كان طريقاً قصيراً.
بيد أن له في نفسي امتداداً يسع النجوم والأفلاك جميعها.
منه طريق يصله بثانويتنا التي قضينا بها دلاء العمر المسكوبة في قوارير السحر، وزقاق ممتد على مساحة ليست بالقليلة فيه بوابة خلفية لجامع الشيخ محيي الدين بن عربي ، تقابلها مساحة مكشوفة تمتد بعين الناظر إلى وسط دمشق، فإذا سكن الليل برزت منها المدينة الرقيقة غادةًَ ليلية تغازل حصان الشاعرية المجنح العابر فوق أضوائها القاذفة في الصدر من الأثر ما لا يملك أكثر الخلق الغبانة عنه بالكلمات.
كان الشتاء إذا ما حل على الزقاق تلبدت سماؤه بغيوم ملكية لا كالغيوم، كت أصيخ لها السمع فيهلّ علي صدى ترنيمة شرقية مقدسة، وتختلط مراهقتي الجبرانية بأيام عبوري للزقاق جيئة وذهاباً مرات في اليوم، فتصنع أسراً من الشعور تكاد تتمزق منه ذاتي تدفقاً.
وفي صيفه، إذا ما امتلأت الشوارع بالسائرين ليلاً، كان لي معه ألف حكاية وحكاية عند ذلك السياج الحديدي الذي تنكشف منه دمشق عارية القلب، ألف حكاية من أشواق ذاتي التي طالما بثثتها عند ذاك الموقف لليل الحبيب، فكم سمعته يناجيني ويهدئ من روعي ويلهمني الكثير والكثير.
ألف حكاية لي من الزقاق، مع رفاقنا الذين كانوا صحبتنا عند العودة من المدرسة عابرين إياه، مختصمين تارة ومصطلحين طوراً، مجتمعين حيناً ومفترقين آخر، حتى كان آخر عهد اجتماعنا به أن عبرناه لنقدم امتحان شهادة الثانوية العامة التي أسلمتنا من بعد إلى الجامعة.
ولفيروز حكاية مع الزقاق أيضاً، حكاية مع أغنيتها (طريق النحل) التي كنت أحسبها ما غنتها إلا له، لما من تطابق بين وصفها لذاك الطريق وبين حال الزقاق في نفسي، وإن كان ما سميته نحلاً من زنابير ملتئمة عند نهاية الزقاق لا يشابه بحال نحل فيروز الذي قصدته.
لكنْ... بعد لأي حُفرت أجزاء من الزقاق، وراحت آلات كرؤوس الشياطين تهوي بالأبنية الحجرية بنات مئات السنين لتقيم مكانها شاهقات إسمنتية توحي بالحاضر وما ينوء به، ومن طريقنا الذي كان يتسع لنا ونحن أربعة و خمسة بات مؤخر الزقاق معبراً صغيراً لا يستقيم لشخص واحد، وغاب الرفاق الذين كان الطريق يضمهم غدوة وروحة ساعين كل إلى وجهته، فلم يدع لنا دهرنا من أيامنا تلك غير أشتات ذكريات وبعثرات من أغاني فيروز ولا سيما طريق النحل.
أفهذا قدرنا؟؟؟ أن يغادرنا من نحب دوماً عند مفترقات الطرق، وأن تؤول أجمل أيان العمر هباء منثوراً لا حياة له إلا في قلوب راعي الود وأصحاب القلوب الحية، وأن تُعفي الأيدي الحجرية الفاقدة كل شعور منازل ذكرياتنا ومواطن ألقنا فلا تهتز، لتتبدد اللحظات الحلوة وتمسي خيالاً سحرياً كصباح ربيعي لا يستشعره إلا أصحاب الأنفس الحساسة.
وعسى أن لا يكون أولئك قليلاً.