقة حقيقتها: إحساس اللسان بأحوال المطعوم ، وهي مستعارة هنا إلى إحساس الألم متمكنا تمكن ذوق الطعام من فم ذائقه لايجد له مدفعا ، كما أن اللباس حقيقته: الشئ الذي يلبس ، وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار ؛ فشبه أثر الجوع والخوف وضررهما الغاشي باللباس بجامع الإحاطة والاشتمال والملازمة([21])؛ إذ يظهر بالجوع والخوف عليهم من الهزال وسوء الحال ما هو كاللباس([22]).
وبهذا صار سلب الأمن مثلا يسوقه القرآن االكريم ليعتبر المعتبر ويتنبه الغافل ، كما أن المتدبر لآيات الكتاب يلحظ أن بسط الأمن في الأوطان دعوة دعا بها إبراهيم خليل الرحمن؛ إذ قال فيما حكاه الله عنه في القرآن { ربّ اجعل هذا البلد آمنا }([23]) فالمقصود بالبلد: مكة المكرمة ، إذ دعا لأهله من ذريته وغيرهم أن يجعله آمنا أي: ذا أمن([24])، وفي موطن آخر قال { ربّ اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام }([25]).
ففي تعريف البلد مع جعله صفة محمول على تعداد السؤال ؛ ففي المرة الأولى دعا ربه - عزوجل - أن يجعل هذا المكان الذي أسكن فيه ذريته { بلدا آمنا } أي : قرية آمنة فيكون دعا بأن يصير بلداً وأن يكون آمناً ، وفي قوله { البلد آمنا } وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به فتلك دعوة له بعد أن صار بلداً([26])، إلحاحا منه في الدعاء لاستتباب الأمن ؛ إذ المطلوب في الدعاء الثاني مجرد الأمن .
وقد يكون المقصود في الدعاء الأول هو الأمن المصحح للسكنى ، وأما الثاني فهو الأمن المعهود([27]).
وتراه عليه السلام ( قدّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشئ آخر من أمور الدين والدنيا )([28]).
ومن جهة أخرى فإن ( أمن البلاد والسبيل يستتبع جميع خصال السعادة والحياة الكريمة ، ويقتضي العدل والعزة والرخاء ، إذ لا أمن بدونها ، وهو يستتبع التعمير والإقبال على ما ينفع )([29]).
ومن كان الله بالأمن قد حباه فقد طيب عيشه في دنياه وأحسن متقبله ومثواه ؛ لذا جعلها الرسول r أحد ثلاث ركائز للسعادة عندما قال: ((من أصبح منكم آمنا في سربه([30]) ، معافىً في جسده ، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))([31]).
فمن تأمل نص الحديث الشريف يلحظ أن الرسول -- صلى الله عليه وسلم قدّم ركيزة الأمن على سائر ركائز السعادة الدنيوية ؛ ذلك أنه مدخل رئيس إليها ؛ إذ الأمن في النفس والمسلك والبلد سبيل إلى العافية التي ينعم بها الجسد ، وفي ظلالهما يتأتى للمرء جمع قوته وقوت الصاحبة والولد .
ومغزى آخر : أنّ مجرد توفير الطعام أو الدواء والعلاج لا يكفي لإسعاد الإنسان وإنما لا بد أن يوفر الأمن أولا وقبل كل شئ .
وفي موطن آخر تجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد شهد بكمال الإسلام والإيمان لمن يشيع بين الناس أجواء الأمن والأمان فقال: (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ))([32]).
وعقد النبي - صلى الله عليه وسلم -الخيرية لمن رجت خيرَه وأمنت شرَّه البرية فقال : (( خيركم مَنْ يرجى خيره ويؤمن شرّه ، وشركم مَنْ لا يرجى خيره ولا يؤمن شره ))([33]).
وعسى أن يفلح ويحط رحاله في جنات الرّبّ ، ذلك الذي أضحى مفتاحا للخير والأمن ينشره في كل درب ، ويوصد أبواب الشر والوصب ، بذا دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -حينما قال: ((فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر ))([34]) .


([1]) سورة النور آية (55).

([2]) انظر:ابن عاشور: التحرير والتنوير 18/287.

([3]) الشوكاني: فتح القدير 4/61.

([4]) الزمخشري: الكشاف 13/25.

([5]) سورة النمل آية (89).

([6]) الطبري: جامع البيان 11/28 ـ29. وانظر البغوي، أبومحمد الحسين بن محمود: معالم التنزيل 3/433. الخازن، علاء الدين علي بن محمد البغدادي ، لباب التأويل في معاني التنزيل، 4/55 ، والألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، 20/37.

([7]) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 3/344.

([8]) انظر: الشوكاني: فتح القدير 4/195.

([9]) انظر: الألوسي: روح المعاني 2/37. البغوي: معالم التنزيل 3/432. الخازن: لباب التأويل 4/551. الشوكاني: فتح القدير 4/195.

([10]) الشوكاني: فتح القدير 4/195.

([11]) انظر: أبوالسعود: إرشاد العقل السليم 4/221. والألوسي: روح المعاني 20/37. والقاسمي: محاسن التأويل 13/92.

([12]) أبوالسعود: إرشاد العقل السليم 4/221. وانظر: القاسمي: محاسن التأويل 13/92.

([13]) سورة الدخان آية (51).

([14]) انظر: الطبري: جامع البيان 13/175. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 16/152. الشوكاني: فتح القدير 4/723. البغوي: معالم التنزيل 4/155. الزمخشري: الكشاف 4/282. أبوالسعود: إرشاد العقل السليم 5/560.ابن عاشور: التحرير والتنوير 25/317.

([15]) الطبري: جامع البيان 13/176.

([16]) الطبري: جامع البيان 13/176.

([17]) المصدر السابق نفسه والصفحة.

([18]) الزمخشري: الكشاف 4/282. أبوالسعود: إرشاد العقل السليم 5/560.

([19]) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 25/317.

([20]) سورة النحل آية (112).

([21]) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 14/306. الزمخشري: الكشاف 2/639. الألوسي: روح المعاني 14/243.

([22]) انظر: الشوكاني: فتح القدير 3/251.

([23]) سروة البقرة آية (126).

([24]) انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 2/117. الشوكاني: فتح القدير 3/140. الزمخشري: الكشاف 1/186. أبوالسعود: إرشاد العقل السليم 1/187.

([25]) سورة إبراهيم آية (35).

([26]) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/152. وابن عاشور: التحرير والتنوير 1/715. والألوسي: روح المعاني 2/38.

([27]) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 1/715.و الألوسي: روح المعاني 2/38. الشوكاني: فتح القدير 3/140.

([28]) الشوكاني: فتح القدير 3/140.

([29]) ابن عاشور: التحرير والتنوير 1/715.

([30]) السرب: بكسر السين هو النفس، وبفتحها: المسلك والطريق. انظر: ابن منظور: لسان العرب 1/462. والفيروز أبادي: القاموس المحيط 1/108. والمقري، أحمد بن علي: المصباح المنيرص103. والأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص405.

([31]) أخرجه الترمذي في صحيح الجامع 2346، وحسنه الألباني، انظر: الألباني: صحيح سنن الترمذي رقمه 1913. وفي صحيح الجامع الصغيررقمه 6042. وسلسلة الأحاديث الصحيحة 5/408، رقمه 2318.
وابن ماجة في سننه، كتاب الزهد، باب القناعة . وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة2/399، رقمه 3340.
وابن حبان في صحيحه: 2/445، رقمه 671. والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، 10/289.
والحميدي، أبوبكر عبدالله بن الزبير: المسند2/208، رقمه 439.

([32]) أخرجه البخاري في صحيحه، 1/13،كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، رقمه 10.
ومسلم في الصحيح بشرح النووي :كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل.

([33]) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن، وقال: حديث حسن صحيح. وابن بلبان: الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان 2/285. والهيثمي: مجمع الزوائد 8/183.

([34]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/99. وابن ماجة في سننه في المقدمة ، باب من جعله الله مفتاحاً للخير .