التحليل السيكولوجي للنغمة الموسيقية

أحمد حبصاين/تطوان
لعبت الموسيقى دورا إ يجابيا في تربية مشاعر وعواطف الانسان ؛ ثم قامت بتلطيف همجياته وساهمت في بناء حضارته الجبارة عبر مراحل التاريخ البشري منذ ملايين السنين .وقامت ايضا بتربية وتهذيب اخلاقه ؛ و أفادت في نمو عقله وجسده كما اشار الى ذلك الفيلسوف الاغـريقي افلاطون ( الموسيقى غــذاء العقــــــل و الرياضة بناء الجسم ).
في موضوعنا سوف نتطرق الى شرح العلاقة السيكولوجية التي تـخص الموسيقى . فهذه العلاقات تربط بين الموسيقى وعلم النفس كما توصــــل الى ذلك عالم الانتروبولوجيا Alain Merriam الموسيقـــــى لغـــة انسانية غير لغة الكلمات؛ لها وظائف بيولوجــــية ســيكولــوجــيـــــة وسوسيولوجية و بيداغوجية منها الكثير. وغير ذلك من الوظائف الأخرى كالتمثيل الرمـــزي؛ و النــــــــشاط الاجتماعي الذي يظهر و يكمن في المظاهر الخارجية التي تتــــجلى فــي الطقوس الدينية و الحفلات الشعبية .
سونقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيف نقوم بتشريح لمعزوفة بميكانيزمات سيكولوجية بواسطة الأداء اوالتفسير الموسيقي. وقبل بداية الاستماع لا بد أن أطرح عملية تبين لــنا طريقة (اوطوبيسية) للقطعة الموسيقية ذات دلالة نفسية مؤثرة والتي يتميز بها مؤلفها F.Tarrega بعنوان الدمعةLagrima :.
يعد مؤلف هذه المعزوفة من المؤسسين الأوائل للمدرسة الحديثة للقيثارة الأكاديمية؛ عاش في المرحلة الرومانسية التي ظهرت فـــيها قـوالــــــب واشكال موسيقيةجديدة و التلوين الصوتيChromatisme.اطلق عـلــيه بعض النقاد (عفريت القيثارة) لمهارة اصابعه التي تلعب على الأوتــــــار بسرعة شيطانية وباتقان يثير اعجاب المتلقي.
كتب طاريغا الدمعة في قالب prélude؛ بحركة معبرة وذلك تحــــت انامل العازف الذي يعيد خلقها في حين تنبعث نغمات شبـــــيهة بقطـــرات الدموع تحدث الحانا عاطفية تدخل في اعماق المتلقي.
و مدة زمنها 2د و 30 ث.لكن مفعولها طويل الأمد .و من الاسبـــــــاب الرئيسية التي جعلته ان يبدع هذا اللحن هو فقدان بنتيه. فتاثر تأثرا عميقا فعبر عن بكائه وألمه وحزنه عن الأسى الذي غمر وجدانه بكتابة هذه المعزوفة -الدمعة-. والمطلوب من المؤدي ان يُبلغ أحاسيس المؤلف الى المتلــــقي بصـور
جمالية وبمتعة حسية وبخيال يقود الى عالم الجمال.
بداية العمل ينشطر الى شطرين في النظام المقامي الكبير و الصغير ثم الى ثلاثة اقسام.
1-القسم الاول .A في مقام (مي.ك) Mi. M انطلاقا من نوطة صول# مقامية في درجتها الثالثة‘ فهي نقرات تصاحبها نوطة على الوتر Si في حد ذاتها تحاكي قطرات الدموع ‘ بما تحرك انفعالاتنا مداعبة بخيالنا.
حينها تقوم ذاكرة العازف بتوجيه اصابعه باستدعاء ما كان يدرسه أو يسمعه في إعادة خلق اللحن الذي يقوم بأدائه.
وأما المتلقي فينسجم مع ظروف مختلفة للذاكرة وارتباطاتها النفسية والفيزيولوجية وسرعة تجاوب جهازه العصبي. فالخبرات التي يكتسبها المستمع بواسطة الموسيقى تلعب الدور إلهام ليس في متعة ثقافية فحسب ‘ بل أيضا تمثل اساسا لتشكيل مستويـات ذوقه وإحساسه بالحضارة والفن والتاريخ.
حينما يعاد اللحن الأساسي مرة ثانية يضفي عليه تلوينا يختلف عن الأداء الاول حتى يشعر المتلقي أن هناك تمايزا في النغمة بين الاداء الاول والثاني‘ بما ينجم عن ذلك انطباع عقلي مصحوب بالخيال.
من هنا تقوم الدوائر العصبية بالعمل على ترديد او ترجيع اصداء الاصوات فتجعلها قادرة على انتاج التغيرات في كمياء المخ . بمعنى ان المتلقي والعازف انفعلت حواسه لإبراز مهارة الإدراك والإبهار عند الاول ومهارة الاداء عند الثاني.
إن علم النفس يقدم تفاسير عدة للفنانين المؤدين من اجل مزيد من الفهم لأنفسهم وكذلك لبلوغ مرتبة عالية في الاداء حتى يمكن لعلم النفس ان يتفحص العلاقة بين المؤدي والمتلقي. لكن على العموم دائما يسعــــــــــى المتلقي إلى ما هو اجمل ليسعده ويشعره بالبهجة وراحــــــــــــة
النفس و الطمأنينة.
من هنا ومن هذاالمفهوم يقوم المؤدي المفسر بدور psychologue. لمعالجة هذا الموقف وذلك بعملية جد مريحة في التعبير الفني حتى يمكن للمتلقي ان يحس ويشعر باسترخاء خياله نحو فضاء واســـع ومن هنا تقوم وظائف الجسم بالاستجابة الى الجمال الروحي عن طريق السمع والبصر التي تقوم بعملها ميكانيزمات طبقات المخ بإفـــــــراز كيميائي ينتشر في الجهاز العصبي بعد ما قام به من جهد لفهم واستيعاب
مغزى نص اللحن. فتدخل هذه العملية في وظيفة الإثارة ‘ كما وصف عالم النفس Goldstein. هذه الظاهرة بالعملية الإثارية ؛ فيصف نوعها وذلك بإحساس خفيف بالوخز يتمركز في مؤخرة العنق ثم يتلاشى بسرعة
وأما الإثارية القوية تستمر وقتا طويلا ‘ تبدأ من نقطة البداية وترتفع الى ما فوق فروة الرأس وتتقدم نحو الوجه فتهبط خلال العمود الفقري وتتجه صاعدة نحو الصدر والبطن والفخذين والساقين وقد تصاحبها قشعريرة يمكن رؤيتها على الوجه ‘ ويمكن ان تحدث بكاء اولي او تنهد عميق. وبذلك يفرز المخ مادة (إندروفين)تكون متضمنة في خبرة الاثارة عند سماعنا للحن او الجملة الموسيقية الوجدانية والشادية.
يعود بنا المفسر الى عالمه الابداعي في الاداء فيقدم ترجمة ما نسخها المؤلف ‘ و ذلك بمحاولات إبراز شعور الكومبوزيطور الذي سـطــره بالرموز عالى البارتيسيون.
فسر فرويد الإدراك او التذوق في مجال الفنون على انه مصدر المتعة الفنية التي يحصل عليها المتلقي ‘لكنها تكمن في اللاشعور .
والجدير بالذكر حين نزل (طاريغا) الى الأصوات المتــــــناســـقة في الطبقات العليا باستعمال نوطة (مي) الحادة بثلاث ثامنات مرصفة بجوابها كأساس ‘ ومنقورة كزخرفة البناء الفني‘ فإنه قد تحول الى جوهر العمــــل الموسيقي في التقنية والأداء ببنيان مرصوص نحو الاستكمال اللحــــــني المؤدي الى نهاية المقام باستخدام شاعرة المقام )كروماتيكيا( حتى يصل الى المقام المجاور دون ان يخدش شعور المتلقي ‘ وفجأة يعــــــود الى المقـــام الأصلي في نهاية المعزوفة.
إذا لاحظنا ‘ وتتبعنا المعزوفة بكل شعورنا وحاسة سمعنا؛ وتركيزنا الذهني بعيد عن كل المؤثرات الخارجية ‘ سوف نقترب الى الوصول نحو الارتفاع بعملية سوسيولوجية تتوحد وتتماهى فنصل الى ما هو اســــمى
كسحر الشخصية charme.التي تسيطر عليه روح الأنغام وقوة حضور أداء المترجم l'interprète ؛ حينئذ تتجلى بوضوح تام وتسطع الأنوار وهاجة في عملية (idolâtre ) بالولع والإعجاب الشديد. في النهاية نقف في التيسير الجماعي.
كل هذه الظواهر والعلامات انما هي اعراض سيكولوجية يفسرهــا علماء النفس بخبرات وتجاوب تحليلية كما قام بها عالم النفس Haver حينما فسر بعض التناظرات الموسيقية الواضحة مع الاشياء الخارجية
كما ذكرنا سابقا في النغمات المرتفعة مقابل النغمات المنخفضة. لكن تناظرات أخرى تكون اكثر رفاهة و دقة في حالة فهمنا ان السلم الكبير يكون لامعا مفتوحا رحبا بينما السلم الصغير يكون حزين كئيب غامض. هذا الإبداع الموسيقي المنبثق من اعماق (طاريغا) في تأليف الدمعة لا شك أنه سيسيطر بصورة او بوجهة اللاشعورية من حيث الجودة الميلودية وسهولة في السماع؛ واما بالنسبة للمؤدي فإنه واجه صعوبات
في التقنية الميكانيزمية على اوتار القيثارة حتى يتمكن له ان يؤديه في شكل جيد وجميل يروق المتلقي ‘ فهي عملية غير لفظية تتم بانفعـــالات انتقالية الى حاسة السمع.
كلا من الموسيقى والانفعال يرتبطان معا بطريقة بيولوجية معينـــة مبرمجة في المخ مع الاشكال المكانية-الزمنية.
2- الجزء الثاني من قسمB سوف يستهوينا اللحن بانزلاق نوطة (صول طبيعية) بدلا من صول # في المقام الكبير (مي‘ك) نحو نوطة (دو طبيعية ) مشكلة نغمة منحدرة الى شاعرة المقام التي ينجـــــم عنها
ازدواجية الانغام باصوات متناسقة الى درجة الدومينانت بعدها الى درجة الطونيك معبرة عن التفاعل اللحني و الصراع النغمي.
قفز بنا المؤلف من مقام كبير الى مقام صغير‘ لكن لم يحدث اي انهيار او اهتزاز سمعي‘ بل سلك مسلكا خاليا من كل مخاطر القواعد العلمية الموسيقية العالمية‘ ثم حافظ على احاسيس المتلقي حتى لا يشعر بالضجر
والاحباط النفسي.
كلا من المؤلف والمفسر أي العازف اجتازا هذا المسلك بذكاء ومعرفة ووعي لإبراز إلهامهما الفني في المعزوفة ‘ و لإلهام كما فسره علماء النــــــفس علميا هو الذي يحفظ الثقافة والخبرات والقدرات في العقل الباطن للفنان.
لعل الخيال يقودنا الى عالم فسيح تسبح فيه أفكارنا لنسج فكرة فهم مغـــزى الدمعة اكثر دقة‘ وما يقصده المؤلف وما يترجمه المفسر على القيثارة.
من خلال هذه المعطيات ستنير امامنا أضواء وتظهر الالوان وتتوضح الأصوات؛ فالعلاقة بين الصوت و اللون وهي ارتباطات وجدانية تواصلية عن طريق سيكولوجي ومدلولات فيزيولوجية تخضع لظاهرة سيناستيزيا
أي العلاقة في التزامن بين الصوت واللون‘ فالعقل هو جهاز الاستقبــال والتحكم والربط والتنسيق والتوحيد.
فالموسيقى هي حركة في الزمن تحول الصورة الساكنة في الفراغ الى رؤية موسيقية. إنها رؤية جمالية ذات إحساس كامل متحرك ومعبر.
تتفاعل حواسنا في تتبع الخطوط الميلودية في تكامل هارموني وإيقاعي بمصاحبة تبرز النبضات المميزة داخل النص اللحني بما أضفي علـــــيه من تلوين تعبيري متمثل في الضوء والظل الخافت المتشكل في طبــــقات معتدلة أو وسطية بينما تتوهج في الطبقات العليا.
كل هذه العناصر الصادرة تنتج بواسطة العقل والخيال حيث لا يكون سليما إلا بالعقل السليم والعلم. بمعنى اكثر وضوحا الدمعة أبدعت بعقل واع سليم؛ وتفسر بإحساس وتعبير وعقل محرك واع سليم. فالموسيقى إذن فن العقلاء بل هي قمة الفكر. اما الحس فما هو سوى انطباع عقلي مصحوب بالخيال. والإلهام المجرد من مراجعة العقل؛ وأنه جنون ومرض وتخلف .
3- في النهاية يعود الى العرض الاولA في المقام الاصلي للتــأكــــيد على ضرورة ترسيخ مفهوم الدمعة.
فالمتلقي ذو إحساس رهيف وذوق رفيع وتربية فنية تنفعل احاسيســه وتقشعر نفسه وجسده ؛بما أدى به أحساسه الى تنشيط النصف الأيمن من المخ يقوم بابتكار الخيال الذي ينتج بعض الترابطات المتصلة فــــــي التركيبات الخيالية بين ألوان ساخنة وباردة حينها تنشأ مميزات تـُــــــبرز جماليات المعزوفة بين اللون الأحمر والأزرق والأرجواني.

أحمد حبصاين

http://maakom.com/site/article/5603